«ويكيليكس».. موقع إلكتروني غامض يفضح الأسرار الحكومية

يمارسون الرقابة على المعلومات تحت قاعدة «إما أن تكون شفافا أو ستأتيك الشفافية بنفسها»

موقع «ويكيليكس» الإلكتروني المتخصص في كشف الأسرار
TT

يتسم موقع «ويكيليكس» المتخصص في كشف الأسرار، بالسرية الشديدة فيما يتعلق بشؤونه الخاصة. ولا يذكر الموقع عناوين ولا أرقام تليفونات ولا أسماء المسؤولين البارزين فيه. ورسميا، لا يوجد موظفون تابعون للموقع، وليس لديه مقر، ولا حتى رقم بريدي.

ومع ذلك، يقدّم أشخاص وثائق حساسة للموقع بهدف نشرها على الموقع ليراها الجميع بمعدل نحو 30 مرة يوميا. وجميع الأهداف مستباحة: رسائل بريد إليكتروني خاصة بسياسيين وتقارير سرية لوكالة الاستخبارات المركزية الأميركية ومذكرات شركات ومقاطع الاستطلاع المصورة.

وسلّطت الأضواء الشهر الماضي على الموقع، الذي يبلغ عمره ثلاثة أعوام، بعدما نشر مقطع فيديو عسكريا أميركيا ظهرت فيه مروحية تهاجم عراقيين، وجذب ذلك عددا كبيرا من المشاهدين بمختلف أنحاء العالم.

وربما كان ذلك مجرد إحماء، إذ يجري التجهيز حاليا لنشر مواد مسربة جديدة، ومن بينها ما وصفه مسؤولون في «ويكيليكس» بأنه مقطع فيديو مفاجئ عن إصابات وقتلى بين المدنين في أفغانستان، وهو جزء من كنز من التسجيلات والوثائق السرية بلغت أكثر من مليون تسجيل.

وقد أثار الموقع قلقا رسميا ومخاوف من جانب شركات، ومع ذلك يستفيد «ويكيليكس» من التقنية الجديدة ويعتمد قائمة متزايدة من الداعمين الماليين ويقترب من شيء يقول الموقع إنه سعى وراءه طويلا: الوقوف في مواجهة السرية الحكومية المبالغ فيها وتمكين النشطاء والصحافيين والآخرين الذين يسعون إلى تحدي ذوي النفوذ.

وقد تميّز موقع «ويكيليكس» في اتجاه يعتمد على طبيعيته السرية، إذ لا يوجد للموقع مقر ولا بنية تحتية تقليدية، بل يعتمد بالكامل تقريبا على خوادم ومساعدين في عشرات الدول. ويمكن الوصول إلى الموقع من كل مكان يوجد فيه إنترنت، ولذا فهو محصن نسبيا من ضغوط الرقابة والمحامين والحكومات المحلية. ويقول مؤسسه إن من يقومون بتقديم المواد إلى الموقع يفعلون ذلك من دون الكشف عن هويتهم.

ويقول دانيل شميت، وهو أحد خمسة مديرين أساسيين داخل «ويكيليكس»، إن الهدف هو جعل الموقع مستمرا. ويشير إلى أن«رسالة ويكيليكس إلى من يمارسون الرقابة على المعلومات هي: إما أن تكون شفافا أو ستأتيك الشفافية بنفسها».

وقد أثارت تكتيكات هذه المجموعة غضب حكومات في مختلف أنحاء العالم، وقد كان هناك رد فعل من جانب البعض. وقد سعت الصين أكثر من مرة إلى حظر الموقع. ورفعت شركات دعاوى قضائية ضده، ولكن لم تكلل أي منها بالنجاح.

ويقول تقييم لوزارة الدفاع الأميركية يعود إلى عام 2008 - كتب عليه «سري/لا ينشر للمواطنين الأجانب» ومع ذلك نشره موقع «ويكيليكس» على شبكة الإنترنت في مارس (آذار) - إنه «يجب أن يفترض أن wi.kileaks.org حصل أو سيحصل على وثائق حساسة أو سرية خاصة بوزارة الدفاع الأميركية في المستقبل»، مشيرا إلى الكثير من الحالات التي ظهرت فيها وثائق لوزارة الدفاع على الموقع.

