اختفاء «نجم تلفزيوني».. قضية فوق صفيح ساخن في باكستان

الإسلاميون تدخلوا لتأمين الإفراج عن طلعت حسين .. وعواصم 3 قارات اقتفت أثره

TT

عندما قام جنود إسرائيليون باختطاف الصحافي الباكستاني الشهير ومقدم البرامج التلفزيونية طلعت حسين، مع غيره من الصحافيين ونشطاء حقوق الإنسان، الذين شاركوا في «أسطول الحرية» الذي كان متجها إلى قطاع غزة في 31 مايو (أيار)، تحرك على الفور طرفان متعارضان في باكستان لتأمين إطلاق سراحه.

فقد اتصلت السفارة الأميركية في إسلام آباد فورا بالسفير الأميركي في تل أبيب وطلبت منه الحصول من السلطات الإسرائيلية على معلومات حول مكان وجود طلعت حسين. والمعسكر الآخر، الذي تحرك على الفور لإطلاق سرح طلعت وبدا عليه الانزعاج بسبب ما تعرض له، كان الأوساط الإسلامية في باكستان، والاتصالات الهاتفية تقاطعت بين عواصم ثلاث قارات من أجل الإفراج عن «النجم الإعلامي».

وقد طمأن قاضي حسين أحمد، الرئيس السابق للجماعة الإسلامية، الشعب الباكستاني خلال حديث هاتفي، من إسطنبول (حيث كان يزور تركيا في ذلك الوقت)، بثته على الهواء مباشرة محطات التلفزيون الباكستانية بأنه سيتوجه شخصيا إلى مكتب اللجنة الدولية للصليب الأحمر ووزارة الخارجية التركية لجمع معلومات عن طلعت حسين والتأكد من سلامته.

وعلى الفور أصبح اختطاف طلعت حسين من قبل الإسرائيليين قضية وطنية، وقام وزير الخارجية شاه محمود قرشي بعقد مؤتمر صحافي (بث على الهواء مباشرة) ليتحدث عن تفاصيل الجهود التي تقوم بها الحكومة لتأمين إطلاق سراح طلعت. ونظمت مسيرات احتجاج في جميع أنحاء باكستان للتنديد بالممارسات الإسرائيلية الوحشية. وأشارت القصة الآتية من الأوساط الدبلوماسية في إسلام آباد إلى أن البيت الأبيض لعب دورا مباشرا في تأمين إطلاق سراح طلعت.

عندما هبطت الطائرة التي كانت تقل طلعت حسين بعد إطلاق سراحه من الأسر الإسرائيلي في أحد مطارات باكستان تدفق آلاف من النشطاء السياسيين والمواطنين الباكستانيين على المطار لاستقباله.

وكان طلعت حسين من بين ثلاثة باكستانيين تم اختطافهم من على ظهر إحدى سفن «أسطول الحرية»، ولكن لم يتحدث أحد حتى عن الاثنين الآخرين اللذين أسرا معه وهما رضا آغا (وهو صحافي آخر) ونديم إقبال (وهو رئيس لإحدى منظمات الرعاية الاجتماعية).

إذن ما الذي جعل طلعت يحظى بكل هذا الاهتمام دون غيره؟ إنه أحد مقدمي البرامج التلفزيونية، ذائعي الصيت والنفوذ، الذين يشاهدهم ملايين الباكستانيين كل مساء على شاشات التلفزيون وهم يناقشون مع كبار السياسيين والمحللين والمسؤولين الحكوميين المشكلات الأكثر إلحاحا التي تواجه الأمة الباكستانية.

ولم تكن دراما اقتحام الجنود الإسرائيليين «أسطول الحرية» (التي تم تغطيتها على نطاق واسع من قبل وسائل الإعلام المحلية والدولية) هي التي جعلت من طلعت حسين شخصية شهيرة، فهو شأنه شأن مقدمي البرامج التلفزيونية الآخرين الذين لهم حضور بارز في الحياة السياسية والاجتماعية في باكستان بسبب دورهم في تحديد اتجاه النقاش المتعلق بالجدل السياسي الدائر في البلاد. وفي هذا السياق، يقول إجاز شافي جيلاني، رئيس مؤسسة «غالوب سرفي أوف باكستان»، وهي مؤسسة رائدة في عمل استطلاعات الرأي، إن «الخمسة عشر مقدم برامج الرئيسيين على التلفزيون الباكستاني يشاهدهم جمهور يصل إلى 10 ملايين مشاهد». والمواضيع التي تناقشها البرامج الحوارية التلفزيونية، التي يقدمها هؤلاء المذيعون، تتراوح بين السياسة والأمن والشؤون العسكرية والسياسة الخارجية والفساد الحكومي والمصاعب الاقتصادية التي يواجهها عامة الناس في البلاد، والماضي غير الناصع لكبار السياسيين، والأثر المدمر للحكم العسكري للبلاد على النسيج الأساسي السياسي والاجتماعي للمجتمع.

