الإعلام الباكستاني: انقسام داخل الدوائر الحكومية بسبب عاصفة «ويكيليكس»

البرامج الحوارية استثمرت القضية.. وغضب في الجيش والاستخبارات.. و«الخارجية» مشتتة بين الموقفين العسكري والسياسي

تغطية صحيفة «ذا دون» لفضيحة وثائق «ويكيليكس» («الشرق الأوسط»)
TT

رصدت الصحف الباكستانية انقساما داخل الدوائر الحكومية الباكستانية خلال أقل من أسبوع من قرار موقع «ويكيليكس» (وهو موقع يهتم بالشأن العام مقره الولايات المتحدة) نشر الآلاف من الوثائق السرية الخاصة بوزارة الدفاع الأميركية، تتألف غالبيتها من تقارير استخباراتية تتهم جهاز الاستخبارات الداخلي باستمرار علاقاته مع مسلحين تابعين لحركة طالبان. وعلى الرغم من أن الانقسامات داخل الدوائر الحكومية الباكستانية لم يتسبب فيها مباشرة نشر هذه الوثائق السرية، فإنه من الواضح أن العاصفة الدبلوماسية التي تسببت فيها المزاعم الواردة في هذه الوثائق كانت السبب في انقسام خطير داخل صفوف الحكومة.

وفور تسريب «ويكيليكس» الوثائق السرية، اتهم رئيس الوزراء البريطاني الأجهزة الأمنية الباكستانية بالاتصال بمسلحين تابعين لحركة طالبان على الرغم من كونها جزءا من التحالف الدولي ضد الإرهاب. وكان تصريح رئيس الوزراء البريطاني معتمدا على أشياء كشف عنها في الوثائق.

وقد أدى ذلك إلى أزمة دبلوماسية بين الدولتين، في وقت تصادف فيه أن يقوم الرئيس آصف علي زرداري والمدير العام للاستخبارات الباكستانية أحمد شوجا باشا بزيارة لندن في زيارتين منفصلتين خلال الأسبوع الأول من أغسطس (آب).

قام المدير العام للاستخبارات الداخلية الباكستانية بإلغاء زيارته إلى لندن، حيث كان مقررا أن يعقد محادثات مع نظيره البريطاني عن القضايا ذات الصلة بالإرهاب. وعلى الجانب الآخر، رفض الرئيس زرداري إلغاء زيارته الرسمية إلى لندن على الرغم من الضغوط من البعض داخل الحكومة، حسب ما نقلته صحيفة «ذا دون» الباكستانية. «لم يختلف قيادات حزب الشعب الباكستاني مع القيادات العسكرية فقط، بل مع الخارجية التي يقودها أحد قادة الحزب. وعبر الجيش عن رفضه بعد أن ألغى مدير الاستخبارات الداخلية زيارته المرتقبة إلى المملكة المتحدة. وبعد يوم من النقاشات المحمومة، قالت مصادر إن القرار الأخير على النحو التالي - سيمضي الرئيس زرداري في زيارته إلى المملكة المتحدة، ويقوم مدير الاستخبارات الداخلية بإلغاء زيارته وستقوم وزارة الخارجية المشتتة بين الموقفين العسكري والسياسي باستدعاء مسؤول من المفوضية العليا البريطانية».

وبصورة عامة تقوم وسائل الإعلام الباكستانية بإيراد تقارير عن الخلافات الدبلوماسية، التي بدأت مع نشر وثائق سرية أميركية. وفي البداية، جاء تبادل الكلام الساخن بين رئيس الوزراء البريطاني ومسؤولين من وزارة الخارجية الباكستانية. وجاء ذلك على الصفحات الأولى من كبريات الصحف الباكستانية.

