الثورة الرقمية.. هل المحطات التلفزيونية قائمة على بحر من الرمال؟

الثقة في البرامج تفوق أي وسيط

TT

بالنسبة إلى شخص من المفترض أن عالمه ينهار، يبدو جيفري بيوكس على قدر هائل من الهدوء.

جلس بيوكس، الرئيس التنفيذي لـ«تايم وارنر»، في مكتبه الفخم المطل على «سنترال بارك»، يستمع في صبر إلى وجهة نظر مفادها أن الثورة الرقمية ستقضي على جمهور المحطات التلفزيونية البارزة، مثل «إتش بي أو» و«تي بي إس» و«تي إن تي»، بل وحتى «سي إن إن». إذا كان بمقدور العملاء المشتركين مشاهدة ما يحلو لهم وقتما شاءوا مجانا، وإذا استمرت جهات منافسة جديدة، مثل «يوتيوب»، في الاستحواذ على اهتمام الرأي العام، فإن التلفزيون كما نعهده لا يعدو كونه إمبراطورية قائمة على بحر من الرمال. إلا أن بيوكس لا يتفق مع هذا الرأي.

أثناء الحديث، رد بيوكس مؤكدا أننا نعيش في «عصر ذهبي» بالنسبة إلى التلفزيون، بينما كان يحرك قدحا من القهوة ليقربه من المراسل بنفسه. وأضاف: «أعتقد أن الوقت الحالي يتميز بقدر أكبر من البرامج الناجحة وأنماط جديدة من المسلسلات بممثلين رائعين وقيم إنتاجية قوية ومخرجين مثيرين للاهتمام يعنون بدقة ما يقدمونه. أرى أننا نتمتع حاليا ببرامج رفيعة المستوى على شاشات التلفزيون الأميركي أكثر من أي وقت مضى».

بوجه عام، لا يعد بيوكس ممن يحبون إثارة الجلبة والضجيج، لكن حديثه جاء متزامنا مع تحقيق «تايم وارنر» ريعا جيدا خلال عام يبدو أنه سيحمل أرباحا كبيرة. والملاحظ أنه رغم التهديد الناشئ عن وسائل الإعلام الرقمية تجاه الصحف والمجلات، لا يزال بيوكس متمسكا بإيمانه بقوة التلفزيون.

وقال مشيرا إلى شاشة تلفزيونية عملاقة داخل قاعة مؤتمرات ملحقة بمكتبه: «الأمر الأهم هو ما يدور هناك».

وأضاف: «بلغ الدعم المالي للتلفزيون مستوى أعلى من أي وقت مضى، وهذا الأمر يغفل عنه البعض في غمرة إثارة جهود تغطية أنباء شبكة الإنترنت».

بيد أن ذلك لا يعني أن «تايم وارنر»، مثل جميع الشركات الإعلامية الأخرى العاملة في الحقل التلفزيوني، لا تجابه بعض التحديات الكبرى. وعن ذلك، أوضح بيوكس أن «التلفزيون» كما عهدناه يتحطم ويجري نقله إلى «آي باد» وغيره من الأجهزة الصغيرة الأخرى.

وربما تتمثل مفاجأة موسم أعياد الكريسماس القادمة في أجهزة تلفزيون متصلة بشبكة الإنترنت، الأمر الذي، حسبما أشار كريغ موفيت من مؤسسة «برنستاين ريسرتش»، «ربما يخلق مخزونا لا نهائيا، مع توافر مجمل تاريخ الأعمال التلفزيونية والسينمائية المتاحة بصورة فورية».

في تلك الأثناء، عقدت شركة «نتفليكس» مؤخرا صفقة كبرى من شأنها توفير حتى الأفلام الأكبر حجما أمام المستهلكين على الجهاز الذي يختارونه. وتنفق «نتفليكس» نحوا من الـ600 مليون دولار التي سبق أن أنفقتها على الخدمة البريدية للحصول على مواد ترفيهية مصورة (وقد أبرمت بالفعل اتفاقا مع «ستارز») من شأنها وضعها في مكانة منافسة مع «إتش بي أو» والمحطات الكبرى الأخرى. وبالنسبة إلى مؤسسات كبرى أخرى مثل «أبل» و«أمازون»، يبدو المستقبل غامضا.

من جانبه، يطرح بيوكس حلا لكل هذه المعضلات تتمثل فيما يطلق عليه «تي في إيفريوير». وقد تولى بيوكس التخطيط لهذا المشروع وتم الإعلان عنه بالتعاون مع «كومكاست» في مارس (آذار). يهتم «تي في إيفريوير» بالمشتركين في خدمات الكيبل والقمر الصناعي والهاتف، ويسمح لهم بمشاهدة البرامج في أي مكان يرغبونه، وفي أي وقت يشاءونه، على أي جهاز يختارونه. وتسهم هذه الفكرة في توسيع نطاق تعريف ما يعنيه أن يكون المرء مشتركا، مع الإبقاء على المشاهدين داخل حظيرة جهات تقديم خدمات الكيبل، مثل «تايم وارنر» و«كومكاست»، إلى جانب شركات تقديم برامج القمر الصناعي وشركات الهواتف التي توفر خدمات تلفزيونية.

