نقابات الصحافيين تفشل مشروع تغيير الوضع القانوني لوكالة الصحافة الفرنسية

تقارير: الأساليب القديمة لم تعد تتماشى مع عصر السرعة

فشل مدير عام وكالة الصحافة الفرنسية من إحداث تغييرات تتماشى مع عصر السرعة (رويترز)
TT

بعد سنتين من المفاوضات الصعبة والعلاقات المشحونة بالتوتر بين بيار لورات المدير العام لوكالة الصحافة الفرنسية والنقابات العمالية، قرر هذا الأخير تقديم استقالته والتخلي عن مشروع الإصلاحات الذي أعلن عنه منذ مارس (آذار) 2008، وتحديدا في ما يخص ملف تغيير الوضع القانوني للوكالة العالمية.

الحدث أثار ذهولا عاما، خصوصا أن المدير السابق قد تعهد أمام الحكومة منذ وصوله في عام 2005 بإخراج ثالث أكبر وكالة إعلامية في العالم من الأزمة المالية التي تتخبط فيها منذ سنوات إلى بر الأمان وتحويلها إلى وكالة عصرية متخصصة في الملتيميديا لمواكبة تطورات العصر، وكان من المفروض أن يقدم المشروع للمصادقة البرلمانية في أواخر الشهر الحالي، لكن بيار لورات واجه مقاومة شديدة من قبل النقابات العمالية التي فتحت عليه منذ أشهر جبهة معارضة قوية انتهت برضوخه.

والمعروف أن وكالة الصحافة الفرنسية قد بدأت تواجه الصعوبات المالية منذ عام 1998، حيث وصل العجز المالي في ميزانيتها إلى 14 مليون يورو في عام 2003، بسبب ارتفاع تكاليف التشغيل وتسيير فروعها الموجودة في الخارج، حيث تعد هذه الأخيرة أكثر من 2200 صحافي و50 مراسلا في 156 بلدا مختلفا، إضافة إلى 200 مصور وأكثر من 30 تقني فيديو.

كما تعاني الوكالة من انخفاض في نسبة الاشتراكات التي تأتيها من أول زبون لها وهي الحكومة وهيئاتها المختلفة (الوزارات، السفارات، المديريات، المحافظات...إلخ)، التي تراجعت من نسبة 60 في المائة في السبعينات إلى أقل من 40 في المائة منذ عام 2000، هذا في ظل تطور نموذج الإعلام المجاني ومنافسة الوسائل الأخرى.

وكانت الإدارة السابقة قد شرعت في سلسلة من الإصلاحات ضمت من جهة إجراءات تقشفية بغرض التحكم في التكاليف، حيث تم الاستغناء عن 101 موظف في عام 2002، كما تخلت عن بعض فروعها المكلفة مثل «أ.أف.إكس» المتخصصة في الاقتصاد والناطقة باللغة الإنجليزية، و«فيلياس»، وبقيت محتفظة بخمسة فروع أخرى تتمتع بوضع اقتصادي جيد، كوكالة «أ.ف.ب.جي.أم.جي.أش» المختصة في الرياضة، كما طورت خدمات جديدة لقيت نجاح كبير كخدمة الفيديو «أ.ف.ب.تي.في» التي افتتحتها في عام 2001، والتي توفر اليوم أكثر من 500 فيديو في الشهر، كما نجحت في مقاضاة «غوغل» عام 2006 ومنعها من نقل موادها الإخبارية ونشرها مجانا على الشبكة. وبفضل هذه الإجراءات الأولية تمكنت الوكالة من تحقيق نوع من التوازن في أوضاعها المادية، حيث وصلت أرباحها سنة 2009 إلى أكثر من 6 ملايين يورو.

غير أن المسألة بدأت تتعقد حين أعلنت الإدارة الجديدة بأن طموحاتها تذهب إلى أبعد من مجرد تحقيق التوازن، حيث إنها تنوي إحداث تغيير على هياكل الوكالة وخدماتها وجعلها مواكبة لتطورات ومتطلبات العصر عن طريق تطوير خدمات جديدة كخدمة الملتيميديا التي تتمثل في تقديم نشرات متعددة الوسائط (صورة، نص، ورسم بياني ثابت وتفاعلي) يمكن الاستفادة منها في مواقع الإنترنت والهواتف الجوالة الحديثة.

وقد كانت معظم التقارير التي رفعها بيار لورات للحكومة لشرح الدوافع وراء مشروعه قد دقت ناقوس الخطر وخلصت إلى أن النموذج الاقتصادي لأقدم وكالة إعلامية في العالم هو الآن مهدد بسبب زحف الإعلام الرقمي، مضيفة أن عرض الوكالة أصبح لا يلائم الطلب الحالي، فهي أمام خيارين، إما أن ترفض التطور فتفتقر وتتراجع، وإما أن تقوم بالإصلاحات اللازمة وتعزز انتشارها فتحتفظ بمكانتها الريادية في مجال الإعلام.

