مصر: الإعلام تحت الحصار.. ونجومه خارج الخدمة مؤقتا

تزامنا مع بوادر فتنة طائفية بين المسلمين والأقباط واقتراب الانتخابات التشريعية والرئاسية

TT

تتنافس ثلاث وجهات نظر لتفسير ما حدث على الساحة الإعلامية في مصر خلال الفترة الماضية من إجراءات ضبط الفضائيات العربية التي تبث من القاهرة بمراجعة التزامها ببنود عقودها، وهو ما أدى إلى إغلاق بعضها وإنذار أخرى، بالإضافة إلى إلزام وحدات البث خارج المنطقة الحرة في مدينة الإنتاج الإعلامي بالعودة إليها وتجديد تراخيصها، وكذلك إعادة تقنين خدمة الرسائل الإخبارية القصيرة على الهاتف الجوال، والإطاحة بإعلاميين عرفوا بنقدهم اللاذع للنظام المصري.

وبينما يرى مؤيدون لتلك الإجراءات أنها تأخرت كثيرا، مشيرين إلى أنها تهدف إلى تنظيم فوضى إعلامية غير مسبوقة بعد سنوات من ممارسة «الحرية المنفلتة»، يرى معارضون أن شبح السياسة وراء الباب، قائلين إن النظام المصري الذي طالما تحدث بتوسيع هامش الحرية يقف الآن عاجزا أمام موجات الغضب والمطالبة بالتغيير، وليس أمامه إلا الظهور بوجه مختلف، وأن ما يحدث يشكل ردة تكرس للأحادية وثقافة الخوف.

ويصر عدد من التكنوقراطيين على أن المشهد أكثر بساطة، ويؤكدون أن معادلاتهم بسيطة، ومنها أن «من يخالف العقد أو يتأخر عن سداد المستحقات المالية نقطع عن استوديوهاته الكهرباء على الفور».

وهكذا؛ «بعد خمس سنوات من الحراك السياسي وممارسة الحرية المنفلتة تبين أن الصحافيين لم يخضعوا أنفسهم للمراقبة المهنية ولم يطبقوا على ممارساتهم مواثيق الشرف المختلفة»، هكذا أجمل رئيس تحرير «روزاليوسف»، عبد الله كمال، عضو هيئة مكتب أمانة الإعلام في الحزب الوطني الديمقراطي (الحاكم) رؤيته للمشهد الإعلامي في البلاد.. وقال لـ«الشرق الأوسط» إن «ما أراه هو مجموعة من المواقف المختلفة في مجالات متعددة لا يربطها نسق واحد وتعبر عن أن المجتمع ضجر من عدم سيادة القواعد المهنية، ويعلن من خلال مؤسساته الاعتراض على العشوائية السائدة، ويسجل رغبته في ضبط هذا الانفلات دون أن يؤدي هذا إلى الإخلال بالحق الدستوري في حرية إبداء الرأي».

وتابع كمال، وهو أيضا عضو مجلس الشورى (الغرفة الثانية في البرلمان المصري)، بقوله إن «المجتمع استشعر خطورة الموقف نتيجة تورط عدد من الإعلاميين وصحف في أمرين جوهريين؛ الأول هو التورط في تحفيز الفتنة وترويج الخطاب الطائفي بما يهدد الأمن القومي ويمثل خطرا على استقرار الدولة، أما الثاني فهو التعدي الإعلامي على القضاء».

وأضاف كمال أن هذا الشعور بالخطر جعل أكثر من جهة في البلاد تنتفض، منها المجلس الأعلى للصحافة ونقابة الصحافيين ومجلس القضاء الأعلى، والرئيس مبارك نفسه، في ما يخص قضية الفتنة الطائفية التي تحدث عنها مؤخرا أكثر من مرة محذرا من تورط الإعلام في هذا التفجير.

يتفق الدكتور محمود علم الدين، وكيل كلية الإعلام جامعة القاهرة مع ما سبق، لكنه يلفت إلى ظاهرة في عالمنا العربي، وهي أن يكون تمويل المؤسسات الإعلامية من الدولة وتصر تلك المؤسسات على معالجة القضايا الداخلية لدول أخرى.