ويقول رنا قيصر، وهو صحافي بارز ورئيس التحرير السابق لصحيفة «ديلي تايمز» الناطقة باللغة الإنجليزية إن «الموضوعات التي تناقشها هذه البرامج يمكن أن تكون أي شيء يتعلق مباشرة بالمشكلات التي يواجهها المجتمع»؛ فقد تناقش يوما ما المشكلات التي تواجه صناعة السينما الباكستانية وفي اليوم التالي تناقش كيف يمكن أن يجمع الدين الإسلامي الأمة الباكستانية. وبالطبع، فإن التطرف الديني هو الموضوع المفضل لمعظم مقدمي هذه البرامج.

ويرجع بعض كبار خبراء الإعلام التوافق في آراء المجتمع الباكستاني ضد التطرف الديني إلى الأفكار الإبداعية التي طرحها بعض مقدمي البرامج هؤلاء. وفي هذا الإطار، يقول أحد خبراء الإعلام إن «معظم القنوات الإخبارية الباكستانية كانت باستمرار مصدرا للأفكار الإبداعية في مواجهة الفلسفات المتطرفة التي تتبناها حركة طالبان الباكستانية في المناطق القبلية. وفي الواقع، فإن الفضل يعود للقنوات الإخبارية في التوضيح للشعب الباكستاني أن التطرف الديني هو انحراف، والمجتمع الباكستاني لديه تاريخ طويل من الفكر السياسي الليبرالي والتسامح الديني».

في الواقع، فإن القنوات الإخبارية الباكستانية الخاصة تبرز كل يوم الجدل الدائر بين الجماعات الدينية وشرائح المجتمع الليبرالية في البرامج الحوارية التي تتابعها جماهير غفيرة. وقد أعرب رئيس الوزراء الباكستاني يوسف رضا جيلاني شخصيا في مناسبات كثيرة عن امتنانه لمقدمي هذه البرامج لاتخاذهم مواقف ثابتة ضد التطرف الديني والتشدد.

وأحد هذه الأصوات هو كامران خان، أبرز مقدمي البرامج على شبكة محطات «جيو» التلفزيونية، الذي يتمتع برنامجه بأكبر نسبة مشاهدة. وقد كان كامران خان صحافيا استقصائيا معروفا، في وسائل الإعلام المطبوعة، حتى قبل أن يبدأ في تقديم برنامجه الحواري قبل نحو 8 سنوات.

وكامران خان معروف بقربه من المؤسسة العسكرية، وقد برز خلال السنوات الـ8 الماضية كأكثر الأصوات المتحمسة ضد التشدد والتطرف. ويقدم كامران خان في برنامجه الحواري، «آج كامران خان كا سات» أو «اليوم مع كامران خان»، الذي يمتد لساعة كاملة ويبث مساء كل يوم، تحليلا للأحداث اليومية. وفي كثير من الأحيان يأتي كامران بالقصة الخفية لما يحدث في المناطق القبلية وما هي بالضبط استراتيجية الجيش للتصدي لتهديدات المتشددين.

وتحافظ الحكومة الباكستانية على هدوئها وصبرها ولا تنتقد كامران خان عندما يناقش الاستراتيجية العسكرية ويقدم معلومات مثيرة عن الحرب ضد الإرهاب. لكن صبر الحكومة ينفد عندما يتجاوز كامران خان «الحدود» التي تضعها الحكومة بشكل غير رسمي، ويبدأ في تقديم حلقات عن الماضي الملوث لقادة الحزب الحاكم، خاصة الرئيس الباكستاني آصف علي زرداري نفسه وتفشي الفساد بين أعضاء الحكومة.

ويمكن بسهولة فهم رد الفعل الغاضب للحكومة على تجاوزات خان إذا ما نظرنا إلى الإحصاءات الخاصة بشعبية برنامجه الحواري بين عامة الباكستانيين. وتشير أبرز مؤسسات استطلاع الرأي العام إلى أن كامران خان وعددا قليلا من مقدمي البرامج الحوارية الآخرين يحصلون على حصة الأسد من الـ10 ملايين مشاهد الذين يتم توزيعهم بشكل غير متساو بين أبرز خمسة عشر مقدم برامج حوارية في البلاد.

ويعلق إجاز، رئيس مؤسسة «غالوب»، على ذلك في تصريحات خاصة لـ«الشرق الأوسط» قائلا: «في الواقع شعبية البرنامج الحواري ومقدمه تتوقف إلى حد بعيد على شعبية القناة التلفزيونية التي يعرض عليها». وتشير معظم استطلاعات الرأي العام التي أجرتها مؤسسات الأعمال الكبرى من أجل وضع توزيع حملاتها الدعائية، إلى أن محطة الأخبار «جيو» هي الأكثر مشاهدة في باكستان. وفي هذا الإطار يقول إجاز شافي جيلاني: «أتفق مع وجهة النظر التي ترى أن كامران خان وحميد مير ودكتور شهيد مسعود يسيطرون على حصة الأسد من الجماهير البالغة عشرة ملايين».

