في الضفة.. انتقاد السياسة أسهل من البحث في قضايا الفساد والاقتصاد والمجتمع

استهداف صحافيي حماس ساعد على نشر «ثقافة الخوف»

شهدت الضفة العديد من الصدامات بين الصحافيين ورجال الأمن (أ.ف.ب)
TT

تلاحق الأجهزة الأمنية في الضفة الغربية كل صحافي مشتبه في أنه ينتمي إلى حماس أو مقرب منها، أو يعمل مع وسائل إعلام تابعة لها، وتبدو أكثر توددا مع صحافيين آخرين.

الفارق بين سلطة حماس في غزة وسلطة فتح في الضفة أن الأولى تمنح الحرية لصحافيي حماس، وأدخلت نفسها في صراعات مع كثير من وسائل الإعلام هناك، حتى العالمية، أما الثانية، فإنها تحاول أن تتجنب الصراع علنا مع معظم وسائل الإعلام، وتستهدف صحافيي حماس.

وعلى أي حال فإن الصحافيين بمجموعهم أصبحوا هدفا من بين عدة أهداف طالها الصراع الداخلي.. وقال الخبير الإعلامي خليل شاهين، لـ«الشرق الأوسط»: «إن محاولات توظيف وسائل الإعلام كأدوات للتحريض والتشهير بين طرفي الصراع في حركتي فتح وحماس كانت سببا في تعرض الحريات الإعلامية في الأراضي الفلسطينية إلى انتهاكات خطيرة».

وهذه الانتهاكات وصفتها الهيئة المستقلة لحقوق الإنسان «ديوان المظالم» بأنها تمثل مسا غير مسبوق بحرية العمل الإعلامي في كل من الضفة الغربية وقطاع غزة، وتعكس عمق الانقسام السياسي الداخلي وأبعاده الخطيرة على الحقوق والحريات الأساسية كافة.

ورصد المركز الفلسطيني للتنمية والحريات الإعلامية «مدى» 257 انتهاكا للحريات الإعلامية في الأراضي الفلسطينية خلال عام 2008، منها 147 ارتكبتها قوات الاحتلال الإسرائيلي والمستوطنون، و110 ارتكبتها الأجهزة الأمنية الفلسطينية ومجموعات فلسطينية مسلحة في الضفة الغربية وقطاع غزة.

وقال شاهين إن أنماط الانتهاكات التي تعرض لها الصحافيون والعمل الصحافي برمته، تركزت في الاعتقال والملاحقة بصورة غير قانونية، أو منع طباعة وتوزيع بعض الصحف، وإطلاق النار على منازل ومؤسسات صحافية، ورفع دعاوى قانونية أو إصدار أحكام باعتقال صحافيين بحجة القذف والتشهير والتحريض، وحجب مواقع إخبارية إلكترونية بأمر من النائب العام في السلطة الفلسطينية، ومنع بعض المسيرات والتجمعات العامة، ومنع الصحافيين من تغطيتها وتغطية أحداث داخلية أخرى. فضلا عن اتهام بعض وسائل الإعلام العربية بعدم الحيادية، وسحب تراخيص بعض المؤسسات الإعلامية الأخرى، واقتحام الكثير منها.

وتقول حماس إن السلطة هوت بالحريات العامة في الضفة، وقبل يومين أصدرت وزارة الإعلام في حكومة حماس المقالة بيانا، قالت فيه إنها تستنكر «الممارسات الخطيرة التي يتعرض لها الصحافيون على أيدي ميليشيا عباس»، متهمة السلطة بأنها حولت «موضوع اعتقال الصحافيين والاعتداء عليهم وتقديمهم إلى المحاكمات إلى سياسة ممنهجة».

وقالت الوزارة إن 11 صحافيا معتقلا لدى السلطة، بينهم مدير فضائية «الأقصى» التابعة لحماس، محمد اشتيوي، واعتبرت الوزارة أن هذه الأحوال العصيبة التي يمر بها الصحافيون في الضفة الغربية لا تحتمل التأجيل ولا التراخي، وتعد فرصة سانحة أمام المنظمات المحلية والدولية التي تعنى بالشؤون الإعلامية والصحافية لتثبت مدى صدقيتها وجديتها في العمل على إطلاق الحريات الصحافية وحماية حقوق الصحافيين والإعلاميين وبرهنة وقوفها على الحياد إزاء جميع الجهات الفلسطينية.

