إنفلونزا الخنازير تصيب الإعلام الفرنسي بعدوى التهويل

أفردت الصحف والقنوات التلفزيونية مساحات شاسعة للتحذير من عدوى المرض

وزيرة الصحة الفرنسية تعرض عبر وسائل الإعلام ملصقاً لكيفية التعامل مع إنفلونزا الخنازير (رويترز)
TT

منذ الأسابيع الأولى لانتشار إنفلونزا الخنازير أو ما تعرف علميا بـ (H1N1) والإعلام الفرنسي ماض في تغطية تطوراته بكثافة وإسهاب، حيث تصدرت أخبار هذا المرض الصفحات الأولى للصحف ونشرات الأخبار. فكتب الصحافيون والمدونون بغزارة منذ البداية عن حالات الإصابة الأولى في المكسيك، وعن إنذار منظمة الصحة العالمية، ثم عن الإصابات وحوادث الوفاة الأولى في فرنسا. كما احتلت مشاهد مصالح الاستعجالات المكسيكية والأقنعة الواقية افتتاحيات النشرات الإخبارية والصفحات الأولى للصحف.

صحيفة «لوموند» مثلا كتبت ما لا يقل عن 300 خبر ومقال حول هذا المرض منذ نهاية شهر أبريل (نيسان) بمعدل مقالين في اليوم، 15 منها تصدرت صفحة الغلاف، وثلاثة شغلت العمود. أما صحيفة «لوفيغارو» القريبة من تيار اليمين هي الأخرى أسهبت في نقل أخبار إنفلونزا (H1N1) وكتبت منذ ظهور المرض أكثر من 172 مقالا. كما اختارت أن تخصص لهذا المرض الجديد ملفا كاملا به لكل ما يحتاج القارئ معرفته من معلومات.

وكانت الصحيفة قد حققت مبيعات قياسية بنشرها لخبر إصابة إحدى صحافياتها المتدربات، حيث أفردت لها صفحة كاملة لتروي فيها قصتها مع المرض.

قناة (تي.أف.1) الخاصة خصصت منذ الرابع والعشرين من شهر أبريل (نيسان) 2009 تاريخ ظهور أولى الحالات أكثر من 20 افتتاحية لهذا الموضوع، معظمها شغلت حيزا كبيرا، كنشرة 30 أبريل (نيسان)، والتي استغرق الحديث فيها عن إنفلونزا الخنازير 28 دقيقة، علما بأن النشرة الإخبارية كلها لا تدوم أكثر من 35 دقيقة.

نفس الوضع بالنسبة لوسائل الإعلام الأخرى التي تناولت موضوع إنفلونزا (H1N1) بصفة يومية ودون انقطاع لمدة 3 أسابيع منذ ظهور أولى الحالات.

ظهور هذا المرض كان أيضا مناسبة أثبتت فيها وسائل الإعلام براعتها في أداء دورها البيداغوجي. فكانت رسائل التوعية والتحذير وكيفية الوقاية من المرض طاغية على كل المواد، حيث تناقلت الصحف والقنوات التلفزيونية مرارا شهادات الخبراء والباحثين عن طبيعة هذا المرض واحتمال الإصابة به (أعراضه وكيفية الوقاية وسبل العلاج). كما أنها تشارك منذ 25 أغسطس (آب) في حملات التوعية التي تنظمها وزارة الصحة تحت شعار «فلنوقف إنفلونزا الخنازير» وتتمثل في بث تسجيلين مدتهما دقيقتان باتجاه التلفزيون وثلاثة من 30 ثانية باتجاه الإذاعة، إضافة لمساحات مختلفة في الصحافة المكتوبة والإنترنت هي عبارة عن مجموعة إرشادات ونصائح للوقاية.

وإن كان الإعلام التقليدي قد ركز على التوعية وتجاوب مع الجهات الرسمية والسياسية التي اعتمدت عليه في هذه المهمة البيداغوجية، فإن الشبكة العنكبوتية كعادتها قد ازدحمت بالمواقع والمدونات التي تروج للإشاعات ولنظريات المؤامرة، فراحت تستبدل المعلومات الرسمية المتعلقة بظهور المرض بأخرى تقول إنها «أكثر مصداقية» فمنهم من نسب ظهور المرض لمختبرات أميركية تقول إنها أطلقت فيروس (H1N1) لتحقيق أرباح مالية، ومن يقول إن الفعلة مقصودة لحصد الضحايا والتخفيف من الانفجار الديمغرافي.

نظرية أخرى انتشرت على الإنترنت ترجع ظهور الفيروس إلى مؤامرة لاغتيال الرئيس الأميركي باراك أوباما، على أن الاستثناء الوحيد جاء من الشبكة الاجتماعية «تويتر» التي تناولت الموضوع بعقلانية أكبر وشكلت مصدر معلوماتي ثري، فكانت تعرض متابعة دقيقة لتطور المرض في العالم بواسطة خرائط ملونة، معتمدة على مصادر جادة وموثوق بها مثل «سي دي سي إمرجنسي» و«هيلث ماب».

الدقة والتفاعل الذي ميز تغطية «تويتر» لانتشار إنفلونزا (H1N1) زاد من إقبال مستعملي الشبكة عليه، فكان محرك بحثه الداخلي يسجل أكثر من 180 إلى 200 إحداثية «تويت» في الثانية لكلمة إنفلونزا الخنازير.

