الصحافة البريطانية تكشر عن أنيابها مع اقتراب الانتخابات البرلمانية

تنحاز سياسيا وآيديولوجيا ودون خجل كما لو كانت الأمور على عهدها قبل عشرات السنين

الانتخابات الحالية خلقت حالة من الاصطفاف الصحافي عكست في مجملها صراعات آيديولوجية قديمة بين اليسار واليمين (ليس المتطرف) والمقبول من قبل المؤسسة الحاكمة (أ ب)
TT

«الحقيقة لا تقدر بثمن» مانشيت الغلاف للأعداد الخاصة التي بدأت تصدرها صحيفة «الإندبندنت» البريطانية اليومية منذ أيام مع اقتراب موعد الانتخابات البرلمانية العامة المقررة في 6 مايو (أيار) المقبل، أي بعد أسبوع. وبدأت الصحيفة توزيع هذا العدد الخاص اليومي مجانا خارج محطات القطارات في جميع أنحاء بريطانيا، وعلى صفحاته بدأت تحاكم وبدقة سياسات الأحزاب المتصارعة على السلطة. حتى برامج الأحزاب الصغيرة مثل حزب «رسبيكت» الذي أسسه النائب جورج غالوي أعطيت حقها في التغطية. وبهذا تحاول الجريدة أن تكون متوازنة دون انحياز في عملها المهني. لكن الكثير من الصحف قد كشرت عن أنيابها وانحازت من دون خجل، مما يشكل صعوبة في عدم الانحياز للجرائد الأخرى.

لكن انحياز الصحافة البريطانية ليس بالشيء الجديد، خصوصا مع اشتداد الأزمات وتباين الخلافات السياسية والآيديولوجية بين الأحزاب. الانتخابات البرلمانية الحالية اعتبرت من قبل الأحزاب المتنافسة والصحافة بأنها نقطة تحول وحالة جديدة في الصراع السياسي بين الأحزاب الرئيسية مع دخول حزب الديمقراطيين الأحرار، الذي ظل لعشرات السنين الحزب الثالث غير المؤثر، حلبة الصراع ومنافسته بقوة الحزبين الرئيسيين، المحافظين والعمال، اللذين ظلا يتناوبان على السلطة دون منازع لأكثر من نصف قرن.

هذا الوضع خلق حالة من الاصطفاف الصحافي، عكست في مجملها صراعات آيديولوجية قديمة بين اليسار واليمين (ليس المتطرف بشقيه) والمقبول من قبل المؤسسة الحاكمة. ولهذا قد تصنف صحف مثل «الغارديان» و«الإندبندنت» في هذه الحالة البريطانية الخاصة بأنها يسارية وأخرى مثل «التايمز» و«الديلي تلغراف» بأنها يمينية. لكن هناك عدد من الصحف الشعبية التي قد تنحاز إلى هذا الحزب أو ذاك لاعتبارات كثيرة، وأحيانا تغيير هذه خطها السياسي وتتأرجح في دعمها الأحزاب بين اليمين واليسار، أي بين العمال والمحافظين.

ملايين من أبناء الطبقة العاملة البريطانية يقرأون «الصن»، الصحيفة البريطانية الأكثر شعبية التي تبيع أكثر من أربعة ملايين نسخة في اليوم. لكن على الرغم من ميولها اليمينية وكذلك دعمها الواضح لحزب المحافظين، فإن هناك اعتقادا بأن هؤلاء القراء رغم انحياز الجريدة السياسي الواضح يصوتون في نهاية المطاف إلى حزب العمال.

وعلق أحد قادة حزب العمال سابقا مؤكدا ذلك، إذ قال «على الرغم من أنهم يقرأون (الصن)، فإنهم في يوم الانتخابات يختارون حزبنا». لكن يبقى هذا الموضوع محل خلاف. الاعتقاد السائد أن مارغريت ثاتشر فازت بالانتخابات عام 1979 بعد أن طلبت الجريدة من جماهير القراء التصويت لصالح المرأة التي لم تصبح حديدية بعد. كما دعمت الصحيفة مارغريت ثاتشر في حملاتها الانتخابية التالية، وفازت عدة مرات وبدعم من الصحيفة.

السؤال هو هل فازت ثاتشر بحملاتها الانتخابية وتربعت على رأس السلطة الحاكمة لثلاث دورات انتخابية بسبب سياساتها أم بسبب دعم بعض الصحف لها؟ من الصعب الإجابة عن هذا السؤال. لكن الواضح هو أن الصحافة البريطانية تنحاز سياسيا في مواقفها ليس فقط في مجمل تراكمها السياسي وتوجهاتها أو من خلال معالجتها الأمور المحلية والدولية، وإنما من خلال ما تكتبه وبشكل واضح لصالح هذا الحزب أو ذاك أو هذه القضية أو تلك وفي فترات سياسية واضحة مثل الانتخابات البرلمانية.

يقول جون لويد المحرر المخضرم الذي يعمل لدى صحيفة «فايننشيال تايمز» في تصريحات لـ«واشنطن بوست» إن «الصحف البريطانية تنحاز حزبيا وبشكل واضح أكثر من نظيرتها الأميركية»، مضيفا أن الصحف الشعبية (تابلويد) تنحاز بشكل واضح سياسيا وحزبيا، وهذا الانحياز لا يقتصر على الصحف الشعبية، لكنه يبدو جليا أيضا عند الصحف الرزينة، فترى «الغارديان» تنحاز لصالح اليسار، وفي مقابل ذلك تنحاز «التايمز» و«الديلي تلغراف» إلى اليمين.