وقال حسن أبو حشيش، مدير المكتب لإعلامي الحكومي في غزة، لـ«الشرق الأوسط»: «تكتبون عن الحريات في غزة.. أنا ليس لدي ولا معتقل صحافي واحد، لكن هناك 11 معتقلا في الضفة، اكتبوا عن الضفة الغربية، هناك لا توجد حرية ولا صحافة أبدا».

وقالت نائب المجلس التشريعي الفلسطيني، منى منصور، (حماس) إن الهجمة الشرسة على الحريات في الضفة الغربية تستهدف الإعلام الناطق بلسان الواقع والحال.

ويرى صحافيون في الضفة أن الأجهزة الأمنية تستهدف بالدرجة الأولى أولئك المحسوبون على حماس، وأقر جهاد القواسمي، مراسل صحيفتي «القدس» المحلية و«الشرق» القطرية، بأن الصراع الداخلي بين حماس وفتح كلف بعض الصحافيين المحسوبين على فتح أو حماس ثمنا غاليا، وقال القواسمي لـ«الشرق الأوسط»، وهو احد ناطقي حركة فتح في الخليل «أنا مثلا لم يحدث أن تعرضت لأي سؤال حول عملي الصحافي، لكن البعض دفعوا ثمنا كبيرا».

وبرغم أن السلطة الفلسطينية تنفي أن تكون اعتقلت أي صحافي على خلفية عمله الصحافي، إذ قال اللواء عدنان الضميري المفوض السياسي في السلطة لـ«الشرق الأوسط»: «لا نعتقل بسبب المهنة، وإنما نكون مشتبهين بقضايا أمنية». إلا أن عوض الرجوب، مراسل موقع «الجزيرة نت» الذي يتعرض لهجمة في الضفة، قال لـ«الشرق الأوسط» إنه اعتقل مرة واستدعي مرة أخرى بسبب تقاريره الصحافية وبعض اتصالاته بمسؤولي حماس.

ووضع اعتقال الرجوب أمامه «خطوطا حمراء كثيرة» كما قال، وأضاف «بعد اعتقالي لم أعد اكتب كما كنت». وأوضح «يمكن معالجة موضوع سياسي أو اجتماعي، لكن هذا لا يمكن مع بعض القضايا الأمنية، لقد أصبحت خطا أحمر». وتابع «سقف الحريات في الضفة ليس مرتفعا».

ويوافق الرجوب على أن «سيرته الذاتية» ربما تكون سببا رئيسيا في اعتقاله، وقال «لو كنت فتحاويا مثلا، لاختلف الأمر، ولكان ظهري مسنودا».

ومن دون شك فإن يد الأجهزة الأمنية باتت طليقة إلى الحد الذي سمح لها من وجهة نظر شاهين «بالتغول» في استهداف صحافيين على خلفية الرأي السياسي، وقال شاهين «هذا أدى إلى إشاعة ثقافة الخوف في أوساط مجموع العاملين في الإعلام، في ظل ضعف أشكال الحماية المتاحة لهم وتغييب دور نقابة الصحافيين».

وأضاف شاهين «النتائج السلبية لهذه الحالة (الخوف) برزت في الابتعاد عن تناول ما يمكن أن يفسر على أنه إسهام في إضعاف السلطة في سياق الصراع الداخلي مع حركة حماس».

وأوضح شاهين الذي يعمل محررا أيضا في صحيفة «الأيام» المحلية «يتم تجاهل نشر أخبار اعتقال الصحافيين في معظم الأحيان، أو نشر أخبار وتقارير وتحقيقات عن ظواهر فساد في مؤسسات عامة، وأحيانا في القطاع الخاص، وهي قضايا مورست ضغوط فيها من مستويات رسمية واقتصادية من أجل عدم الخوض فيها، كما تعرض صحافيون للتهديد والترهيب لمحاولتهم تسليط الضوء على بعض قضايا الفساد والتواطؤ الرسمي في التغطية عليها».