وأعرب بيوكس عن اعتقاده بأن «الناس يرغبون في استخدام الشاشة التي يفضلونها. لذا، يرغب البعض في استخدام الحاسب الآلي النقال أو الحاسوب اللوحي، بينما يرغب آخرون في المشاهدة عبر شاشات تلفزيونية كبيرة. بوجه عام، يريد الناس التحكم فيما يشاهدونه».

وأضاف أنه «ربما لا تحتاج إلى (نتفليكس) إلا إذا رغبت في الحصول على أداة تمكنك من مشاهدة الكثير من الأفلام القديمة».

وأبدى سبنسر وانغ، المحلل الإعلامي لدى «كريديت سويس»، اتفاقه مع هذا الرأي، لكنه على غير ثقة مما إذا كان «تي في إيفريوير» يمكنه البقاء في عصر ينتشر به كل شيء في كل مكان.

وقال وانغ: «جيف بيوكس يدرك الفرص والمخاطر التي تنطوي عليها الثورة الرقمية أفضل من أي مسؤول تنفيذي آخر في مجال الإعلام. إن حديثه لا يأتي من باب ادعاء المعرفة، وإنما وضع خطة بالفعل. لكن ما يثير القلق هو ما إذا كانت الشركات الأخرى المعنية بتشغيل الكيبل ستتميز بالسرعة الكافية لمواجهة التغيير الجوهري الذي يطرأ على المنظمة الإعلامية».

ما يزال بيوكس على ثقة من قدرة محطاته على البقاء في عالم يقوم على توفير المواد فور طلبها. وأوضح أن ازدهار «إتش بي أو» يعود إلى إبداء المشاهدين استعدادهم دفع مال مقابل الاشتراك في خدمة تتيح لهم القدرة الدائمة على مشاهدة مسلسلي «ترو بلود» و«إنتوراج».

وأضاف أن «المشاهدة بناء على التلبية الفورية للطلب تفوق أكثر من 30 في المائة من إجمالي المشاهدة الخاصة بـ(إتش بي أو). حتى بقية الصناعة، بلغت النسبة بالفعل نحو 10 في المائة. وعليه، فإن المشاهدة بناء على الطلب تعد أقوى وأهم توجه».

إلا أنه على خلاف الحال مع «إتش بي أو»، تعتمد قنوات إذاعية والغالبية العظمى من قنوات الكيبل، جزئيا على الأقل، على الإعلانات. عن ذلك، أعرب بيوكس عن اعتقاده بأنه «لا يخلق هذا الأمر اختلافا، ففي كلتا الحالتين يبقى الضغط الإعلاني واحدا».

ويرى بيوكس أن أمام التلفزيون بطاقة أخرى يمكنه استغلالها، وهي شهرة العلامة التجارية، فرغم أن «يوتيوب» ومواقع أخرى ربما تجد طريقها قريبا إلى شاشات التلفزيون، فإنه ستبدو ضئيلة الأهمية بجوار البرامج البارزة والأحداث الكبرى التي لا يمكن سوى للشبكات التلفزيونية الممولة جيدا تغطيتها.

وأوضح بيوكس أن «المشكلة ليست عدم وجود خيارات، وإنما توافر عدد هائل منها. هناك قدر مفرط من المواد المعروضة. والتساؤل المطروح الآن: كيف يمكنك تعريف الناس بالأشياء الجديدة؟ إن الناس يتطلعون دوما نحو الأشياء الجديدة. والسبيل الذي يمكنك من خلالها تحقيق ذلك هو أن تتوافر لديك بيئة مناسبة ووضع على خريطة البرامج يجعلك في مكانة ترمز إلى قيمة بعينها».

ويعد هذا أحد الأسباب وراء اضطلاع «إتش بي أو» بتمويل مسلسل «بوردووك إمباير» الضخم، وانتقال «كونان أوبريان» إلى قناة «تي بي إس»، وشراء «تيرنر»، و«سي بي إس» لحقوق بث بطولة الجامعات لكرة السلة والكرة الطائرة على امتداد الأعوام الـ14 القادمة.

ويعتقد بيوكس أن التغطية التلفزيونية للأحداث الكبرى ستعمل بمثابة محرك دافع لبقية الأصول الإعلامية المملوكة لشركته. على سبيل المثال، يجري بيع مسلسل «روبيكون» الخاص بـ«إيه إم سي» كمادة إضافية لمشاهدي «ماد مين».

في الواقع، تعشق المؤسسات الإعلامية الكبرى التلفزيون للسبب نفسه الذي يعشق الأشرار من أجله المصارف، حيث إنه المكان الذي يجلب المال. ومن الواضح أن بيوكس تراوده ثقة أنه إذا أقدمت أعداد كافية من الجهات الإعلامية بعرض محتوياتها عبر مختلف الوسائط، فإن المستهلكين سيستمرون في التحديق في جهاز أشبه بالتلفزيون لفترة طويلة قادمة (حتى وإن كان في حقيقته ليس تلفزيونا).

ويراهن بيوكس على أن أموال الاشتراكات والإعلانات ستبقى قوية بما يكفي لنجاح المحطات التلفزيونية في وقت تعاني فيه وسائل الإعلام الأخرى.

* خدمة «نيويورك تايمز»