رئيس تحرير مكتب التحقيقات الاستقصائية: القصص مكلفة ماليا.. لكنها ترفع من شعبية الصحف وتزيد إعلاناتها

إيان أوفرتون لـ «الشرق الأوسط»»: صحافي التحقيقات الميدانية ينبغي أن يتميز بالقدرة على قضاء ساعات في تقصي التفاصيل

إيان أوفرتون (تصوير: حاتم عويضة)
TT

يمر التحقيق الصحافي الميداني بفترة تجديد. فبعد أن كان الصحافيون الذين يكشفون الأسرار والفضائح يعملون بمفردهم، حاملين معهم دفتر ملاحظات أو جهاز تسجيل فقط، فإن كثيرا من الصحافيين الاستقصائيين الآن يعملون بالتعاون مع شبكات إقليمية أو دولية، وهناك مصادر تمدهم بالوثائق والمستندات لحمايتهم أمام القانون، وتساعدهم التكنولوجيا الحديثة والمعدات التي تعمل بدورها على تغيير وجه العمل الصحافي، بل إن أغلب القصص الناجحة نفذها فريق عمل متجانس وليس فردا واحدا. والصحافة الاستقصائية أفضل طريقة للوصول إلى قلب الحقيقة، لأنها تكشف التجاوزات والممارسات الخاطئة، وتفعل مبدأ المحاسبة والمساءلة بما يؤدي مبدئيا إلى تصويب الأوضاع، بهدف كشف المستور وإحداث تغيير للمنفعة العامة. واليوم في لندن هناك مكتب للتحقيقات الاستقصائية يحاول تعويض القصور في التغطية الصحافية البريطانية، ويسعى إلى إظهارها في صورة أبهى، حيث يعمل 25 صحافيا حرا في سن الشباب جميعهم أقل من أربعين عاما في العمر، تحت رئاسة إيان أوفرتون مخرج الأفلام الوثائقية والصحافي السابق في هيئة «بي بي سي»، والذي فاز بالكثير من الجوائز عن أفلامه الوثائقية وخبطاته الاستقصائية. ويخطط المكتب البريطاني للتنقيب عن القضايا الداخلية، مثل عجز الموازنة المتنامي إلى جانب الشؤون الدولية. فإلى نص الحوار مع إيان أوفرتون من لندن:

* هل يمكن أن تخبرنا قليلا عن نفسك؟

- عملت صحافيا على مدار قرابة 13 عاما. وقضيت معظم فترة تعلمي داخل هيئة الإذاعة البريطانية «بي بي سي»، حيث تنقلت بداخلها من باحث إلى كبير منتجي برنامج «هذا العالم». وكانت الفترة التي قضيتها في «بي بي سي» من الفترات السعيدة في حياتي، وكنت محظوظا بما يكفي لنيلي عددا من الجوائز عن تحقيقات أجريتها. وحصلت على جائزة يطلق عليها «بيبودي أورد» عن تحقيق أجريته حول تقليد العقاقير في أفريقيا والهند. وحصلت على جائزة «بافتا» (الأكاديمية البريطانية لفنون الفيلم والتلفزيون) في اسكوتلندا عن تحقيق أجريته داخل اسكوتلندا حول الجريمة المنظمة، إضافة إلى فوزي بجائزة «وان وورلد» عن فيلم صنعته حول الصومال. وقد تمثل المحور الرئيسي لاهتمامي في الأفلام الوثائقية التلفزيونية.

* هل يمكن أن تصف لنا المشهد الصحافي البريطاني في أفضل حالاته اليوم؟

- من وجهة نظر صحافية وإذاعية، أعتقد أن بعض التحقيقات تركت تأثيرا إيجابيا على الصعيدين المحلي والدولي. وتركت بعض التحقيقات أصداء قوية مثل التحقيق الذي أجري حول رجل الشرطة السرية وكشف عن وجود تمييز منظم في صفوف قوات الشرطة البريطانية. وكشف التحقيق الذي أجري حول جهود جماعات الضغط داخل البرلمان عن الكيفية الحقيقية التي يسير بها العمل في البرلمان البريطاني. بيد أن الحقيقة المؤسفة أن مثل هذه التحقيقات تواجه صعوبة متزايدة من حيث التمويل، لأنها مكلفة ماليا، وباتت بمرور الوقت أقل عددا وتظهر على فترات متباعدة بدرجة أكبر.

