صحيفة «لوموند» الفرنسية تقلب صفحة من تاريخها وتنقذ نفسها من الإفلاس

المجموعة تمردت على رغبات الإليزيه واختارت «ثلاثيا» يلتزم بدفع 100 مليون يورو ويحافظ على استقلاليتها

صحيفة «لوموند» الفرنسية تنقذ نفسها من الإفلاس (رويترز)
TT

حصل ذلك صباح التاسع من يونيو (حزيران) الماضي. الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي استدعى يومها مدير تحرير صحيفة «لوموند» ورئيس مجلس إدارتها أريك فوتورينو ليبلغه بكلام لا لبس فيه أنه لا يريد أن تباع هذه الصحيفة العريقة التي رأت النور عام 1944 بناء لرغبة بطل تحرير فرنسا من الألمان النازيين الجنرال شارل ديغول إلى الثلاثي المتشكل من ثلاثة رجال أعمال يميلون يسارا وأبرزهم بيار بيرجيه، المدير السابق لمجموعة «إيف سان لوران» ورفيق درب هذا الأخير. والاثنان الآخران هما: المصرفي بيار بيغاس، المساعد السابق لمدير صندوق النقد الدولي دومينيك شتروس خان والمدير الحالي لمصرف لازار الخاص، في أوروبا وكزافيه نييل، مؤسس شركة «إيلياد» لخدمات الهاتف الجوال والإنترنت.

ولكي تغيب كل الشكوك من ذهن فوتورينو، قال له ساركوزي إنه في حال تمت عملية البيع للثلاثي المذكور، فإن الدولة ستمتنع عن مساعدة صحيفة «لوموند» وستحجب مبلغ العشرين مليون يورو الذي كانت تستعد لمنحه لمطبعة الصحيفة الغارقة في الديون.

والواقع أن حسابات ساركوزي لم تكن في محلها، لا بل يمكن القول إن مجلس الرقابة على مجموعة «لوموند» الذي صوت يوم الاثنين الماضي بفارق صوت واحد (11 صوتا من أصل عشرين) لصالح الثلاثي المذكور، عبر عن معارضته لتدخل رئاسة الجمهورية في هذا الملف، ما اعتبر سعيا لوضع اليد عليها واستباقا للاستحقاقات الانتخابية القادمة خصوصا الاستحقاق الرئاسي في ربيع عام 2012.

وليس سرا أن للرئيس ساركوزي صداقات قوية في عالم الإعلام التجاري وتحديدا المرئي والمسموع منه. فهو صديق لمارتين بويغ، رئيس شركة «بويغ» التي تملك القناة الأولى في التلفزيون الفرنسي وهي الأقوى والأكثر تأثيرا. كما أنه يقيم علاقات حميمة مع أرنو لاغاردير، الذي يملك إذاعة «أوروبا رقم واحد» فضلا عن صداقته لرئيس مجموعة «بولوريه» التي تملك قناة تلفزيونية وصحفا مجانية.

وفي ميدان الصحافة المكتوبة، فإن صحيفة «لوفيغارو» اليمينية التي يملك أكثرية أسهمها سيرج داسو، رئيس شركة «داسو» للصناعات الدفاعية سابقا عضو مجلس الشيوخ، مكسوبة الولاء لساركوزي. ولاكتمال الصورة، فإن ساركوزي هو الذي يعين رئيس الإذاعات الحكومية التابعة لـ«راديو فرانس» ورئيس الإعلام الخارجي من تلفزة وإذاعات، والأهم من ذلك كله رئيس مجموعة «فرانس تلفزيون» التي تضم الشبكتين الثانية والثالثة وكل القنوات المحلية ما يجعل منه أكبر رئيس تحرير في كل الاتحاد الأوروبي.

انطلاقا من هذه المعطيات، فإن انتصار ساركوزي في «معركة لوموند» لو تم فعلا، لكان يعني فرض هيمنة شبه مطلقة على الإعلام الفرنسي. وكانت ستترافق مع التخلص من فكاهيين معروفين «ستيفان غيون وديديه بورت» في إذاعة «فرانس أنتير» تم تسريحهما من عملهما بحجة تغيير شبكة البرامج. غير أن الأسباب الحقيقية أنهما ما كانا يتورعان عن استهداف السلطة بكل مستوياتها وبسخرية لاذعة.

وهكذا، فإن مجلس الرقابة على مجموعة «لوموند» التي تضم الصحيفة ذات الاسم نفسه ومجموعة من المطبوعات الدورية والمطبعة الخاصة بها اختارت أن تتحدى ساركوزي وأن تصوت لصالح الثلاثي الذي بقي عمليا وحده في الميدان بعد انسحاب الثلاثي المنافس والمتشكل من كلود بيردرييل، رئيس مجموعة «نوفيل أوبسارفاتور» الصحافية المعتبرة عادة في صف اليسار «ولكنها في المناسبة نظر إليها على أنها مرشح ساركوزي لشراء (لوموند)»، وشركة «أورانج» للإنترنت التي تملك الدولة نسبة 20 في المائة من أسهمها وأخيرا من مجموعة «بريزا» الإسبانية التي تملك منذ سنوات حصة في رأسمال «لوموند».

وفي أي حال، فإن دخول الثلاثي الرابح بقوة في رأسمال «لوموند» يعني عمليا شيئين متلازمين: الأول، نهاية عهد وبداية عهد جديد، والثاني إنقاذ مجموعة «لوموند» من الإفلاس الذي كانت ستؤول إليه لو لم تتم هذه العملية ذات الأبعاد السياسية والاقتصادية والتحريرية.

