حديث الحريري لـ «الشرق الأوسط» يلتحق بالملفات التاريخية التي قلبت الموازين في لبنان

حين يتحوّل الحديث الصحافي حدثا

صورة من حديث الحريري الذي نشر في «الشرق الأوسط»
TT

في السادس من سبتمبر (أيلول) 2010 نشرت صحيفة «الشرق الأوسط» وعلى صفحتها الأولى حديثا مع رئيس الحكومة اللبنانية سعد الحريري. ما هي إلا ساعات على انتشار مضمون المقابلة حتى قامت الدنيا ولم تقعد، حتى بعد مرور نحو الشهر على الحديث الحدث. ويقول محللون لبنانيون إن أهمية هذا الحديث تنبع من كونه شكل «نقطة فارقة» في تاريخ لبنان الحديث، إذ أنهى الحريري من خلاله فترة 5 سنوات من «الاتهام السياسي» الذي طبع العلاقات بين قوى «14 آذار» وسورية، فاتحا صفحة جديدة وصلت أصداؤها إلى الأمم المتحدة التي علق أمينها العام بان كي مون على مضمون الحديث، بينما تحولت عبارة «حديث الشرق الأوسط» إلى محطة كلامية لدى السياسيين اللبنانيين من مختلف الانتماءات والاتجاهات، فبعضهم رأى فيه دليلا على «اعتراف بالخسارة ونهاية (14 آذار)»، بينما رأى فيه البعض الآخر مقدمة لصفحة جديدة من العلاقات مع الجارة الأقرب إلى لبنان.

أما من الجانب التقني فقد كثر الحديث عن كيفية إجراء الحديث، وجنحت مخيلة البعض إلى اعتباره بيانا مكتوبا سُلّم إلى «الشرق الأوسط»، بينما تقول الوثائق الموجودة لدى الصحيفة شيئا آخر. فقد أُجري الحديث يوم السبت ولكن اقتضى نشره صباح يوم الاثنين وسط تكتم شديد في الصحيفة عن فحوى الحديث المسجل والمبرمج موعده قبل نحو أسبوع، خوفا من تسريبه بطريقة أو بأخرى، علما من المسؤولين فيها بأن ما أدلى به الحريري سيدوي كقنبلة في الأوساط اللبنانية الإقليمية والدولية. وتبين لاحقا أن قيادات بارزة في «14 آذار» وحتى في تيار المستقبل الذي يرأسه الحريري لم تكن على علم مسبق بكلام الحريري، والدليل على ذلك حجم الاتصالات الهائل الذي انصب على صحافيي «الشرق الأوسط» في بيروت للسؤال بداية عن وجود «توضيح أو تكذيب» من قبل الحريري لمضمون الكلام، ثم بدأت «التحقيقات» حول ظروف إجراء المقابلة وعدد الحاضرين فيها وهويتهم، و«من طلب الموعد»، وهي أسئلة تعدت السياسيين إلى أجهزة الأمن الحزبية، والسفارات الغربية.

وتتركز أهمية ما قاله الحريري في شقين أساسين: شق العلاقة مع سورية، وشق شهود الزور. إذ أكد سعد الحريري أن العلاقات بين بلاده وسورية «علاقات تاريخية»، مقرا بالمراجعة الذاتية التي أجراها للعلاقة، ومعلنا أنه عندما يذهب إلى سورية يحس نفسه «ذاهبا إلى بلد أخ وصديق». وتكلم الحريري أيضا للمرة الأولى عن قضية ما يعرف بـ«شهود الزور»، معتبرا أن هؤلاء «ضللوا التحقيق» في اغتيال والده رئيس الوزراء الأسبق رفيق الحريري.

وأضاف الحريري في إطار حديثه لـ«الشرق الأوسط»: «فتحت صفحة جديدة في العلاقة مع سورية منذ تأليف الحكومة. يجب على المرء أن يكون واقعيا في هذه العلاقة لبنائها على أسس متينة، كما عليه أن يقيم السنوات الماضية، حتى لا تتكرر الأخطاء السابقة. ومن هنا، نحن أجرينا تقييمنا لأخطاء حصلت من قبلنا مع سورية، مست الشعب السوري، والعلاقة بين البلدين. علينا دائما أن ننظر إلى مصلحة الشعبين والدولتين وعلاقتهما، ونحن في مكان ما ارتكبنا أخطاء، ففي مرحلة ما اتهمنا سورية باغتيال الرئيس الشهيد، وهذا كان اتهاما سياسيا». وعن موقفه من قضية «شهود الزور»، قال الحريري: «حكى الكثير عن موضوع شهود الزور. هناك أشخاص ضللوا التحقيق، وهؤلاء ألحقوا الأذى بسورية ولبنان... وشهود الزور هؤلاء خربوا العلاقة بين البلدين وسيّسوا الاغتيال».