ويتفق معظم العاملين في حقل صحافة التحقيقات أن الأموال المتوافرة للتحقيقات الصحافية رفيعة المستوى انحسرت بمرور الوقت. بالنسبة للصحافة في صورتها المثلى، أعتقد أن هناك بعض العناصر القوية للغاية حاليا، مثل قناة «الجزيرة» الإنجليزية والتي تعد من الجهات القوية المنتجة للتحقيقات الصحافية، وبرنامج «60 دقيقة» في الولايات المتحدة الذي يتولى أيضا إنتاج بعض التحقيقات بالغة القوة، وكذلك الحال مع بعض الجهات الألمانية والاسكندينافية. وأعتقد أن هناك مخاوف حقيقية إزاء أنه في الكثير من أرجاء العالم، حيث تصعد قوى اقتصادية جديدة، مثل الصين والبرازيل، لم تتطور صحافة التحقيقات هناك بقدر التطور نفسه الذي بلغته في أوروبا.

* هل يمكن أن تخبرنا قليلا عن المنظمة التي تعمل لحسابها؟

- كان إنشاء «المكتب البريطاني لصحافة التحقيقات» من بنات أفكار ديفيد وإلين بوتر كجزء من «مؤسسة بوتر». كان ديفيد بوتر قد جنى بعض المال من وراء شركة الحواسب الآلية التي يملكها، وكانت لديه قناعة هو وزوجته إلين، التي اعتادت العمل كصحافية لدى «صنداي تايمز»، بأن هناك حاجة لبذل كثير من الجهود لتحسين مستوى جودة العمل الصحافي وصحافة التحقيقات داخل المملكة المتحدة وعلى الصعيد الدولي.

وعليه، تبرع الزوجان في بداية الأمر بمليوني جنيه إسترليني للمساعدة في عمل التحقيقات الصحافية. ويمكن إيجاز مهام المكتب في أمرين: أولهما الاضطلاع بتحقيقات صحافية، وثانيهما مساعدة جيل جديد من الصحافيين على العمل بمجال صحافة التحقيقات والنظر بشأن إيجاد سبل جديدة لتمويل التحقيقات الصحافية. بمرور الوقت، يرمي «مكتب صحافة التحقيقات» إلى تحقيق الاكتفاء الذاتي والتحول إلى مصدر لكل من تحقيقات صحافية جديدة وسبيل يمكن من خلاله تمويل تحقيقات جديدة. في بعض الجوانب، نأمل في أن يثبت نموذج المكتب أنه نموذج تجاري ناجح، لكن لا يمكن أن ننكر أن الإسهامات الخيرية سيبقى لها دور في دعم النموذج المالي الذي تقوم عليه الصحافة. فيما يخص الأفراد الذين سيعتمد عليهم المكتب بمرور الوقت، فإنهم سيكونون بطبيعة الحال من أصحاب النشاط الحر، لكن العلاقة القائمة بين المكتب و«سيتي يونيفرسيتي» تعني أننا سنضم إلى صفوف العاملين داخل المكتب متدربين والآخرين الساعين لاكتساب خبرة عملية من أبناء الجامعة، بحيث يتولون إجراء تحقيقات صحافية معنا.

* لكن ماذا تفعل في التحقيقات الصحافية التي كتبتها.. هل تبيعها؟

- يتألف الطموح من عدد من الأشياء، ونتطلع من جانبنا حاليا نحو نماذج مالية مختلفة. لقد أقررنا للتو علاقة جديدة مع «فاينانشيال تايمز» نتعاون بمقتضاها معها بشأن التحقيقات الصحافية الكبرى. وآمل في أنه حينئذ بدلا من الاكتفاء بنشر التحقيقات الصحافية في «فاينانشيال تايمز» أن نذيعها عبر شبكات إعلامية أخرى. على سبيل المثال، ربما مثلما يمكن أن ننشر مقالا بصحيفة ما أن نتمكن من عرض فيلم وثائقي عبر قناة تلفزيونية أوروبية أو محطة تلفزيونية تعمل عبر القمر الصناعي بحيث نحاكي نمط التحقيقات الصحافية التي تظهر في الصحف المطبوعة. في الواقع، لدي اعتقاد راسخ بأن تشتت السوق وتشرذمها يعني أن النشر عبر وسيلة واحدة فقط غير كاف لترك تأثير واسع فيما يتعلق بكل من جني أموال تعوض تكاليف إجراء التحقيق الصحافي، والأهم من ذلك، التمتع بنفوذ على الجمهور العام من القراء.