ثانيا، أعطت وسائل الإعلام الباكستانية تغطية واسعة لتعليق الرئيس الأفغاني حميد كرزاي، الذي بدا للبعض أنه حاول من خلاله حث الدول الغربية على الضرب داخل باكستان واستهداف الأماكن التي يلوذ بها المسلحون. وكان تصريح حميد كرزاي عقب تسريبات «ويكيليكس» عن العلاقات السرية بين طالبان الأفغانية ووكالة الاستخبارات الداخلية الباكستانية.

وقد أدى هذا التصريح إلى أزمة دبلوماسية أخرى بين باكستان وأفغانستان، وغطت وسائل الإعلام الباكستانية في صفحاتها الأولى التصريحات والتصريحات المضادة التي تظهر داخل كابل وإسلام آباد حول الموضوع. وخلال الأسبوع التالي لنشر موقع «ويكيليكس» وثائق أميركية سرية على الموقع، سيطرت القضايا المرتبطة بالتسريبات، ولا سيما علاقة الأجهزة الأمنية الباكستانية بحركة طالبان الأفغانية على العناوين الرئيسية داخل الصحف في باكستان. وبدأت التعليقات والتحليلات والمقالات تظهر بصورة مستمرة في الصحف. وخصصت البرامج الحوارية وقتا لمناقشة هذه العناوين، وكان صحافيون باكستانيون بارزون كضيوف خلال البرامج. وقال الصحافي البارز سهيل ناصر، المقيم في إسلام آباد: «يمكن أن نقسم المجتمع الصحافي داخل باكستان، فيما يتعلق بردود الفعل على قضية (ويكيليكس) إلى قسمين: أولا هناك من يعتقد أن هذه التسريبات جزء من مؤامرة رسمية أميركية ويعتقد هؤلاء أن (ويكيليكس) جزء من هذه المؤامرة التي حاكتها وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية من أجل تقويض مصداقية الاستخبارات الداخلية الباكستانية. ثانيا هناك من يرون أن (ويكيليكس) مؤسسة خاصة تقوم بتسريب معلومات تخص الصالح العام».

وقد كانت وسائل الإعلام الباكستانية منقسمة بصورة حادة بالنسبة للتغطية ورد الفعل تجاه الوثائق السرية الأميركية. وشنت الصحف ذات الميول الأميركية انتقادات ضد الأجهزة الأمنية الباكستانية بسبب علاقاتها مع طالبان الأفغانية.

وجاء في مقال افتتاحي بصحيفة «ديلي تايمز» الناطقة باللغة الإنجليزية التي ينظر إليها عامة على أن لها ميلا تجاه أميركا: «وعليه، فإن القضية الحقيقية هي الاستخبارات الداخلية الباكستانية وعلاقاتها مع حركة طالبان. معروف منذ أعوام أن سياسات مؤسستنا الأمنية المنحرفة فيما يتعلق بحركة طالبان دفعت البلاد والمنطقة إلى مستنقع كارثي».

من ناحية أخرى، أشارت جميع الصحف الباكستانية في مقالاتها الافتتاحية إلى أن المزاعم التي جاءت بين ثنايا الوثائق السرية المسربة لم تأت بجديد، فكتبت صحيفة «ديلي تايمز» في افتتاحيتها «ربما تشكل هذه الوثائق الآن أمرا جديدا بالنسبة للمواطنين الأميركيين والأوروبيين، لكنها لم تأت بجديد للشعبين الباكستاني والأفغاني».

فيما نهضت بعض الصحف الأخرى، للدفاع عن الوكالة الأمنية الباكستانية في وقت الأزمة، فعلى سبيل المثال دافعت أقدم الصحف الباكستانية الصادرة باللغة الإنجليزية وأكثرها مصداقية عن وكالة الاستخبارات، فقالت في افتتاحيتها «لم تأت مزاعم (ويكيليكس) بتقديم جهاز الاستخبارات الباكستاني الدعم اللوجيستي والمعنوي لجماعات التمرد الأفغاني مثل شبكة حقاني بجديد. فقد سمعنا هذا الكلام مرات كثيرة دون أي دليل ملموس من قوات الناتو أو المسؤولين الأفغان. ومن ثم تجدر الإشارة هنا إلى أن التقارير التي تجرم القوات الباكستانية عادة ما تكون مبنية على معلومات قدمتها وكالة الاستخبارات الأفغانية، مديرية الأمن الوطني، التي يهيمن عليها عناصر من التحالف الشمالي السابق، التي تضمر، ربما لأسباب مقنعة، العداء لباكستان».