حديث الحريري الذي تصدر عناوين نشرات الأخبار المتلفزة والمسموعة لنحو أسبوع، احتل «عناوين» الجرائد وتصدر مواضيع البحث على المحرك العالمي «غوغل»، فسجلت أكثر من 75 ألف محاولة بحث عن هذا الحديث، وقد أقيمت حتى حلقات تلفزيونية لبحث تداعيات هذا الحديث وأسبابه، وارتكزت كل المقالات الصحافية على بحث أبعاده ونتائجه، وهي تداعيات مستمرة حتى اليوم، إذ لا يمر يوم دون أن يذكر فيه الحديث على ألسنة أحد السياسيين.

وكان للحديث وقع الصدمة في الشارع اللبناني على معارضي سياسة الحريري، تماما كوقعه على محازبيه وجمهوره الذي تأقلم سريعا مع المتغيرات من منطلق أن «الشيخ سعد دائما على حق»، وبالتالي يتوجب مواكبة المستجدات الإقليمية، خصوصا على خط دمشق - الرياض. ووصف المراقبون مقابلة الحريري مع «الشرق الأوسط» بـ«القنبلة السياسية من العيار الثقيل»، إذ كان لها وقعها المدوي على حلفائه وحتى بعض نواب كتلته الذين لم يكونوا على علم مسبق بالتحول «الحريري الاستراتيجي»، فتفادى هؤلاء، وخصوصا الأقطاب في «14 آذار»، الرد المباشر على ما تم الإدلاء به، بانتظار انحسار موجة الارتباك التي أصابت هذا الفريق، والتي كان من الصعب إخفاؤها أو احتواؤها. ويكشف أحد نواب تيار المستقبل في هذا الإطار، وهو من كان على علم بقرب الانعطافة السياسية للحريري، أن «ملف شهود الزور شكّل الملف الأصعب للتأقلم معه، بعكس ملف العلاقة مع سورية الذي كان له مقدمات وخطوات استباقية أبرزها الزيارات المتكررة للرئيس الحريري لدمشق». ولا يخفي النائب نفسه لـ«الشرق الأوسط» أن «الحريري لاقى ومن بعض المقربين منه معارضة لهذا التحول المفاجئ، فهم كانوا قد نصحوه بالتروي وباتباع خطوات تدريجية قبل القفز دون مظلة».

من جهته لا يزال أحد أقطاب قوى «14 آذار» «غير مقتنع كليا بالخطوة الحريرية التي وضعت حلفاءه أمام أمر واقع وأجبرتهم على التأقلم معه». ويقول لـ«الشرق الأوسط»: «لا نخفي أننا في بادئ الأمر شككنا في مصداقية ما نُشر وصحة الحديث، فانتظرنا تكذيبا ما أو على الأقل توضيحا، ولم نحصل على أي منهما. نحن اليوم نتفادى التعليق مباشرة على ما أدلى به الحريري، ونحاول قدر المستطاع إبداء وجهة نظرنا في الملف من دون أن نظهر بموقع المعارض للمواقف الحريرية المستجدة». وكان الحريري وحلفاؤه في قوى «14 آذار» اتهموا سورية بالوقوف وراء عملية الاغتيال التي حصلت بواسطة تفجير شاحنة مفخخة في بيروت في 14 فبراير (شباط) 2005 وأودت بحياة رئيس الحكومة الأسبق رفيق الحريري و22 شخصا آخرين. وقد انسحب الجيش السوري إثر عملية الاغتيال من لبنان في أبريل (نيسان) 2005 بعد نحو ثلاثين سنة بضغط من الشارع اللبناني والمجتمع الدولي.

وسلكت العلاقة بين سورية والحريري المنحى الإيجابي بعد تسلم الأخير رئاسة الحكومة في ديسمبر (كانون الأول) 2009 وبعد التقارب السوري السعودي وتوافق الطرفين على الملف اللبناني.

وكان الحريري أكد وفي أحد اجتماعات كتلة المستقبل التي يتزعمها أن حديثه لـ«الشرق الأوسط» أصبح واحدا من الثوابت التي يجب العودة إليها، وخصوصا بما خص العلاقة مع دمشق، إذ أنهى من خلاله مرحلة من العداء دامت 5 سنوات، وفتح صفحة جديدة بعد إقراره بالخطأ ووضع اتهامه دمشق باغتيال والده في خانة الاتهام السياسي. هذا، وكان من اللافت دعوة عضو كتلة المستقبل، النائب محمد قباني، حلفاء الحريري لمواكبة انفتاحه على دمشق وحضّه إياهم للتأقلم مع مواقفه المستجدة. وبينما فضّل حلفاؤه البقاء في منتصف الطريق ورفض تبني ما قاله الحريري عن شهود الزور، تاركين للمحكمة الدولية تصنيفهم، كان لكل فريق في المعارضة وجهة نظره مما أدلى به الحريري. إذ وصف حزب الله كلامه بـ«الشجاع والجريء»، معتبرا أن «كلماته جاءت بمثابة اعترافات وليست اعتذارا، كما أنها ليست سوى مجرد بداية»، ومعربا عن اعتقاده بأن «الاعتراف بالخطأ غير كافٍ، لأن المطلوب إعادة تصويب كل هذا المسار، وإلا لا نعرف كيف يمكن بناء وطن في حال عدم الاعتذار لسورية». ويطالب حزب الله الحريري حاليا بعد اعترافه بوجودهم، بحل ملف شهود الزور قضائيا كمدخل للحفاظ على الاستقرار اللبناني.