وأضاف أنه مع تغييرات البيئة الإعلامية في ظل اقتصاد حر لا يمكن أن نقرأ المشهد الحالي باعتباره فرض قيودا على الإعلام، مشيرا إلى أن التخبط الذي تعاني منه القنوات الفضائية والصحف وصل إلى درجة «لا يمكن السكوت عنها»، وأن المطلوب هو إعلام أكثر مهنية وتوازنا.

وتابع بقوله إن «قضية (الدستور) التي أثيرت مؤخرا مثلا تسترعي الانتباه لأنها المرة الأولى التي نشهد فيها انتقال ملكية صحيفة خاصة من مالك لآخر، وهذا يفتح الباب لمناقشات كثيرة.. لكن أهم ما كشفت عنه هذه الأزمة حاجتنا الملحة للشفافية في ما يتعلق بالمؤسسات الإعلامية الخاصة».

وأضاف: «الصحف القومية، التي يتندر البعض بها الآن، يراقبها الجهاز المركزي للمحاسبات، وبالتالي نعرف كل شيء عنها، وهو أمر واجب توافره في المؤسسات الخاصة، كما أننا في حاجة إلى مكاتب التحقق من الانتشار بعدما كشفت الاتهامات المتبادلة مؤخرا حول انخفاض نسب التوزيع عن عدم توافر الآليات التي يجب أن ترافق الإعلام الحديث».

أما المعارضون للإجراءات الأخيرة، الذين اعتبروا أن وقف بث برنامج «القاهرة اليوم» للإعلامي عمرو أديب جاء كتطور لأزمة تبدت معالمها قبل أشهر بين مدينة الإنتاج الإعلامي في القاهرة وقنوات «أوربت» الفضائية، أخذوا يعبرون عن ريبتهم مما يحدث بعد أنباء عن إقصاء إبراهيم عيسى الذي كان حتى تلك اللحظة رئيس تحرير صحيفة «الدستور»، عن برنامج شارك في تقديمه على قناة «أون تي في» الخاصة والمملوكة لرجل الأعمال المصري نجيب ساويرس.

ترافقت هذه الإجراءات مع تقنين خدمة بث الرسائل النصية القصيرة، وتوقيع مذكرة تفاهم بين شركة «نايل سات» وشركة «نور سات» لخدمات الأقمار الاصطناعية، تكفل مزيدا من التنسيق المشترك، وهو ما فسره البعض بأنه خطوة تهدف إلى إغلاق الباب الخلفي منعا للالتفاف على إجراءات منع بث القنوات الفضائية، وما نقلته مصادر مطلعة لـ«الشرق الأوسط» من أن جهاز الرقابة على المصنفات الفنية تلقى توجيهات من وزارة الإعلام المصرية بعدم ترخيص البرامج التي تتناول ملف الفتنة الطائفية في البلاد، وأخيرا إلزام كل المحطات الفضائية التي تبث من خارج أسوار مدينة الإنتاج الإعلامي بضرورة نقل أجهزة البث الخاصة بها إلى المدينة مرة أخرى.

لكن قرار الدكتور سيد البدوي، رئيس حزب الوفد (المعارض)، المالك الجديد لصحيفة «الدستور» (باع حصته فيها لأحد المساهمين لاحقا)، أكثر الصحف الخاصة انتقادا للنظام المصري، بإقالة إبراهيم عيسى من منصبه كرئيس لتحرير «الدستور» أعاد توزيع الأحداث داخل فضاء المشهد في مصر، ومنح ما سبقه من قرارات معاني مختلفة فتحت الباب واسعا لمناقشات على الساحة المصرية اختلط فيها السياسي بالمهني، وقضايا الإعلام بصناديق الاقتراع.

حاول إبراهيم عيسى من جهته إيضاح سياق الأحداث كما يراها، وقال لـ«الشرق الأوسط» إن «ما جرى ويجري هو ردع للصحف ووسائل الإعلام. وإقالتي من (الدستور) التي كانت تتجاوز كل الخطوط الحمراء وتدفع الصحف الأخرى إلى تجاوزها هو جزء من المشهد العام، ورسالة للإعلاميين مفادها (كما كنت)». وهي كلمة من القاموس العسكري تعني العودة إلى الوضع الأول قبل التحرك، في إشارة إلى التضييق على حرية الإعلام.