ويقترح التقرير «تحديد هوية أو كشف أو إنهاء توظيف من يقومون بتسريب المعلومات سواء كانوا يعملون حاليا أو في السابق أو اتخاذ إجراءات قانونية ضدهم» لاختراق حاجز السرية الذي يحيط بمصادر موقع «ويكيليكس» ويحميها من التدقيق.

وتراقب المنابر الإخبارية ما يحدث عن كثب، ففي الوقت الذي تقوم فيه المؤسسات الإذاعية والصحف بتقليل عدد العاملين لديها، فإن وصول منظومة تسريب معلومات عالمية لا تضبطها القواعد الصحافية التقليدية المتعلقة بنسب المواد إلى مصدرها أو تحقيق توازن داخل الموضوع يثير اهتماما كبيرا وشعورا بالترقب.

ويقول روبرت ستيل، المتخصص في القيم الصحافية داخل معهد بوينتر في بيتسبرغ بولاية فلوريدا: «هناك احتمالات جديدة مع الاستخدام المبتكر للإنترنت. ولكن من المهم الالتزام بالدقة والنزاهة والاستقلالية الصحافية». وأضاف: «فارق كبير بين الصحافة ومجرد استعراض المعلومات».

ويأتي شميت (32 عاما)، وهو ألماني يعيش داخل برلين الشرقية سابقا، ضمن مجموعة من الصحافيين والفنيين والنشطاء يديرون موقع «ويكيليكس» منذ تأسيسه قبل ثلاثة أعوام. وكان شميت، وهو رجل طويل ورشيق يرتدي نظارة ذات إطار داكن وله لحية أنيقة، يعمل مسؤول شبكة الكومبيوتر لدى شركة خاصة قبل أن يتركها ويتفرغ لموقع «ويكيليكس». وكما هو الحال مع المديرين الآخرين، ومن بينهم المؤسس جوليان أسانغ، وهو صحافي استرالي، لا يحصل شميت على راتب نظير ما يصفه بأنه عمل لدوام كامل يستغرق ساعات طوالا، وقلما يحصل على إجازة.

ويعمل أعضاء الفريق الأساسي من منازلهم، وبالنسبة إلى شميت فإنه يعمل من خلال جهازي كومبيوتر محمولين داخل شقته الصغيرة. ويقومون بدراسة كل مادة جديدة تصل إليهم. ويتم إهمال نحو ثلث المواد على الفور، وتكون من بينها اعترافات شخصية أو طرائف أو أشياء مزورة. ويتم فحص المواد الباقية بمساعدة شبكة من مئات الخبراء المتطوعين، مع متخصصين في القانون وتحليل خطوط اليد وتشفير مقاطع الفيديو. ولتقليل احتمالية وصول تهديدات أو التلويح باتخاذ إجراءات قانونية، لم يعلن أي فرد عن دوره، سوى شميت وأسانغ. ويقولان إن ما لا تقوم به المؤسسة هو إبعاد المواد التي تعتمد على آراء من الداخل بشأن ما يعتقد أنه شيء هام أو مقبول من الناحية السياسية.

وقد استهدفت بعض التسريبات الشهيرة شخصيات بارزة في اليمين السياسي، وكان الموقع وسيلة عرض رسائل بريد إليكتروني شخصية مسروقة كتبتها الحاكمة السابقة لولاية ألاسكا سارة بالين «الجمهورية»، وكشف الموقع دليلا أميركيا يعود لعام 2004 حول التعامل مع السجناء في غوانتانامو بكوبا.

وقد استهدف الموقع أيضا شخصيات وقضايا مرتبطة باليسار. ويقول شميت إن الخطة الأصلية للمجموعة المؤسسة للموقع كانت تهدف إلى التركيز على الحكومات الغربية وسياساتها وكشف الفساد والأخطاء التي ترتكبها الأنظمة الحاكمة الأوتوقراطية داخل العالم النامي.

