سائق أجرة سابق يحصد جائزة أفضل برنامج وثائقي في بريطانيا

جمال عثمان لـ«الشرق الأوسط»: وصلت إلى لندن لاجئا من الصومال بجواز سفر مزور

جمال عثمان أثناء تسلمه جائزة أفضل برنامج وثائقي إجباري في بريطانيا («الشرق الأوسط»)
TT

ليلة توزيع جوائز الصحافة الأجنبية التي احتضنتها لندن الأسبوع الماضي كانت مميزة بالفعل، ففي كل عام تصل إلى مرحلة النهائيات قصص تلفزيونية وإذاعية ومكتوبة يصعب على لجنة التحكيم الاختيار فيما بينها، نظرا إلى قيمتها وجديتها، والمهنية العالية التي يتمتع بها الصحافيون الذين يقفون وراءها، إلا أن القصة التي سرقت الأضواء هذا العام كانت قصة الصحافي الصومالي جمال عثمان الذي فاز مع فريق مؤلف من صحافيين بريطانيين بجائزة أفضل برنامج وثائقي إخباري عن الصومال بعنوان: «Somalia: UN World Food Programme: Theft and Corruption».

وعندما قام الصحافي نيك ستوردي بتسلم الجائزة نيابة عن فريقه، قال إن الجائزة لا يستحقها إلا جمال عثمان الذي كان له الفضل الأول والأخير في تحقيق هذا البرنامج الذي كان له وقعه في بريطانيا بعد عرضه على القناة البريطانية الرابعة، والذي يحكي عن معاناة الشعب الصومالي، بالإضافة إلى الفساد والجوع وبرنامج الغذاء التابع للأمم المتحدة.

وذكر ستوردي أن رحلة العمل مع عثمان بدأت من سيارة الأجرة التي يقودها في شوارع لندن، وهذه القصة كانت لقطة مهمة للتعرف على هذا الشاب الطموح، الذي تبين فيما بعد أنه كان سائق تاكسي في لندن، وتحول بعدها ليصبح أحد ألمع الأسماء في عالم الصحافة المتخصصة بشؤون شرق أفريقيا.

«الشرق الأوسط» التقت جمال عثمان (29 عاما) بعد يوم من تسلمه الجائزة، وهنأته على نجاحه، فكان رده: «إنها البداية»، فهو شاب لا يمكن وصفه إلا بالطموح، والنضج يشع من عينيه، فقد يكون صغيرا في السن إلا أنه، وبحسب ما قاله، لا يشعر بأنه يافع، فالحياة في الصومال علمته دروسا لا يمكن تعلمها في المدرسة وساعدت في نضوجه مبكرا، فما رأته عيناه على مدى الـ19 عاما التي عاشها مع عائلته في الصومال خلال الحرب الأهلية لا يمكن أن تغيب عن ذاكرته، ورحلته من مقديشو إلى لندن كانت رحلة عمره التي لن ينساها ما دام حيا.

بدأت الرحلة في عام 1999، على متن حافلة أقلته مع شبان آخرين عانوا من قسوة الحروب والقتل في الصومال، انطلقت من مقديشو باتجاه كينيا، ومنها إلى جنوب أفريقيا، وصل بعدها إلى بلجيكا، وكانت النهاية في لندن، حيث تم تهريبه إليها لقاء مبلغ 8500 دولار أميركي أرسلها له أخوه، الذي كان قد سبقه إلى لندن من قبل.

ويصف جمال عثمان لحظة وصوله إلى لندن وفي يده جواز سفر أوروبي يحمل صورة شخص يشبهه، حصل عليه من قبل الجهة التي جهزت له عملية تهريبه إلى لندن، وكانت لحظة مروره عبر جهاز الأمن والتفتيش أشبه بدهر، وعندما وطئت قدمه أرض لندن وأعاد جواز السفر إلى المهربين أدرك أن هذه هي نقطة الانطلاق ومن هنا سوف يبدأ المشوار.

وروى عثمان لـ«الشرق الأوسط» أنه عندما وصل إلى لندن لم يكن ينطق بكلمة إنجليزية واحدة، فكان أقرب إلى الأمية من الثقافة أو الصحافة، فدراسته في الصومال لم تتعد المرحلة الابتدائية التي قطعتها الحرب، التي أرغمته على التخلي عن الدرس واستبدال الحصص المدرسية بغسيل السيارات والأطباق وتنظيف الأحذية، ابتداء من سن الـ11 لتأمين الأكل لعائلته المؤلفة من 4 إخوة وأخت إلى جانب والدته.

