نهاية العقد الأول.. انحسار في وسائل الإعلام التقليدية وصعود بارز للوسائل الرقمية

فشل الطعن في حجة غزو العراق والعجز عن تناول أزمتي العقارات والقروض أكبر كارثتين منيت بهما التغطية الصحافية

TT

هل ترى أنك، كعميل إعلامي، أصبحت أفضل حالا الآن عما كنت منذ 10 سنوات؟ بعد مرورك عبر العقد الأول من الألفية الجديدة، الذي بدأ بتعهد المنظمات الإعلامية بالتحلي بالجدية بعد هجمات 11 سبتمبر (أيلول) 2001 وانتهى بالتركيز على مسلسل الواقع «جون آند كيت بلس إيت» والسيدة التي أنجبت ثلاثة تواءم متماثلة وخرافة «طفل البالون»، هل تشعر بأنك تلقيت مستوى أفضل من الخدمة من جانب المؤسسات الإعلامية؟ بطبيعة الحال، الرد الأيسر هو «لا بد أنك تمزح». على ما يبدو، تتزايد النشاطات الصحافية الآخذة في الذبول بتحفيز من الموضوعات المثيرة. لكن عند إمعان النظر في الصورة، نلاحظ أنه في الأول من يناير (كانون الثاني)، لم يكن هناك أي من «هفنغتون بوست» أو «ناشيونال ريفيو أونلاين» أو «بوليتيكو» أو «فيس بوك» أو «تويتر». ولم يكن هناك سوى حفنة من المدونين، وقد انضممت إليهم في صيف ذلك العام. أما الآن، فيقدر عددهم بعشرات الملايين يملأون فضاء شبكة الإنترنت الفسيح. ولم يكن هناك «بلاكبيري»، وإنما كان جهاز «بيجر» بسيط فحسب. ولم يكن «آي فون» آنذاك سوى حلم يغازل ستيف جوبس. وكان الجهاز الوسيط الوحيد الذي يستخدم في تحميل موسيقى هو «نابستر»، الذي لم يكن عمره حينها تجاوز ستة شهور. أما «غوغل» الناشئة، فكانت تغطيتها حكرا في معظمها على الكتاب المعنيين بالشؤون التقنية. عام 2000، كانت «فوكس نيوز» في المرتبة الثالثة بين محطات الكابل التلفزيونية، من حيث أعداد المشاهدين وقت الذروة، مع وصول متوسط أعداد المشاهدين إلى 248000 مشاهد. يذكر أن الصحافيين التلفزيونيين المخضرمين توم بروكو وبيتر جيننغز ودان ريزر اجتذبوا نحو 30 مليون مشاهد. باختصار، في الوقت الذي تميزت فيه شبكة الإنترنت بهالة خادعة من العظمة - وكانت مؤسسة «إيه أو إل» على بعد 10 أيام فقط من شراء «تايم وارنر» في صفقة غير موفقة - فإن المؤسسات الإعلامية الكبرى القديمة ظلت لها اليد العليا. هناك أسباب عدة وراء الصعوبات الجمة التي عانتها المؤسسات الإعلامية الكبرى خلال العقد الأول من القرن الحالي. إلا أنني من جانبي لا أرغب قط في العودة إلى فترة ما قبل البحث الفوري عن المعلومات والهواتف الذكية ومقاطع الفيديو المصورة المنشورة على شبكة الإنترنت وموقع «ويكيبيديا» والمدونات. وكان من شأن هذه المستجدات جذب حشود من الجماهير إلى الحقل الإعلامي وتمكينهم من القيام بمهام كان من المتعذر على غير المحترفين تنفيذها، بل وربما اضطلع بها الأفراد العاديون على نحو أسرع وأفضل. في سلسلة مقالات، تعرضت «تايم» لهذا العقد على الصعيد الإعلامي والذي وصفته بأنه «عقد في الجحيم». الملاحظ أن سجل وسائل الإعلام لم يكن سيئا بأكمله، ذلك أن عرض أحداث ما بعد هجمات 11 سبتمبر (أيلول) 2001 ساعد في طمأنة أمة مرتعدة الأوصال. وفضحت الصحف برنامج المراقبة الداخلي لإدارة أوباما والسجون السرية لوكالة الاستخبارات المركزية