مسجد نيويورك في الإعلام الأميركي

عندما يكون الخبر تعليقا

مقر مسجد قرطبة المقترح على مقربة من «غراوند زيرو» («نيويورك تايمز»)
TT

عادة، يوم الأحد بالنسبة للإعلام الأميركي هو يوم مقابلات في خمس قنوات تلفزيونية إخبارية رئيسية عن أهم أحداث الأسبوع. ويوم الأحد الماضي، سيطر على المقابلات موضوع بناء مسجد في نيويورك، بالقرب من مكان «وورلد تريد سنتر» (مركز التجارة العالمي) الذي دمره هجوم 11 سبتمبر (أيلول) سنة 2001.

عرضت المقابلات مختلف وجهات النظر. لكن، كان واضحا التركيز على معارضة بناء المسجد، ليس لأن مقدمي المقابلات لم يلتزموا بالحياد الصحافي المهني، ولكن لأن الجو العام وسط الأميركيين، إعلاميين وسياسيين، هو جو عواطف وإثارة وخوف في كل شيء له صلة بالإسلام والمسلمين.

قبل أن يشترك الرئيس باراك أوباما في النقاش يوم الجمعة الماضي عندما تحدث عنه في حفل إفطار سنوي يقيمه البيت الأبيض، كان الإعلام الأميركي يتابع النقاش بطريقة «فيوزنيوز» (الخبر التعليق). تشير هذه العبارة إلى بحث أكاديمي نشر قبل سنوات قليلة عن الفرق بين إذاعة وتلفزيون «بي بي سي» البريطاني، وتلفزيون «سي إن إن» الأميركي في تغطية الإسلام والمسلمين بعد هجوم 11 سبتمبر.

قال البحث إن البريطانيين يميلون نحو «خبر دون تعليق»، ويميل الأميركيون نحو «الخبر التعليق». ليس لأن الصحافيين الأميركيين أقل نزاهة من البريطانيين، ولكن لأن هجوم 11 سبتمبر وقع في أميركا، وصار موضوعا وطنيا ونضاليا. وأشار البحث إلى أن كثيرا من الصحافيين البريطانيين، قبل عشرين سنة، عندما تصاعدت الحرب الأهلية في آيرلندا الشمالية بين الكاثوليك والبروتستانت، لم يلتزموا بالنزاهة الصحافية، لأن القضية كانت، أيضا، وطنية.

وأشار البحث إلى أنه، في سنة 2001، بمجرد إعلان الرئيس السابق بوش «غلوبال وور اون تيروريزم» (الحرب العالمية ضد الإرهاب)، استعملت «سي إن إن» عبارة «الحرب ضد الإرهاب»، وكأنها كلمة «اوبجيكتيف» (موضوعية، متجردة). لكن، استعملت «بي بي سي» عبارة أكثر موضوعية: «ما تسميها الحكومة الأميركية الحرب ضد الإرهاب». وأشار البحث إلى قانون «باتريوت اكت» (قانون الوطنية) الذي أصدره في ذلك الوقت الكونغرس، والذي سمح لمكتب التحقيق الفدرالي (إف بي آي) ووكالة الاستخبارات المركزية (سي آي إيه) بالتجسس على الاتصالات التلفونية والبريدية بهدف «حماية الأمن الأميركي».

بينما لم تتردد «سي إن إن» في استعمال الوصف يوما بعد يوم، أرسل المدير التحريري في «بي بي سي» بيانا إلى العاملين تحته بأن يكونوا حذرين عند استعمال أي كلمة «ايموشنال» (عاطفية)، أو فيها «فاليوجادجنت» (حكم تقييمي).

إنصافا للإعلام الأميركي، فرغم الصلة العاطفية (وغير الموضوعية وغير المتجردة) وسط الأميركيين بين كلمتي «إرهاب» و«مسلمين»، حاول أن يغطي موضوع بناء مسجد نيويورك بطريقة مهنية. واهتم بنقطتين:

أولا: نقل الخبر (عارض فلان بناء المسجد).

ثانيا: نقل الجانب الآخر للخبر (يبحث الصحافي عن رأي شخص يؤيد بناء المسجد، حتى يصير الخبر متوازنا).

لكن، أثر على هذه الفلسفة المهنية جو ملغم ومشحون، وذلك للأسباب الآتية:

أولا: أوضحت استفتاءات أن سبعين في المائة تقريبا من الأميركيين يعارضون بناء المسجد.

ثانيا: مع اقتراب انتخابات الكونغرس، في نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل، انضم، بل تحمس في الانضمام، إلى النقاش سياسيون يريدون زيادة أسهمهم.

في تغطية النقاش عن مسجد نيويورك، كرر الإعلام الأميركي ثلاث عبارات:

الأولى: «غراوند زيرو» (النقطة الصفر، التي تستعمل عادة عند الإشارة إلى مكان تفجير قنبلة نووية).