عمل جمال عثمان في بادئ الأمر في لندن حمالا في أحد المستودعات، إلا أن هاجس العلم لم يغِب عن باله، فتوجه إلى إحدى مدارس العاصمة البريطانية وشرح للمعلمين وضعه وأظهر لهم شغفه بالتعلم والعلم، فاستقبلوه بالترحاب، وأمضى وقته بين العمل في المستودع والمدرسة والمكتبة.

ويذكر عثمان أنه عانى كثيرا في المرحلة الأولى، فكان في البداية من الصعب عليه التركيز وقراءة أكثر من 5 كلمات، وبعدها اجتهد وحصل على شهادة الثانوية، وفي نفس الوقت حصل على رخصة قيادة خولته العمل على سيارة تاكسي في منطقة فولهام اللندنية، ويقول إنه في حينها انتابه شعور بالرغبة في الكتابة بالإنجليزية، واكتشف حبه لمهنة الصحافة.

وعما إذا كان يحلم بأن يصبح صحافيا منذ أن كان طفلا صغيرا يلعب في شوارع مقديشو، قال: «الأطفال في الصومال ليس لديهم أحلام، فهمّهم تأمين غذائهم وغذاء ذويهم والبقاء على قيد الحياة».

وفي عام 2005 قرر جمال عثمان أن يدرس الصحافة، فانضم إلى جامعة كينغستون للصحافة، وبعد عام من الدراسة فاز بجائزة «تلميذ العام»، فكان يذهب إلى الجامعة خلال النهار ويعمل على سيارة الأجرة في أثناء الليل، وقال إن هذه المهنة كان لها الفضل في تحوله إلى صحافي بارع، «فقيادة السيارة تفتح عينيك على ما يجري من حولك»، فكان يراقب الطرقات وكانت تلقط عينه الأفكار الجديدة.

وأوضح عثمان أنه كان يلحق دائما بسيارات الإسعاف والإطفاء والشرطة، لأن من شأنها أن تقوده إلى قصة يمكن الكتابة عنها، فطرق باب الصحف المحلية في منطقة وونزوورث، وراح يكتب لهم من دون أي مقابل مادي، مفيدا أنه كان في غاية السعادة عندما نشرت إحدى الصحف قصة كتبها، ولم يكن يصدق أن اسمه مكتوب في أعلى القصة.

وروى جمال كيف حمل الصحيفة على مدى أسبوع وبعث منها نسخة إلى أهله، وراح بعدها يكتب عن أي شيء يراه، في بعض الأحيان كانت تنشر القصص وفي أحيان أخرى كانت ترمى في سلة المهملات.

لكن جمال لم يتوقف عند هذا الحد، فوسع من نشاطه وراح يبعث إلى كل الصحف حول العالم عارضا عليهم قبوله كصحافي متعاون، وتم قبوله في صحيفة «Mail and Guardian» ومقرها في جنوب أفريقيا، التي طلبت منه قصة عن حقوق الإنسان في إثيوبيا بالمشاركة مع «منظمة العفو الدولية»، كونه يعرف المنطقة جيدا لأنه عاش فيها في فترة الحرب مع عائلته في منطقة دوبليه الواقعة ما بين الصومال وكينيا، وتخضع لسلطة حزب الإسلام، فذهب إلى هناك وكتب القصة.

من هذه القصة كانت نقطة التحول في حياة جمال عثمان، فراحت الاتصالات تنهال عليه من جهات مختلفة، وكان من بين تلك الاتصالات مكالمة من الصحافي والمنتج نيك ستوردي الذي كان يحضّر لبرنامج إنساني عن الصومال، فطلب منه المساعدة في تجميع المعلومات والبحث، غير أن عثمان عرض على ستوردي السفر إلى الصومال وتنظيم الرحلة بنفسه ومقابلة الناس ونقل معاناة الشعب الصومالي بمن فيهم معاناة الأطفال، خصوصا أنه عمل على تعزيز علاقاته مع جهات وميلشيات مختلفة ويدرك كيفية التعاون مع كل فئة وحزب. وعن علاقته بالأحزاب المتفرقة في الصومال وخطورة التعامل معها يقول عثمان: «الخطر موجود، إلا أنه من المهم جدا إدراك كيفية التعامل مع تلك الجهات، فجميع الأفلام الوثائقية التي قمنا بتصويرها، إن كان في الصومال أو في إثيوبيا أو إريتريا، كلها محفوفة بالمخاطر، فمن المهم أن تشعر أعضاء الميليشيا أو الحزب بالثقة في التعامل معك كصحافي».