في الخارج والأوضاع المشينة في مركز والتر ريد الطبي. وكشف التوجه النشط في التعامل مع كارثة إعصار كاترينا عن إهمال وانعدام خبرة على مستوى بالغ الاتساع، مما أثار شعورا بالصدمة والذهول. وأبدى مراسلو الحروب شجاعة نادرة، وكبدهم ذلك في بعض الأحيان بعض أطرافهم، بل وحياتهم. ورغم ذلك تبقى أكبر كارثتين منيت بهما التغطية الصحافية مطلع القرن الحادي والعشرين وصمة عار دائمة على جبين الصحافة. تتمثل الكارثة الأولى في الفشل في الطعن على الحجة التي ساقتها إدارة بوش لغزو العراق، وما صاحب ذلك من ميل لتجاهل الأصوات المناهضة للحرب، الأمر الذي تندم عليه المؤسسات الإعلامية الآن. أما الكارثة الثانية فهي اكتفاء المنظمات الصحافية بالتهليل للفقاعة التقنية التي انفجرت عام 2000، وعجزها عن تناول الفقاعتين اللتين ظهرتا بمجالي العقارات والقروض، واللتين تسببتا في تدمير اقتصادنا تقريبا عام 2008. شخصيا، أعرف قليلا من الصحافيين الماليين الذي أطلقوا صيحات التحذير، لكن بصورة مجملة يمكن القول إن وسائل الإعلام فشلت في بذل جهد مناسب لتسليط الضوء على نظام مصرفي ظل يعتمد على مخاطرات كبرى ومشرعين لم يبدوا اهتماما بالأمر. في الواقع، كان الأمر برمته معقدا ومملا، مثلما كان الحال مع جهود تناول مقترح إصلاح الرعاية الصحية التي امتدت لعام. وأخيرا، مرر مجلس الشيوخ المقترح عشية أعياد الميلاد. أعتقد أن وسائل الإعلام من جانبها بذلت محاولات شجاعة لشرح مشروع قانون الرعاية الصحية المعقد وتفحّصه، وبلغ الأمر حد إعلان كذب الاتهامات الموجهة إلى قانون الرعاية الصحية الجديد باعتباره يحوي لجانا أشبه بـ«محاكم الموت». ومع ذلك، كشفت استطلاعات الرأي أن الكثير من الأميركيين صدقوا هذه الاتهامات، تماما مثلما تصر أقلية منهم على تصديق أن باراك أوباما لم يولد في هاواي، رغم رفض وسائل الإعلام هذا الهراء. وإذا كانت وسائل الإعلام فقدت الكثير من ثقة الرأي العام بها، فإنها تتحمل جزءا من اللوم عن ذلك، فعلى امتداد العقد الماضي، كشفت عمليات التلفيق المثيرة للصدمة التي ارتكبها جيسون بلير في «نيويورك تايمز» وجاك كيلي في «يو إس إيه توداي» عن صالات تحرير تعاني من خلل وظيفي وتفتقر إلى وسائل الإنذار التي تنبه لوقوع تجاوزات. وبالمثل، كان اعتماد ريزر على وثائق مشكوك بصحتها في طعنه لتأدية بوش الخدمة العسكرية في صفوف الحرس الوطني كبوة كبرى كلفته مكانته الرفيعة في «سي بي إس». وتمثل جزءا من القوة المحركة وراء هذه القضية في المدونين المحافظين، مثلما كان الحال مع إثارة موقع «توكنغ بوينت ميمو» الليبرالي فضيحة اختيار ألبرتو غونزاليز المدعين بناء على اعتبارات سياسية. الملاحظ أن الميول الحزبية تبدو بقوة على شبكة الإنترنت، وعلى نحو متزايد عبر قنوات الكابل، وهو ما يتجلى في جيوش المشرعين والمعلقين الجمهوريين على قناة «فوكس» والمشرعين والمعلقين الديمقراطيين على «إم إس إن بي سي». وقد أسهم ذلك في تمزيق الحقل الإعلامي. علاوة على ذلك، ساعدت وسائل الإعلام في تعزيز التوقعات الكبرى المنتظرة من أوباما، التي تحطمت، الأمر الذي بدا محتوما، على صخرة واقع