لكن نجاح وسائل الإعلام في مهمة التوعية والتنبيه لم يمنعها من الوقوع في فخ التهويل والتعتيم الإعلامي. فقد كتبت «لوموند» في عددها الصادر في 25 أبريل (نيسان) في الصفحة الأولى وبالخط العريض «استنفار عالمي لمواجهة فيروس إنفلونزا جديد».

المقال المطول الذي تربع على صفحتين كاملتين، حمل لهجة الترويع وحوى عدة مرات على كلمة «استنفار» و«خطر» و«فيروس قاتل». كما تحدث كاتبه الصحافي إيرفي موران عن عدد محدد من الضحايا، متجاهلا ذكر التضارب الكبير الذي وقع بين مختلف الهيئات الصحية في مسألة تحديد عددهم، ومتناسيا التذكير بأن معظمهم كانوا يعانون من مشاكل صحية سابقة للمرض. الصحيفة المعروفة عادة بجديتها في نقل المعلومات ذهبت إلى أبعد من ذلك حين تحدثت في صفحتها الأولى في عدد 14 يونيو (حزيران) عن انتشار ظاهرة حفلات إنفلونزا (H1N1) التي ينظمها مراهقون لنقل عدوى المرض لأصدقائهم في كل من بريطانيا والولايات المتحدة، ودون تقديم أي شهادات أو معلومات دقيقة، استرسل كاتب المقال في استجواب خبراء نفسيين عن الدوافع وراء هذا التصرف، إلا أنه تبين فيما بعد أن هذه المعلومة هي إشاعة لا أساس لها من الصحة، انطلقت من مجرد مزحة بين مجموعة مراهقين كتبت عنها صحيفة «الإندبندنت» البريطانية ونقلتها الصحف الفرنسية على أنها «ظاهرة جديدة» دون أن تتأكد من صحة ذلك.

كثير من الهلع أصاب أيضا مشاهدي القناة الأولى (تي.أف.1) حين اكتشفوا أن نشرة الثامنة يوم 30 أبريل (نيسان) قد وضعت تحت شعار «استنفار إنفلونزا (H1N1)»، وهو الشعار الذي وضع أسفل الشاشة بشكل يثير الانتباه ويضاعف من إحساس المشاهدين بخطورة الوضع.

تدخلات مقدمة النشرة لورانس فيراري جاءت هي الأخرى في نفس الاتجاه، حيث ذكرت مرارا عبارة «القلق» و«الخطر» وذهبت لحد وصف تطور المرض في فرنسا بـ«الوباء» في الوقت الذي لم يكن فيه عدد الضحايا آنذاك يتجاوز الأربعة. وهو الخطأ الذي سارع بتصحيحه الخبير الصحي الذي كانت تحاوره، مذكرا إياها بأن «الوباء» أو «الجائحة» لا يكون بهذا العدد المحدود. وبنفس لهجة التهويل، افتتح دافيد بوغاداس، مقدم الأخبار في القناة الثانية (فرانس 2) نشرة الثامنة مساء يوم 2 مايو (أيار) بعبارة: «كما هو متوقع فإن إنفلونزا (H1N1) تواصل انتشارها، وها هي تصل إلى فرنسا، أين وصل عدد الضحايا إلى أربعة». وهي الجملة التي أثارت الكثير من الهلع عند المشاهدين، في الوقت الذي كان فيه وضع المصابين الأربعة مستقرا ولا يستدعي القلق.

وقوع وسائل الإعلام في فخ التهويل والمبالغة في تغطيتها لظهور إنفلونزا (H1N1) جعلها عرضة لكثير من الانتقادات. أهمها تلك التي جاءت من مجتمع الأطباء والباحثين الذين رأوا بأن اهتمام الصحافة والإعلام بهذا المرض مبالغ فيه. فقال البروفسور برنار دوبري، وهو طبيب مشهور ونائب برلماني أيضا: «إن ما يفعله الإعلام الآن هو زرع الرعب في أوساط الناس، فإنفلونزا (H1N1) أقل خطورة من الإنفلونزا الموسمية، وإن كان السياسيون ملزمون بالتحرك السريع لتفادي كارثة صحية، فإن تغطية الصحافيين يجب أن تكون هي أكثر عقلانية لكي لا تثير الفزع في قلوب الناس».

أما الدكتور أنتوان فلاؤو، خبير الأمراض المعدية ومدير المدرسة العليا للصحة العمومية فيقول «إن تغطية وسائل الإعلام ساهمت سابقا في تقليص خطر انتشار مرض معدٍ كـ «السراس» ولكن هل يبرر هذا كل هذه الضجة الإعلامية، خاصة أن المرض أقل خطورة هذه المرة».

يذكر أن فرنسا كانت البلد الأوروبي الوحيد الذي خص إنفلونزا (H1N1) بهذه التغطية الإعلامية الواسعة، فالصحافة البريطانية مثلا لم تهتم كثيرا بهذا المرض ما عدا في الصيف وبالذات في شهر يونيو (حزيران) وأين سجل وقوع عدد كبير من الإصابات في هذا البلد. نفس الوضع بالنسبة لألمانيا تجنبت الصحف التركيز على انتشار هذا المرض، حيث اكتفت يومية «بيلد» بتخصيص افتتاحيتها لأول حالة سجلت في هذا البلد. وفي الدنمارك الذي عرف ظهور أكثر من 500 حالة تم تنظيم حملات توعية واسعة في وسائل الإعلام لكن تغطية الصحف والتلفزيونات بقيت بعيدة عن لهجة التهويل.