وأضاف عثمان بأنه يجب على الصحافي أن لا يعطي رأيه، بل نقل الحقيقة والواقع للقراء والمشاهدين من دون تحريف الواقع، ففي أثناء تصويره برنامجا وثائقيا للقناة الرابعة، شعر بتصرفات غريبة من قبل بعض أعضاء الحزب الذي كان يرافقه في رحلته، فاضطر إلى تغيير وجهته وتبديل تفاصيل البرنامج حفاظا على سلامته.

ويروي عثمان أن عمله محفوف بالخطر إلا إنه طالما كان يسعى ليكون صحافيا عالميا وليس محليا، فهو يحمل الجنسية البريطانية إلا أنه لا يتنكر لأصله الصومالي، ويقول إن لندن فتحت له الأبواب للانتشار عالميا، وحصوله على الجائزة مهم جدا، وأضاف:« لقد قطعت شوطا كبيرا في مشواري الصحافي القصير والمثمر في بريطانيا، فلا تنسَ أنني لم أملك أيا من المقومات التي تجعل مني صحافيا لامعا في بريطانيا»، ملمحا إلى مسألة العرق والطبقة الاجتماعية.

وعن الثقة مع الأحزاب يضيف عثمان بأنه على علاقة مع جميع الأحزاب والميليشيات، وحتى القراصنة، وقام منذ نحو أسبوعين بالتفاوض معهم في شأن اختطاف الزوجين البريطانيين، بطلب من القراصنة أنفسهم، غير أن القضية لا تزال عالقة بين الحكومة البريطانية والقراصنة.

وعن تنظيم برامج العمل يقول عثمان إنه يضع مخططا لكل عمل ينوي القيام به، ويتم اللقاء مع الجهات المنتجة في لندن، وهو يقوم بتصوير البرامج وكتابة النصوص والتحرير بنفسه، كما يقوم بتنسيق المقابلات قبل الذهاب إلى الجهة المعنية، ويستغرق تصوير أو كتابة كل قصة نحو 9 أسابيع في بعض الأحيان، ويتم الاتفاق مع الأحزاب المسؤولة عن كل منطقة على مضمون القصة ويتم العمل تحت إشرافهم.

ويقيم عثمان في أثناء إنتاجه أي عمل في فندق بوسط المدينة، ويتوخى الحذر أكثر من المناطق النائية، ويضرب مثالا بمقديشو، ويقول إنها أكثر أمنا للصحافيين من باقي مدن الصومال النائية، وذلك لكثرة وجود وسائل الإعلام العالمية فيها، وتعوّد المسؤولين فيها على التعامل مع الصحافيين، لذا يجب دائما توخي الحذر أكثر في المناطق البعيدة وفي الجبال.

ويتكلم جمال عثمان عن عمله الذي فاز عنه بجائزة، ويقول إن تصويره تم في الصومال، وكان لا بد من معرفة الجهات التي يتم التعامل معها، فتتقاسم قيادة الصومال عدة أحزاب، لذا يجدر بأي صحافي معرفة هذا التقسيم والتنبه إلى مسألة التعامل إن كان مع حزب الإسلام أو الشباب الذي قام بمقابلة قائده حسن تركي، وهذا دليل على العلاقة الطيبة التي تربطه بالحزب وباقي الأحزاب التي تتعامل معه على أنه صحافي دولي، ينقل الصورة كما هي ولا يتدخل في التفاصيل ولا يعطي رأيه فيها.

وعن المستقبل يقول جمال عثمان بأنه يحضر حاليا لبرنامج وثائقي وقصتين مكتوبتين لصالح صحيفة «الغارديان»، كما ينوي كتابة قصة عن أنغولا يركز فيها على القضايا الإنسانية، لأن هذا الجانب من أي قصة يبقى الأهم والأكثر تأثيرا في القارئ أو المشاهد في جميع أنحاء العالم.

وعن وضع عائلته الحالي في الصومال يقول عثمان إن الوضع جيد، وهو يتكفل بجميع مصاريف العائلة، فمهنته كصحافي متعاون تدر عليه مبالغ جيدة من المال لم يكن يحلم بأنه سوف يتقاضاها في حياته.

وبعد حواره مع «الشرق الأوسط» قال عثمان: «شكرا لكم على المقابلة، والآن حان الوقت لأن أذهب إلى أساتذتي في الجامعة لأبلغهم بخبر فوزي بالجائزة. فنيك ستوردي قال إني أنا من يستحق الجائزة، إلا أنني أرى أن الجائزة هي من حق أساتذتي الذين كان لهم الفضل في تعليمي وتحقيق حلمي الذي راودني في الكبر، لأنه، وكما ذكرت سابقا، أطفال الصومال لا يحلمون».