الثانية: «سيكريد سبوت» (نقطة مقدسة).

ثالثا: أحزان أقرباء وأصدقاء الثلاثة آلاف شخص الذين قتلوا في هجوم 11 سبتمبر على مركز التجارة العالمي.

حسب البحث السابق، هذه عبارات «غير محايدة». من الذي سمى المكان «غراوند زيرو»؟ لماذا صار مقدسا؟ ماذا عن الأقرباء والأصدقاء الذين أيدوا بناء المسجد، وأسسوا جمعية، لكن صوتها ليس مسموعا مثل صوت الجانب الآخر.

لهذا، كان يجب، على طريقة «بي بي سي»، استعمال عبارات «ما يسمى كذا وكذا» أو «ما تسميه الحكومة الأميركية كذا وكذا». لهذا، صارت تغطية بناء مسجد نيويورك على طريقة «الخبر التعليق».

قبل أسبوعين، قبل تصريحات أوباما، ركز الإعلام الأميركي على بيان منظمة الدفاع اليهودي (إيه دي إل) الذي عارض بناء المسجد. وقال، بالإضافة إلى الحديث المكرر عن «غراوند زيرو» و«هولي سبوت» وعائلات ثلاثة آلاف قتيل، فلا بد من وضع اعتبار لـ«الأحاسيس»، دون أن يشرح معنى ذلك. ولم يتطوع الإعلام الأميركي لشرح معنى هذه «الحساسية.» رغم أن صحيفة «واشنطن بوست»، استغربت أن تعارض منظمة يهودية كبيرة «معارضة مباشرة». ورغم أن فريد زكريا، الأميركي المسلم من أصل هندي، ورئيس تحرير مجلة «نيوزويك»، قال إن البيان اليهودي «غريب»، وأعاد للمنظمة اليهودية جائزة كانت قدمتها له قبل سنوات.

لكن، كانت أغلبية التغطية، على طريقة «الخبر التعليق»، تركز على المعارضة أكثر من التأييد. يوم الثلاثاء، كتبت صحيفة «نيويورك بوست» تحت عنوان «لا تحرفوا النقاش عن المسجد»، أن الموضوع ليس عن حرية الأديان. ولكن عن «أرواح المدنيين الأبرياء الذين قتلوا يوم 11 سبتمبر».

قبل ذلك بيوم، يوم الاثنين، نشرت نفس الصحيفة «التابلويد» عنوانا واحدا غطى كل الصفحة الأولى ومكون من ثلاث كلمات فقط: «حماس تؤيد المسجد». وركز الخبر على ثلاث نقاط:

الأولى: أن حماس منظمة إرهابية. وهذا وصف تعود عليه الإعلام الأميركي. (لا يقول، على طريقة «بي بي سي»، إن الحكومة الأميركية تقول إنها منظمة إرهابية).

الثانية: أن الإمام فيصل عبد الرؤوف، الأميركي المصري الذي يقود حملة بناء المسجد، كان أيد منظمة حماس.

الثالثة: أن الرئيس أوباما أيد بناء المسجد.

لكن، كما أوضح كاتب «بلوق» في صحيفة «واشنطن بوست»، هناك أخطاء في خبر «نيويورك بوست». منها أن الإمام عبد الرؤوف لم يؤيد حماس. كان سئل هل يعتقد أن حماس منظمة إرهابية. وقال إنه لا يريد أن يتدخل في موضوع الإرهاب لأن كلمة إرهاب «كومبليكيتد» (معقدة).

والخطأ الثاني قول الصحيفة إن الرئيس أوباما أيد بناء المسجد. ربما فهم من حديثه في حفل رمضان أنه فعل ذلك. لكنه، في اليوم الثاني، قال إنه مع حرية الأديان، لكن بناء مسجد نيويورك يعتمد على رأي سكان نيويورك.

يوم الاثنين، كتبت صحيفة «نيويورك تايمز» تعليقا عن أن حاكم ولاية نيويورك عرض بناء مسجد في أي مكان آخر يختاره المسلمون. وأضاف التعليق: «لم يحدد الحاكم بعد المكان الجديد من غراوند زيرو».

وهذه نقطة أخرى لم يركز عليها الإعلام الأميركي. وتدخل في فلسفة «الخبر التعليق»، وهي أن مكان المسجد على بعد شارعين من مكان مركز التجارة العالمي. ماذا إذا كان على بعد ثلاثة شوارع؟ أربعة شوارع؟ خمسة شوارع؟ عشرة شوارع؟

ضاعت الإجابة عن هذا السؤال العقلاني في الضباب العاطفي والمثير الذي يحيط بتغطية أخبار الإسلام والمسلمين.