معظم هذه التقارير تحدثت عن أساليب العمل القديمة التي لم تعد تتماشى مع عصر السرعة وضرورة الاقتصاد والتركيز على بعض النشاطات التي تضمن الصمود أمام المنافسة.

التقرير الذي قدم أمام البرلمان الفرنسي أوصى بتكثيف نشاط الوكالة في بعض المناطق المهمة كالشرق الأوسط والهند والصين، مع تعزيز مكانة الوكالة في محيط الدول الفرنكفونية، ونصح بتطوير خدماتها باللغة العربية والصينية.

تقرير آخر تحدث عن غياب الطاقات الشابة التي من شأنها إعطاء نفَس جديد للوكالة، ووصف هذا التقرير الفرق الحالية «بالكهول المخضرمين»، مضيفا أن موظفا واحدا من عشرة يفوق عمره الستين عاما، وبأنه لدى 42 في المائة منهم خبرة تفوق العشرين سنة.

ويقول التقرير نفسه إن موظف في وكالة الصحافة الفرنسية يعمل 30 في المائة أقل من نظيره في «أسوشييتد برس»، وكان هذا التقرير قد أوصى بتقليص دائرة مهام المؤسسة العريقة لمزيد من الفاعلية، فـ«البرقيات» التي صنعت مجد وكالة الصحافة الفرنسية أصبحت قديمة تفتقر إلى الجانب التفاعلي، ويجب استبدالها بخدمات أكثر شمولا وسرعة كخدمة «نشرات إخبارية حسب الطلب» عبر محركات بحث على الشبكة. الحكومة التي أبدت موافقتها على المشروع منحت الوكالة مساعدة مادية بحدود 20 مليون يورو للفترة بين 2009 و2013، لكنها تعتبر غير كافية لتغطية تكاليف المرحلة الجديدة.

وبما أن الوضع المالي للوكالة لا يسمح بتمويل مثل هذه المشاريع، فقد طلب بيار لورات تغيير الوضع القانوني للوكالة لفتح باب المساهمة أمام ممولين جدد، وهو ما عارضته النقابات الخمس التي ينتمي إليها العمال بشدة. علما بأن وكالة الصحافة الفرنسية تتمتع بوضع خاص بموجب قانون 1975 الذي يجعل منها حسب «المادة الأولى» «مؤسسة مستقلة تتمتع بشخصية معنوية»، كما أن «نشاطها لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يقع تحت تأثير أي مجموعة اقتصادية أو سياسية أو آيديولوجية كانت»، (المادة الثانية). وهي بهذا لا تعتبر ملكا لأحد ولا حتى للدولة التي تعتبر رسميا زبونة فقط.

هذا الوضع القانوني الذي يميز وكالة الصحافة الفرنسية (أ.ف.ب) عن الوكالات الأخرى ويعتبر استثناء فرنسيا آخر، هو مكسب في نظر صحافييها لا يمكن التفريط فيه لأنه ضمان لاستقلاليتهم وحيادهم في تناول وتحليل المواد الإخبارية، وهم يعارضون دخول أطراف أجنبية لأن ذالك سيؤدي إلى محاولة هؤلاء التحكم في هذه الآلة الإعلامية القوية وتسخيرها لمصالحهم، وإلا فلماذا يدخلون في هذه المغامرة؟

المعارضة على هذا المشروع كانت أيضا من جانب رجال السياسة وشخصيات معروفة من عالم الثقافة والأدب والفنون، وكانت النقابات قد نجحت في جمع أكثر من 21000 توقيع في لائحة نشرت على صفحات الإنترنت بعنوان «أنقذوا وكالة الصحافة الفرنسية» أو «أس أو أس أ.ف.ب».

وزير الثقافة والاتصال فريديريك متران نفسه دعا إلى التريث نظرا لأهمية الرهانات المتعلقة بهذا الموضوع، كما نادت أطراف نقابية إلى البحث عن حلول أخرى كإنشاء «صندوق للهبات» تسيره المؤسسة الخيرية التابعة لوكالة الصحافة الفرنسية، أو طلب قرض حكومي دون فوائد لتغطية تكاليف «العصرنة» المطلوبة.

ورغم تجميد مشروع الإصلاحات برحيل المدير السابق بيار لورات، فإن المعادلة الصعبة لا تزال قائمة بين الوضع القانوني للوكالة الذي يمنع دخول مساهمين لكنه يبقى ضمانا للحياد والموضوعية، وبين ضرورة التعجيل في الإصلاحات حتى لا تفقد وكالة الصحافة الفرنسية مكانتها الريادية في النادي المغلق للوكالات العالمية.