بدوره رأى رئيس المجلس النيابي نبيه بري أن «هذا الحديث يشكّل (ديفرسوار) مهمّا، ونافذة على الحقيقة»، بينما اعتبر عضو الأحزاب الوطنية والقومية النائب مروان فارس أن حديث الحريري هذا يلغي قوى «14 آذار» بالكامل.

وفي افتتاحيتها في اليوم التالي على نشر المقابلة، اعتبرت صحيفة «الوطن» السورية أن الحديث الصحافي الأخير لرئيس الحكومة سعد الحريري لصحيفة «الشرق الأوسط» السعودية، عوّم التهدئة السياسية اللبنانية وحمل البلد إلى مرحلة جديدة واعدة وأعطى صدقية لمحاولات ومساعي إجراء أكثر من فريق وجهة سياسية وحزبية تقويما ذاتيا شاملا، يكرس إعادة قراءة سياسية لمعظم ما حفلت به الأعوام الخمسة الفائتة، وخصوصا كل ما هو متعلق باغتيال الرئيس الأسبق للحكومة رفيق الحريري وما بُني على هذا الاغتيال من توظيف واستثمار في خدمة مشروع هيمنة خارجية تتكئ على عناصر داخلية متماهية معه. ورأت الصحيفة السورية أن هذا الحديث الصحافي شكّل مفتاحا سحريا لكثير من الملفات، في مقدمها مسألة شهود الزور الذين وظفوا لحرف التحقيق الدولي عن مساره المهني ولزج لبنان في صلب مشروع تقسيمي أسقطت طلائعه حرب يوليو (تموز) 2006.

ويتوافق المراقبون على أن حديث الرئيس الحريري لـ«الشرق الأوسط» أصبح بمثابة مرجعية يعود إليها كل باحث في الشأن اللبناني. ويشرح الباحث فؤاد مطر الظروف الواجب توافرها ليتحوّل أي حديث صحافي حدثا بحد ذاته، قائلا: «لتكتسب أي مقابلة صفة الحدث يتوجب أن تأتي ردود الفعل عليها متنوعة، وأن يكون المتحدث متبنيا لما قاله، فلا يوضح أو ينفي أو يلتف حول بعض العبارات». ويضيف مطر: «كما على المتحدث أن يفتح ثغرة في جدارات سياسية صلبة، وهذا ما أقدم عليه الحريري في حديثه لـ(الشرق الأوسط) فاكتسب حديثه بُعدا محليا وإقليميا كبيرين». ويشدّد على أن «أهمية أي مقابلة ترتكز على أن يعيش المضمون ولا تقتصر ردود الفعل عليه ليومين أو ثلاثة، لا بل يستمر في التفاعل» ويضيف: «ولا ننسى أن ميزة الحديث الذي نشرته (الشرق الأوسط) هو أن الأسئلة التي وجهت إلى الحريري كانت خالية من أي مواربة، وأن الإجابات جاءت عفوية وواضحة»، مؤكدا أن «الحديث بحد ذاته شكّل نقطة تحوّل في موقف عريض ستبنى عليه مواقف خاصة بما يتعلق بالعلاقة اللبنانية السورية». بدوره يعتبر المحلل الصحافي خليل فليحان أن «مقابلة الحريري مع (الشرق الأوسط) تكتسب أهمية لافتة لأنها شكّلت انعطافة في سياسته منذ 5 أعوام من خلال فتحه صفحة جديدة مع سورية، ليصبح بذلك حديثه حدثا بحد ذاته، بل مرجعية يعود إليها خصومه ليذكروه بضرورة التطبيق العملي لما طرحه نظريا». وقال: «هناك عناصر لأزمة سياسية عامة، شكّل الحديث فيها منعطفا، وبالتالي أصبح مرجعية نعود إليها».

ويقسّم الصحافي نبيل بومنصف المقابلة التي أجرتها «الشرق الأوسط» مع الحريري إلى شقين: شق حدثي، وشق غير حدثي، فيرى أن «ما قاله الحريري عن أن اتهامه لسورية كان سياسيا حدث كبير يتوجب التوقف عنده، في حين أن باقي الحديث لا يندرج في شق الحدث، خصوصا أنه لم يغيّر موقعه السياسي كما فعل وليد جنبلاط، وأنه لم يستكمل ما طرحه في ملف شهود الزور بخطوات عملية، ما يحدّ من أهمية ما قيل».