* ما رأيك في الصحف التي تبيع تحقيقاتها الصحافية عبر شبكة الإنترنت، وفي اعتقادك ما الإمكانات على المدى البعيد أمام الصحف في المملكة المتحدة والشرق الأوسط؟

- أعتقد سيظهر نمطان من الصحف: سيعمد النمط الأول إلى التقهقر والانسحاب بعيدا عن الوسائط الرقمية، وهو حل قصير الأمد، بينما سيضم النمط الثاني صحفا تتوقف عن عرض محتواها مجانا عبر شبكة الإنترنت وتفرض رسوما للاطلاع عليه. على المدى القصير، ربما تصادف بعض هذه النماذج نجاحا، ولا يزال من المبكر للغاية القول بما إذا كان نموذج «فاينانشيال تايمز» أو «تايمز»، حيث يتعين على القارئ دفع أموال للاطلاع على المحتوى الإلكتروني عبر شبكة الإنترنت، سينجح. أعتقد أنه كلما تميز ما تعرضه من محتوى بقدر أكبر من التخصص والخبرة، زادت أعداد القراء المستعدين لدفع أموال مقابل الاطلاع عليه. أما إذا اقتصر ما تقوم به على عرض تقارير حول الأنباء العامة، فلن يكون الناس على استعداد لدفع المال مقابل ذلك. وتتمثل وجهة نظري العامة بشأن الصحف العالمية في أنها تناضل في مواجهة انحسار عائدات الإعلانات وتراجع أعداد القراء. ومع ذلك، لدي قناعة بأنه إذا شرعت الصحف في التعاون مع وسائل الإعلام المسموعة والمرئية، فإنها ربما تجد سبيلا للحفاظ على الأنماط الطويلة على نحو خاص من التحقيقات الصحافية بمرور الوقت. أعتقد أن السبيل لتعزيز أعداد القراء وعائدات الإعلانات يكمن في التعاون.

* هل لصحافة التحقيقات الجيدة وجود في الصحف البريطانية اليومية، وهل تعتقد أن القيام بها ينطوي على تكاليف مرهقة؟

- في الواقع، تعد صحافة التحقيقات أشبه بالمراهنة، ذلك أنه من الممكن أن تعكف على مطاردة قصة ما لشهرين أو ثلاثة شهور، ثم لا تصل إلى شيء ذي قيمة في نهاية الأمر. لكن إذا لم تتوصل إلى شيء ما في النهاية، يبقى بإمكانك نشر موضوع خفيف وضعيف وقد يعرض الصحيفة للمقاضاة، أو باستطاعتك الاستسلام والاعتراف بأنك لم تصل إلى شيء. وهنا تحديدا يكمن عنصر التكاليف باهظة الارتفاع.. لكن في نهاية الأمر ترفع القصص الناجحة من شعبية المطبوعة، وتزيد من إعلاناتها. إن الصحافة رفيعة المستوى عندما تنجح بالتحقيقات الاستقصائية التي تنشرها بمقدورها رفع معدلات تقييم الصحيفة وزيادة مبيعاتها وعائدات الإعلانات. وتعد «تليغراف» مثالا على ذلك وتغطيتها لفضيحة النفقات، التي شكلت في جزء منها صحافة تحقيقات، رغم افتقارها إلى الطابع الحقيقي لصحافة التحقيقات لأنها كانت بحاجة إلى شراء وثيقة تكشف التجاوزات. ومع ذلك، عادت هذه الجهود الصحافية بفائدة هائلة على «تليغراف». إلا أن هناك الكثير من الحالات التي لا تفضي صحافة التحقيقات فيها إلى أي من النتائج المأمولة. وبذلك يتضح أن صحافة التحقيقات يمكن أن تنطوي على تكاليف باهظة، ولذا، فإنها على ما يبدو واحدة من أوائل العناصر التي تتأثر عندما يقرر رئيس تحرير صحيفة ما خفض التكاليف.

* هل تعتقد أن فضيحة النفقات كانت أفضل موضوع لصحافة التحقيقات هذا العام؟

- نعم. لقد ترك هذا الموضوع تأثيرا كبيرا، لكن هناك الكثير من التحقيقات الأخرى التي جاءت على مستوى جيد للغاية، رغم عدم تركها تأثيرا. وأراها تحقيقات قوية وملهمة للغاية. وعليه، أفضل عدم القول بأن فضيحة النفقات كانت التحقيق الصحافي الأفضل، لكنها التحقيق الذي ترك التأثير الأطول أمدا.

* ما التحقيقات الأخرى التي نالت إعجابك هذا العام؟

- أعتقد أن التحقيق الخاص بجهود جماعات الضغط داخل البرلمان كان قويا للغاية.

* ما السمات الخاصة اللازمة لإنجاز تحقيق صحافي، مثل الكاريزما أو الصبر والقدرة على التحمل؟

- أعتقد أن الصحافي المثالي لإجراء تحقيقات صحافية ينبغي أن يتميز بالإصرار والقدرة على قضاء ساعات وساعات في تقصي التفاصيل من دون أن يفقد الأمل في العثور على شيء قيم في النهاية. لذلك، أعتقد أن أهم صفتين هما المثابرة وقوة العزيمة.