في اليوم الأول من الكشف عن الوثائق السرية الأميركية، حملت الصفحات الأولى من الصحف الباكستانية توضيحا من وكالة الاستخبارات الباكستانية. وعلى الرغم من النقل عن مسؤول في الوكالة لم يكشف عن اسمه، فإن التقارير الإخبارية أوضحت أن هذه المعلومات الاستخبارية كانت معلومات أولية، لم يتم التأكد من مصداقيتها بالصورة الملائمة.

وقد سخرت بعض التقارير الإخبارية المنشورة في الصحف من التقارير الاستخبارية الأميركية التي سربتها «ويكيليكس»، فذكر أحد التقارير التي نشرت في الصفحة الأولى في صحيفة «ذا دون»: «أن بعض التقارير التي كتبها ضباط استخبارات ذوو رتب متدنية، تبدو بعيدة الاحتمال. فتزعم إحدى الوثائق التي تعود إلى فبراير (شباط) 2007 أن مقاتلين خططوا مع الاستخبارات الباكستانية لقتل قوات أفغانية وقوات الناتو بكحول مسموم يتم إحضاره من باكستان».

وبالمثل، وصفت صحيفة «ذا نيشن»، القومية، تسريب الوثائق الأميركية بأنه محاولة لتشويه المؤسسات الأمنية الباكستانية. وحمل أحد المواضيع عنوان «الحرب الدعائية ضد وكالة الاستخبارات الباكستانية تتواصل بلا هوادة».

كان الموضوع الرئيسي، الذي سيطر على التغطية الإعلامية لقضية «ويكيليكس»، هو كيفية تأثير الكشف عن الوثائق الأميركية على مسار العلاقات الأميركية - الباكستانية. حتى أن القضية شغلت البرامج الحوارية التلفزيونية التي أذيعت حول القضية خلال الأسبوع المنصرم. وقد تنبأت تعليقات المحللين والمعلقين بأن تؤثر المعلومات بصورة سلبية على الرأي العام الأميركي وهو ما سيؤثر في المقابل بصورة سلبية على عملية صنع القرار السياسي في واشنطن.

وأوضح أحد التعليقات في صحيفة باكستانية بارزة أن الغضب في الإعلام الأميركي مقبول وسرعان ما سيغير الرأي العام الأميركي إلى حد أنه قد يؤدي إلى قطع المعونات الأميركية أو على الأقل خفضها أو تأجيلها.

على النقيض من ذلك ذكرت صحيفة «ذا دون» في تقريرها من واشنطن أن الإدارة الأميركية لم تتأثر مواقفها تجاه إسلام آباد بعد التسريبات الاستخبارية، فنقل أحد التقارير عن فيليب كراولي المتحدث باسم الخارجية الأميركية أن باكستان قامت بتحول استراتيجي رئيسي خلال السنوات القليلة الماضية. وقال كراولي: «إن الولايات المتحدة أرست خلال الأشهر القليلة الماضية أسسا قوية من العمل مع باكستان. ونحن نعتقد أن باكستان قامت بتحول استراتيجي».

وعبرت بعض التعليقات الإخبارية عن فهمها بأن أي نوع من سوء التفاهم في هذه المرحلة الحاسمة لن يساعد سوى المتطرفين.