وليست «لوموند» صحيفة ككل الصحف، إذ أن لها على الساحة الإعلامية الفرنسية وضعية خاصة اكتسبتها طيلة سنوات بفضل جديتها ورصانة محرريها وبعدها عن الضغوط المالية بفضل تركيبة رأسمالها وقوة موقع محرريها في أسلوب اتخاذ القرار. فالصحيفة التي أسسها هوبير بوف ماري في 18 ديسمبر (كانون الأول) عام 1944 كانت بداية من صفحة واحدة على وجهين. لكنها تطورت بسرعة لتصبح صحيفة النخبة. واختارت سياسيا موقع يسار الوسط من غير أن يعني ذلك ميلها المنهجي لهذا التيار الفكري ومعارضتها للتيار الآخر.

وخلال السنوات الأخيرة، عاشت «لوموند» أزمات مالية واقتصادية متلاحقة مثل بقية الصحافة المكتوبة بسبب تطور الإنترنت وتناقص العائدات الإعلانية والمنافسة الشديدة من قبل الصحف الأخرى ومنها الصحف المجانية، كما لم تنج من المشكلات السياسية بعد أن مالت مع مديرها السابق جان ماري كولومباني إلى يمين الوسط ووقعت تحت تأثير ألان مينك وهو اقتصادي يميني قريب من الرئيس ساركوزي.

غير أن الأزمة الأخيرة التي عانت منها «لوموند» كانت الأخطر وكادت أن تودي بها بسبب الديون التي تراكمت عليها والتي دفعت بها إلى حافة الهاوية إلى درجة أن الثلاثي الذي نجح في الفوز بها سيضخ في الأيام القادمة مبلغ عشرة ملايين يورو لدفع رواتب الموظفين ومواجهة الاستحقاقات المالية الملحة. وتبلغ ديون لوموند 94 مليون يورو. وفي العام الماضي، خسرت المجموعة 25.2 مليون يورو فيما بلغت مبيعاتها 397 مليون يورو. وبلغ معدل توزيعها اليومي للعام نفسه 288 ألف نسخة متراجعا بذلك بقوة عما كان عليه قبل عام واحد «أكثر من 300 ألف نسخة». لكن الصحيفة بقيت الأكثر توزيعا خارج فرنسا.

وتعاني المجموعة الصحافية من ارتفاع حجم الرواتب ومن العدد المرتفع لموظفيها محررين وموظفين من كل الفئات إذ أنها تستخدم أكثر من ألف شخص بينهم 288 محررا لصحيفة لوموند وحدها. والجريدة المذكورة تتميز بأنها تصدر بعد الظهر وتحمل تاريخ اليوم التالي. ومن الدلائل التي تؤشر على أزماتها منذ سنوات اضطرارها لتغيير مكاتبها أربع مرات. وكانت تعرف طيلة عشرات السنوات بصحيفة «شارع الإيطاليين» لأنها كانت تصدر من بناية مطلة على الشارع المذكور.

وبعيدا عن الجانب السياسي، فإن تفضيل خطة الثلاثي «بيرجيه - بيغاس - نييل» يعود أيضا لطبيعة العرض المقدم ماليا وللبرنامج التحريري المعروض. فماليا، يلتزم الثلاثي الفائز، إلى جانب تقديم عشرة ملايين يورو فورا، باستثمار مبلغ مائة مليون يورو لإنقاذ المجموعة من الغرق المالي. ومن الناحية التحريرية، يلتزم الثلاثي بالمحافظة على الاستقلالية التحريرية للصحيفة وللمطبوعات الأخرى وهو ما كان يميزها عن غيرها. وستقوم بين الثلاثي والإدارة الحالية للمجموعة وطيلة ثلاثة أشهر مفاوضات لبلورة الخطة ورسم مستقبل المجموعة وهندستها الداخلية وتوزيع الحصص وحقوق التصويت وحق النقض وخلاف ذلك. وحتى تاريخه، كانت نقابة جمعية المحررين تتمتع بحق النقض. ويعود إليها الفضل في نسف خطط الإليزيه وإيصال الثلاثي الرابح إلى وضع يده على المجموعة.

غير أن ثمة جدلا أثير بخصوص شخصية أحد أطراف الثلاثي وهو رجل الأعمال كزافيه نييل البالغ من العمر 42 عاما والذي تقدر ثروته بحدود 2.5 مليار يورو جمعها سريعا بفضل «حسه» وذكائه في ميدان الأعمال. غير أن نييل لم يكن دائما شفافا إذ أن بعض هذه الثروة جاء عن طريق الصناعة الجنسية (البورنوغرافية) وهو ما ركزت عليه الصحافة البريطانية بعد إتمام عملية الشراء. وكانت المفارقة أن تقع صحيفة تميزت بالرصانة وباللغة المرهفة وبتقصي الخبر والتحقق من صحته في أيدي مجموعة من بينها نييل.

أما الأشهر بين الثلاثي فهو رجل الأعمال بيار بيرجيه المعروف أنه عاش مع المصمم والمبدع إيف سان لوران واشتهر بدفاعه عن المثليين الجنسيين وكان مقربا من الرئيس فرنسوا ميتران ومن اليسار بشكل عام. وأسهم بيرجيه في رأسمال الكثير من المجلات القريبة من الخط اليساري وهو يشتهر بكونه محسنا كبيرا ومدافعا عن القضايا الإنسانية.