لذا، فليس من المستغرب تعرض كامران خان لأشد هجوم من حزب الشعب الباكستاني الحاكم خلال رده على الحملة التي قام بها مقدمو البرامج لمكافحة الفساد في صفوف الحكومة.

وفي تهديد شديد اللهجة ضد اثنين من أبرز مذيعي الأخبار ومقدمي البرامج في باكستان، قال القيادي بالحزب الحاكم رنا أفتاب أحمد خلال خطاب ألقاه في مظاهرة عامة في لاهور قبل خمسة أشهر: «على كامران خان والدكتور شهيد مسعود الإصغاء إلى بشدة، أقول لهم إننا سوف نقطع أيديكم إذا لم تتوقفوا عن الكلام على الفور». وحدث ذلك عندما كان الرئيس الباكستاني آصف على زرداري وحكومة حزب الشعب الباكستاني تواجه أزمة سياسية عاصفة جراء مزاعم بالفساد المالي والتورط في غسل الأموال.

وقد أعطى الدور الحاسم الذي لعبته وسائل الإعلام في باكستان في الإطاحة بحكومة الرئيس السابق برويز مشرف ما يكفي من الثقة لمقدمي البرامج التلفزيونية لانتقاد أي حكومة، تجرؤ على التحدي والاعتراض على دورهم كأداة حرة لنشر المعلومات والأفكار في المجتمع.

وفي غضون دقائق قليلة من تلقي التهديد، ظهر كامران خان على الهواء مباشرة في شبكة التلفزيون «جيو» وأصدر تحذيرا مضادا للحكومة وحذرها من الشروع في أي مغامرة غير محسوبة قائلا: «لا تعتقدوا حتى للحظة واحدة أن هذا التهديد من شأنه أن يردعنا».

لكن لا يتفق الجميع في وسائل الإعلام الباكستانية مع النمط الحاد لهؤلاء المذيعين. وفي هذا السياق، يقول محمد حنيف، وهو كاتب عمود مشهور وخبير بوسائل الإعلام: «أجندة مقدمي البرامج هؤلاء معادية للحكومة بشكل صارخ، وعلى سبيل المثال، الدكتور شهيد مسعود، مهما كانت الأحداث التي تمر بباكستان أو على الساحة الدولية، فإن برنامجه سيركز على نقطة واحدة هي الانتقاد اللاذع للرئيس زرداري».

والانتقاد الذي يواجهه الدكتور شهيد مسعود من زملائه الصحافيين يرتبط إلى حد بعيد بماضيه الشخصي، فقد تم تعيين مسعود في منصب المدير العام لتلفزيون باكستان التابع للحكومة، وكان يتقاضى راتبا كبيرا، وذلك بعد تولي حزب الشعب الباكستاني السلطة مباشرة عام 2008.

ولكن في غضون أشهر قليلة وقع بينه وبين وزير الإعلام بعض الخلافات واضطر لترك منصبه والمحطة، ومنذ ذلك الحين أصبحت مهمته الرئيسية انتقاد حكومة حزب الشعب الباكستاني. واستطرد محمد حنيف في تصريحاته لـ«الشرق الأوسط» قائلا: «إذا كان التحليل الذي تقدمه يرتبط بطبيعة علاقتك الشخصية مع شخص ما في الحكومة وليس مبنيا على تحليل سياسي هادف، فبالتأكيد سوف يلفظك الجمهور».

وقد غادر الدكتور شهيد مسعود تلفزيون «جيو» قبل شهرين لأسباب غير معروفة، وانضم إلى محطة إخبارية أخرى أصغر (من حيث حجم الجماهير). ولم يعد يظهر كثيرا على الشاشة، خاصة بعد توليه منصبا إداريا في محطة «آري».

ويعلق محمد حنيف على ذلك قائلا: «هذا أمر طبيعي، بعض مقدمي البرامج تزداد شعبيتهم بمرور الوقت والبعض يختفي، وتظهر وجوه جديدة».

ولكن معظم خبراء وسائل الإعلام في باكستان يتوقعون أن تستمر شعبية مقدمي البرامج الحوارية في المجتمع الباكستاني لسنوات قادمة، وهو ما يؤكده محمد حنيف قائلا: «أعتقد أن شعبية مقدمي البرامج الحوارية شيء كامن في التلفزيون. وسوف تجد هذه الظاهرة في الهند وكذلك في غيرها من البلدان النامية».