صحيفة «الديلي ميرور» الشعبية التي كانت تميل دائما إلى حزب العمال، كتبت شعارا على صفحتها الأولى عام 2003 يقول «لا للحرب» ضد العراق، وهذا الشعار كتب من قبل الصحيفة بطريقة سهلت على من يشتريها استخدامه كلافتة تعلق على عصا لأي مشترك في المظاهرة الشهيرة التي تراوحت تقديرات المشتركين فيها بين مليون أو مليونين. وكان واضحا من خلال الصور التي التقطت للمظاهرة الخدمة المجانية التي قدمتها صحيفة «الديلي ميرور» للمتظاهرين وفي دعم الجهود المعادية للحرب، وضد توني بلير شخصا وحزب العمال، التي تدعمه الصحيفة بشكل عام.

ولكن هذه الصحف الشعبية تقلب انحيازها أحيانا لأسباب كثيرة. وخير مثال على ذلك هو دعم صحيفة «الصن» لحزب العمال تحت قيادة توني بلير. إذ بعد 18 عاما من تربع حزب المحافظين على السلطة والتذمر الاجتماعي وفترات الركود الاقتصادي الذي شهدته البلاد خلال حكم مارغريت ثاتشر، جاء صعود حزب العمال، وخصوصا العمال الجديد ممثلا بتوني بلير مبشرا بعهد جديد بالنسبة للصحف اليمينية والمحافظة، التي ربما وجدت في قيادة حزب العمال الجديد امتدادا لحزب المحافظين.

وتجد دائما قادة الأحزاب البريطانية تواقون لخلق علاقات مع بعض الصحف الشعبية، حتى يضمنون نوعا من الدعم خلال الحملات الانتخابية. وقد أفصحت ومن دون خجل بعض الصحف، مثل «الصن» و«الديلي تلغراف»، أنها ستدعم حزب المحافظين في الحملة الانتخابية البرلمانية.

وهذا لا يعني أن الصحف المحسوبة على «اليسار» مثل «الغارديان» ستلتزم الحياد، على الرغم من أنها لم تفصح بشكل علني عن دعمها حزب العمال. إلا أن توجهاتها الليبرالية والمهنية قد تجعل من الصعوبة عليها الانحياز الكامل لحزب العمال وتجاهل حزب الديمقراطيين الأحرار.

وخلال الحملة الانتخابية خصصت صحيفة «الغارديان» مساحات واسعة على صفحاتها للمثقفين من ممثلين وكتاب مسرح وغيرهم من المتنفذين في الحقل الثقافي، وهؤلاء لهم مواقف نقدية واضحة من حزب المحافظين وينتمي معظمهم للتيار الليبرالي. كما أنها خصصت مساحة يومية للكاتب المسرحي ديفيد هير، الذي يتناول يوميا موضوع الفنون ومدى تأثرها من التقليصات المقترحة لحزب المحافظين.

الاعتقاد السائد لدى الكثير من المحللين أن هذه الانتخابات تختلف عن سابقتها لأن السباق قد دخله ولأول مرة متسابق ثالث لم يكن معروفا من قبل أو لم يكن يعيره أي من الحزبين الرئيسيين أي اهتمام. كما أن وسائل الإعلام سلكت سابقا نفس الطريق في التعامل مع نيك كليغ زعيم حزب الديمقراطيين الأحرار. ولكن بعد الحوار الحي والمفتوح بين زعماء الأحزاب الثلاثة اختلفت الأمور. وقد تم تنظيم مناظرتين بينهم وستقام المناظرة الثالثة اليوم، الخميس، وستكون الأخيرة قبل إجراء الانتخابات الأسبوع المقبل.

وكان لا بد أن تعكس الصحف ما شعر به جمهور الناخبين التي عكستها استطلاعات الرأي المتتالية، التي أظهرت ولأول مرة أن الصراع السياسي البريطاني قد دخل ولأول مرة منعطفا جديدا لم يكون معروفا من قبل. وهذا العامل الجديد فتح الباب على مصراعيه، وكان على الصحف أن تعكس هذا التوجه وكذلك خوفها من المجهول.

وهذا ما عكسته صحيفة «الإندبندنت» في تقديمها لعددها المجاني حول الانتخابات قائلة: «الحملة الحالية قد تؤدي إلى ثورة بريطانية حقيقية»، مضيفة أن «السؤال الذي يطرح نفسه الآن هو ليس من سيشكل الحكومة القادمة. إن السؤال يخص مستقبل النظام السياسي البريطاني بأكمله».

ولهذا فقد كشرت الصحافة عن أنيابها أكثر من أي فترة مضت في انحيازها الواضح لهذا الحزب أو ذاك.

وأفصح تريفور كفنا، المحرر السياسي لصحيفة «الصن»، ومن دون خجل في تصريحات لإذاعة الـ«بي بي سي» الرابعة أن صحيفته ستدعم حزب المحافظين «لأن حزب العمال، وبعد 13 عاما من تربعه على رأس السلطة قد خيب آمال الملايين من الناس».

وفي كل يوم وعلى الرغم من أن استطلاعات الرأي التي تقوم بها مؤسسات مستقلة تستخدم طرقا علمية في الحصول على نتائج دقيقة تعكس توجهات الناخبين الجديدة، فإن الصحف تظهر انحيازها من خلال محلليها الذين يحاولون إظهار مرشحهم المفضل، وهم غوردن براون عن حزب العمال، وديفيد كاميرون عن حزب المحافظين، ونيك كليغ عن حزب الديمقراطيين الأحرار. وبعد المناظرات التي جمعت الثلاثة تطل عليك الصحف المختلفة بعناوين تظهر انحيازها، إذ تصر الصحف على أن مرشحها المفضل قد «سرق الأضواء وكان أفضل من الاثنين الآخرين». ماذا ستكون عناوين الصحف يوم غد، الجمعة، بعد المناظرة المزمع عقدها اليوم، الخميس.