وعشية عيد الأضحى استنكر مركز «مدى» الاعتقالات في صفوف الصحافيين، وطالب بوقفها وبإطلاق سراح كل الصحافيين المعتقلين، معتبرا هذه الممارسات خرقا فظا لحرية التعبير.

وقال المركز «لقد أثبت تاريخ البشرية أن قمع الحريات وبالذات الحريات الصحافية، لا يجلب سوى الكوارث على الشعوب. إن الشعب الفلسطيني الذي عانى مختلف صنوف القمع على مدار عشرات السنين الماضية يستحق أن يتمتع بكل الحريات التي كفلها القانون الفلسطيني الأساسي وقانون المطبوعات والنشر.

وتابع البيان «من المحزن أن نرى أن الكثير من الصحافيين يحصلون على التكريم والجوائز العالمية والإقليمية، في الوقت الذي يتعرض فيه الكثير منهم للملاحقة والاعتقال من قبل الأجهزة الأمنية الفلسطينية في الضفة والقطاع».

وتمنع السلطة في رام الله توزيع صحيفتي «فلسطين» و«الرسالة» التابعتين لحماس، وتمنع العمل مع أي مؤسسات إعلامية تابعة للحركة وهذا ينطبق بالدرجة الأولى على فضائية «الأقصى».

وتعرض مراسلو «الأقصى» وآخرون غير مرة للاعتقال، ولم تنفذ قرارات المحاكم بالإفراج عن بعضهم، وعندما سأل الصحافيون مرة الضميري في اجتماع معه في نابلس عن أحد زملائهم، قيل لهم «هذا معتقل بتهم نقل أسلحة وليس بسبب عمله الصحافي». واعتقلت الأجهزة الأمنية في الضفة والقطاع 60 صحافيا، العام الماضي، نصفهم في الضفة.

وأكدت الهيئة المستقلة لحقوق الإنسان أن غالبية عمليات الاعتقال التي نفذت بحق الصحافيين غابت عنها سلامة الإجراءات القانونية، وانعدمت معها ضمانات المحاكمة العادلة. وطالت إجراءات السلطة وسائل إعلام عربية، وقبل 4 شهور أغلقت الحكومة قناة «الجزيرة» احتجاجا على بثها لاتهامات القيادي في فتح فاروق القدومي، للرئيس الفلسطيني محمود عباس «بالضلوع في مؤامرة إسرائيلية لاغتيال الرئيس الراحل ياسر عرفات إبان حصاره»، لكن هذا الإغلاق لم يدم طويلا، إذ استجابت الحكومة لنداءات وضغوطات مؤسسات حقوقية وصحافيين رفضوا القرار، وبرز مسؤولون حكوميون يرفضون قرار الإغلاق، كما رفضته حركة فتح.

لكن لا يمكن القول إن خوف الصحافيين دائما يأتي من الجهات السياسية، بل يفرض الصحافيون في الضفة رقابة ذاتية أحيانا لأسباب أخرى. وقال يحيى نافع، الصحافي في تلفزيون «وطن» وراديو «أجيال»: «يمكن أن ننتقد الرئيس، لكن لا يمكن أن نكتب عن قضية فساد كبيرة.. قد نتعرض للقتل».

وقال شاهين «رغم أن الصحافيين يتمكنون من انتقاد السلطة ومسؤوليها سياسيا، إلا أنهم يهملون قضايا التحقيقات في مسائل شتى». ويعيد شاهين الأمر إلى ما سماه الرقابة الذاتية.

وأضاف «هذه الرقابة يكرسها استمرار وجود الاحتلال، والصراع السياسي الداخلي، وأرباب العمل في المؤسسات الإعلامية، وأصحاب المصالح التجارية الكبيرة، وبعض الأفكار والتقاليد الاجتماعية المحافظة، ومراكز القوة في الشارع، والقوى المحافظة، والسلطة وأجهزتها»، ويشجع كل هؤلاء عدم وجود ثقافة راسخة وعميقة تؤمن بأهمية الحرية.