الحكم. الملاحظ أن صعود الصحافة الجديدة المعتمدة على أفراد غير متخصصين مع مطاردة المنظمات التقليدية بدرجة أكبر للقصص الميلودرامية الصفراء. وتقتفي قنوات الكابل والبرامج الصباحية بدأب أثر قصص نساء بيض مختفيات أو عروس هاربة أو أم أنجبت ثلاثة تواءم متماثلين أو ملكة جمال تعارض زواج المثليين. وتعمد برامج الواقع إلى إثارة قصص حول زلات النجوم، مثل الضجة الإعلامية حول عقوبة السجن القصيرة التي تعرضت لها باريس هيلتون. إن الأمر برمته منهج فكري يعمل على بث الحياة في الموتى المشاهير - مثل الضجة المحمومة حول وفاة مايكل جاكسون التي استمرت أسبوعين - ويزدهر اعتمادا على تناوله للتصرفات السيئة التي يأتي بها أمثال ديفيد ليترمان وتايغر وودز. (ولكم أن تتخيلوا لو أن المراسلين الذين طاردوا العشيقات الكثيرات لوودز تم تكليفهم بدراسة ما إذا كان صدام حسين يملك أسلحة دمار شامل). وشاء القدر أن يأتي كل ذلك متزامنا مع انهيار النموذج التجاري الذي دعم المنظمات الإعلامية لأجيال عدة. وأتت الثورة الرقمية على صحف عدة ودفعت الصحف الموجودة في لوس أنجليس وشيكاغو وفيلادلفيا وبالتيمور إلى الإفلاس. أما «واشنطن تايمز»، التي تقلص عدد العاملين بها بمقدار النصف تقريبا، فقد انتهت لتوها من آخر نسخة مطبوعة لها. وتسبب تراجع العائدات في مقتل الكثير من المجلات، مثل «بورتفوليو» و«غورميت» و«فايب»، التي كانت بين أحدث الضحايا. وعندما أبرمت «كومكاست» صفقة لشراء «إن بي سي يونيفرسال»، جرى التعامل مع المحطة التلفزيونية كما لو كانت قطعة خردة. وبذلك يتضح أن وسائل الإعلام التقليدية شهدت انحسارا، لكن العقد الماضي شهد كذلك صعود بعض الوسائل الرقمية الرائعة مثل «تويتر»، الذي أتعلم منه أمورا جديدة كل يوم، حيث ينشر المشاركون وصلات لقصص غفلت عنها ويكتبون تعليقات على الأنباء والنقاشات الدائرة. وينتمي معظم من أتابعهم إلى الصحافيين والمفكرين، لكن بعضهم أشخاص عاديون. في بعض الأحيان، أعود بذهني إلى الأيام الخوالي التي اتسمت بعقبات كبرى بمجال جمع الأنباء عندما كان يتعين على المرء إجراء اتصالات هاتفية بالمصادر، بدلا من البعث برسائل إليهم عبر البريد الإلكتروني. وأتذكر أنني في فترة من الفترات بحثت في مقالات الصحف القديمة عن مقالات حول ميكروفيلم، وزرت مقر وزارة العدل للتنقيب في سجلاتها. أما اليوم، فباتت مخزونات هائلة من المعرفة متوافرة أمام المرء من دون أن يكلفه ذلك سوى النقر بالفأرة. والآن، نشهد فترة انحسار للصحافة التقليدية وفترة ازدهار للمعلومات الفورية. وبات يتعين على أمثالي من العاملين في حقل الصحافة محاولة التوصل إلى سبيل لاستغلال وتنظيم هذه الكنوز المعرفية، مع العمل بصورة ما على دفع الناس لدفع مال مقابل ما نقدمه لهم، بدلا من الحصول عليه ببساطة عبر البحث على محرك «غوغل». ولا شك أن تلك مهمة كبرى أمامنا. وحال تعرضنا لعقد جديد على غرار ما شهدناه هذا العقد، ربما يكون في ذلك حكم نهائي ضدنا بالموت.

* كيرتز يعمل لصالح «سي إن إن» ويقدم برنامجا أسبوعيا بعنوان «ريليابل سورسيز» (مصادر موثوق بها).

* خدمة «واشنطن بوست» خاص بـ«الشرق الأوسط»