فذكر تقرير إخباري أعده صحافي باكستاني نشر في صحيفة «آشيا تايمز» أولا، ثم تناقلته الصحف الباكستانية: «أن الوثائق العسكرية الأميركية السرية المسربة التي تشير إلى ارتباط باكستان بطالبان تأتي في وقت حاسم انقطعت فيه الصلات بين المقاتلين والجيش وأي سوء تفاهم بين إسلام آباد وواشنطن لن يفيد سوى المقاتلين».

ويسري إجماع عام بين المحللين والمعلقين الباكستانيين، وهو ما توضحه التعليقات والتحليلات في الصحف الباكستانية، على أن إسلام آباد وواشنطن بحاجة إلى تجنب سوء التفاهم في هذه المرحلة لأنها قادرة على تقويض جهود الحرب ضد طالبان.

ويقول على تشيشتي، من صحيفة «ديلي تايمز»: «على الرغم من الحرج الذي أحدثه كشف (ويكيليكس) لكل من الولايات المتحدة وباكستان، حيث تعكس انعدام الثقة بين الحليفين الوثيقين في الحرب على الإرهاب، فإنه من دون مساعدة إحداهما الأخرى فلن يمكنهما الفوز في الحرب على الإرهاب». بعض التعليقات الإخبارية التي نشرت في الصحف الباكستانية قدمت تحليلات أكثر عمقا عن الوثائق الاستخبارية المسربة، فوضع الكاتب الصحافي الباكستاني ماهر علي في تحليله الإخباري حدا بين الوثائق الأميركية التي تكشف عن السبب في وفيات المدنيين في أفغانستان والوثائق التي كشفت عن الوثائق التي تربط الاستخبارات الباكستانية بطالبان.

وقال علي في مقاله: «الكثير من المعلومات الأميركية التي تحدثت عن أعداد القتلى والمصابين من المدنيين جاءت من وثائق عسكرية داخلية. وبالمثل فإن الكشف عن وصول طالبان إلى صواريخ أرض - جو التي زودت وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية المجاهدين بها والتي لعبت دورا محوريا في تقويض جهود الحرب السوفياتية في الثمانينات تتبع هذه الفئة. من ناحية أخرى فإن الكثير من التقارير حول تورط الاستخبارات الباكستانية جاءت من مصادر استخباراتية أفغانية ومصداقيتها كانت موضع تساؤل صحيفتي (الغارديان) و(النيويورك تايمز) اللتين تعاونتا مع (ويكيليكس) في وضع الوثائق أمام الرأي العام».

تمثل الوثائق التي تم تسريبها بالنسبة لوسائل الإعلام الباكستانية فرصة للهجوم على قوات الناتو على وحشيتها في أفغانستان، فقد اعتمدت بعض التقارير الإخبارية والتعليقات على وثائق «ويكيليكس» التي تدين قوات الناتو والقوات الأميركية على استخدام وسائل مشكوك بها لتحقيق أهداف عسكرية في أفغانستان.

فقالت صحيفة «ديلي دون»: «أظهرت الوثائق التي نشرت على موقع (ويكيليكس) بشكل لافت كيفية قيام الجنود ضمن قوات الناتو، لا جنود الولايات المتحدة وحدها، بل جنود حلفائها الأوروبيين، بالتعتيم على الفظائع التي ارتكبوها في أفغانستان».

فيما قامت بعض الصحف بنقل بعض هذه الوثائق لإطلاع الرأي العام الباكستاني على أن القوات لم تبلغ عن عمد بالضحايا المدنيين في أفغانستان.

وإجمالا، فقد كان تناول الوثائق التي نشرها موقع «ويكيليكس» في وسائل الإعلام الباكستانية متوازنا، حيث وصفت المقالات الافتتاحية والتعليقات في كبريات الصحف الباكستانية هذا التسريب بالمحرج لكل من واشنطن وإسلام آباد. بيد أنها طلبت في الوقت ذاته تجنب وقوع سوء فهم في العلاقات في هذه الوقت الحرج، حيث تدخل مرحلة الحرب ضد طالبان باكستان مرحلة حاسمة.