* هل ترى أعداد الصحافيين العاملين بمجال التحقيقات الصحافية في زيادة أم نقصان؟

- أعتقد أنه بسبب المشكلات التي يواجها الحقل الإعلامي بالنسبة للتكاليف فإن أعداد الصحافيين المتخصصين في مجال التحقيقات في تناقص. لكن تنامي أعداد الشبكات الاجتماعية والقدرة على الولوج إلى شبكة الإنترنت وتبادل رسائل البريد الإلكتروني ووجود المدونات يعني وجود وفرة في الصحافيين الهواة الذين يحاولون سد الفجوة القائمة. وعليه، أرى أن التحقيقات الصحافية الحرفية في انحسار بطيء.

* هلا وصفت لنا ماهية العناصر التي تشكل تحقيقا صحافيا جيدا؟

- التحقيق الصحافي الجيد هو الذي يشكل أهمية للناس ويكشف لهم عن حقائق الأمور: مسار العمليات والتعاملات الفعلية والمشكلات القائمة خلف الستار. وأخيرا، ينبغي أن يترك التحقيق الصحافي تأثيرا، بأن يسبب تغييرا أو يدفع المجتمع لتناول مشكلة ما.

* عندما تفكر في صحافيين جيدين بمجال التحقيقات الصحافية، ما الأسماء التي ترد إلى ذهنك؟

- حسنا، أنا من معجبي بين غولداكر، الذي تحمل تحقيقاته طابعا قويا حادا، والذي أعتقد أنه لا بد في منتصف الثلاثينات من عمره. وأرى أيضا أن نيك ديفيز جيد للغاية. وهناك شخص ثالث يتعاون مع المكتب وأكن له قدرا بالغا من الاحترام، وهو راي فيتز والتر، المحرر السابق لـ«ذي وورلد إن أكشن».

* هل يجب أن تكون التحقيقات الصحافية نتاج عمل فردي، أم يمكن أن تشكل عملا جماعيا؟

- أعتقد أن التحقيقات الصحافية الأمثل تأتي كجزء من جهود فرق صغيرة تعمل معا، حيث إن عمل الأفراد معا يمكن أن يساعدهم على تبادل الأفكار حول كيفية المضي قدما في التحقيق.

* في اعتقادك، أيهما أكثر ملاءمة لهذا العمل: النساء أم الرجال؟

- في الواقع، من المستحيل تحديد إجابة عن هذا السؤال لأنني أعمل مع عدد متكافئ من الرجال والنساء هنا في المكتب. إن الأمر يتعلق بدرجة أكبر بالفرد ذاته وما يضفيه من شخصيته على التحقيق الصحافي. هناك صحافيون وصحافيات رائعون، وهناك أيضا صحافيون وصحافيات شديدو السوء. لذلك لا أعتقد أن الأمر يتعلق بكون الشخص رجلا أو امرأة.

* من بين 25 صحافيا حرا يعملون معك، كم منهم من النساء؟

- لدينا نحو 8 نساء، ينتمين جميعا إلى أعمار صغيرة نسبيا نظرا لأن المكتب يرمي لتدريب الجيل القادم من الصحافيين العاملين بمجال التحقيقات. لذا، فإنهن جميعا ينتمين إلى ما دون الأربعين من العمر.

* ما نمط القضايا الذي يجعلك راغبا في التحقيق بشأنها؟

- داخل المملكة المتحدة، لدي اهتمام شديد بمحاسبة مسؤولي الخدمات العامة وكيفية عمل قطاع الخدمة العامة لدينا. دوليا، أعتقد أن الحرب ضد الإرهاب تمثل قضية ينبغي تفحصها وتحليلها بحرص. وعلينا التأكد من أن الحكومات تعمل في إطار حدود حقوق الإنسان وإرشادات معاهدة جنيف.

* هل هناك ما تود إضافته؟

- لدي رغبة قوية في الإنصات إلى صحافي يتحدث العربية. وأود التأكيد لقرائكم على أننا منظمة إعلامية مستقلة تماما، ليس لديها تحيز على أساس النوع أو العرق أو اللون أو العنصر. إن اهتمامي ينصب على كشف جميع صور الفساد والإخفاقات. لذا، أود استغلال هذه الفرصة كي أخبر الصحافيين الآخرين بأن بابنا مفتوح أمام جهود التعاون. وقد عملت مع القناة الإخبارية الرابعة قبل عملي في المكتب، وتتمتع القناة بسمعة كبيرة في تغطيتها للقضايا شرق الأوسطية.

=