وقد جذبت تصريحات «ويكيليكس» ذات النبرة الحادة عن بعض موادها انتقادات من نقّاد إعلاميين وآخرين يتهمون الموقع بأنه يمارس الضغط. وجاءت بعض من أشد الانتقادات عقب شريط مصور عن العراق الشهر الماضي، ظهرت فيه مروحية أباتشي أميركية تهاجم مجموعة من العراقيين داخل بغداد وقتلت الكثير من المدنيين، ومن بينهم موظفان في خدمة «رويترز» الإخبارية. ونشر على موقع «ويكيليكس» في الخامس من أبريل (نيسان) مقطع مصور مدته 17 دقيقة تبرع به مصدر لم تحدد هويته وقام متطوعون بفك شفرته. وكان المقطع تحت عنوان: «قتل غير متعمد».

ويظهر مقطع الفيديو الذي صور بكاميرا عسكرية ويعود تاريخه إلى شهر يوليو (تموز) 2007 مجموعة من الرجال العراقيين، بعض منهم مسلحون، تطلق عليهم النيران من مدفع مروحية هليكوبتر بينما كانوا يسيرون في أحد شوارع بغداد. وبعد ذلك قامت المروحية بتدمير شاحنة بهدف منعها من مساعدة جريح وقتلت السائق، وأصيب طفلان كانا داخل الشاحنة بجراح خطيرة.

وكان ذلك بعد قتال نشب داخل نفس المنطقة، ويشير الصوت المسجل إلى أن الطيارين حسبوا أن الرجال متمردون شاركوا في الهجوم السابق. ومنع البنتاغون نشر مقطع الفيديو لوقت طويل، وفي تصريح في 5 أبريل، قال إنه يأسف لخسارة أرواح أبرياء.

وبلغت نسبة مشاهدة نسخ محررة وغير محررة من المقطع نحو 8 ملايين مرة، وقد أثار شعورا بالصدمة وتلت ذلك إدانات كثيرة. وانتقد البعض الموقع وشبهوه بوزير الإعلام العراقي السابق (محمد سعيد الصحاف) إبان حكم صدام حسين.

ومنذ إصدار مقطع الفيديو، دافع أسانغ ومسؤولون آخرون داخل «ويكيليكس» عن بث هذه الصور، وقالوا إنها تأتي في مقابل صور تقدم على شاشات التلفاز وتقدمها هوليوود. ويقول شميت: «لقد ألفنا مشاهدة أعمال العنف غير الحقيقية، ولكننا نشاهد حاليا شيئا حقيقيا وآلاما حقيقية ووحشية حقيقية. كيف يمكن أن يكون لك رأي حول هذه الحرب إذا لم تكن تعرف الصورة التي تبدو عليها؟» ومع تزايد الخلاف حول مقطع الفيديو، دخل موقع «ويكيليكس» ما يشبه مرحلة انسحاب. ومنذ منتصف ديسمبر (كانون الأول)، تجمد الموقع الإليكتروني حيث تقضي قيادات المجموعة وقتا مطولا لإعادة تنظيم البنية الفنية ووضع استراتيجيات لتحقيق استقرار في مصادر التمويل. وحتى الوقت الحالي، يعتمد موقع «ويكيليكس» على تبرعات متطوعين وأرصدة أعضاء الفريق المصرفية في تغطية التكاليف السنوية، التي يقال إنها تتجاوز 300 ألف دولار، علما بأن معظم المبلغ يستخدم لدفع مقابل الخوادم والدعم الفني.

واعتمادا على تاريخه، تقوم المجموعة بالبحث عن مساهمين جدد ومنظمات لا تهدف لتحقيق أرباح، بهدف جمع تمويل لشبكة عالمية تكون لها صلات مع مقدمي الأخبار المحليين بمختلف القارات.

ويقول مسؤولون في موقع «ويكيليكس» إنهم يريدون تفعيل المنابر الإعلامية التقليدية بتوسيع مدى التغطية وإيجاد قوة تحقيقية في وقت تقوم فيه الكثير من الصحف والمؤسسات الإذاعية بتخفيض ميزانياتها.

ويقول شميت: «لا نهدف إلى الاستيلاء على وظائف الصحافيين. بل على العكس، نسعى إلى جعل الصحافة أقل كلفة وتمكين الصحافيين من القيام بأشياء لا يمكن لصحيفة القيام بها وحدها».

* خدمة «واشنطن بوست» خاص بـ«الشرق الأوسط»