وأضاف عيسى قائلا: «(الدستور) صحيفة الحركات الاجتماعية الموجودة على أقصى يسار النظام، وإغلاقها هو منع لهؤلاء من الظهور إعلاميا، باختصار ما حدث هو قطع الشريان بالنسبة للحركات الاجتماعية المعارضة».

وأضاف قائلا: «لم يعرف النظام ماذا يفعل مع الصحيفة، فمالكها السابق لم تستطع الدولة أن تؤذيه لأنه ناشر فقط، على خلاف رجال الأعمال الآخرين الذين يمتلكون وسائل إعلام، فكانت رقاب هؤلاء الملاك بين أصابع الحكومة، ولذلك لم تستطع الحكومة أن تصل إلى الصحيفة بالتضييق على المالك، ولكن عن طريق أن يستولي عليها آخرون، ومن ثم إغلاقها».

يصر عيسى على أن المعركة لم تنته بل «بدأت»، ويشير إلى استعداده للدخول في معركة قضائية، وحتى ينتهي عيسى من معركته سيجلس في حديقة منزله الذي انتقل إليه حديثا في محافظة السادس من أكتوبر المتاخمة للعاصمة المصرية يلعب مع أبنائه ويطالع ما تحتويه مكتبته الخاصة من عناوين.

وبالقرب من منزل عيسى، حيث تقع مدينة الإنتاج الإعلامي، يرى أحمد عفيفي، مسؤول الاستوديوهات في المدينة، المشهد على نحو مختلف وبسيط، يقول إنه إذا ما فشلت قناة فضائية في الالتزام بدفع أقساط الإيجار المنصوص عليه «يتم فسخ التعاقد ونقوم فورا بفصل الكهرباء عن الوحدات المستأجرة».

ويضيف عفيفي سببا آخر هو أن قيام بعض المتعاقدين مع المدينة بالتعاقد من الباطن مع جهة أخرى تقوم بالعمل الإعلامي يخالف شرط التعاقد ويستوجب فسخه أيضا نظرا لعدم الالتزام بشرط عدم التنازل عن العين المستأجرة لآخرين غير الجهة التي تم التعاقد معها.

ووضع مصدر إعلامي مسؤول القضية داخل هذا السياق نفسه، حيث قال إن «مراجعة تعاقدات الشركات ومدى التزام القنوات بما ورد فيها يجري بصورة دورية روتينية، وأنه من غير الصحيح كون هذا الإجراء جاء ضمن حزمة من التدابير ترمي إلى هدف معين»، مشيرا إلى أن القناة التي لا تلتزم ببنود التعاقد الذي أبرمته، سواء على الجانب المالي أو من حيث المحتوى، لا بد وأن تتوقع اتخاذ إجراء ضدها.

هذه التوقعات عرفت طريقها للبعض كإنذارات رسمية، وهو ما دفع قناة «أون تي في» لعقد اجتماع طارئ قبل أيام مع مسؤولي البرامج الحوارية والإخبارية فور وصول إنذار لها من شركة «نايل سات» للبث، الذي أنذر القناة بفسخ التعاقد إذا ما واصلت مخالفة بنوده.

وقالت مصادر خاصة لـ«الشرق الأوسط» إن الاجتماع العاصف تمخض عن إلغاء البرامج الإخبارية التي دأبت القناة، التي لم تحصل على رخصتها كقناة إخبارية، على تقديمها منذ أشهر، وتخفيف النبرة الهجومية التي كانت البرامج السياسية تحفل بها.

وفي محاولة لتخفيف حدة المشهد، صرح مصدر مسؤول في الشركة المصرية لمدينة الإنتاج الإعلامي بأن القنوات الـ4 التي أغلقت مؤخرا بقرار من شركة «نايل سات» لمخالفتها بنود التعاقد لا تزال تمارس عملها في المدينة عبر تسجيل الحلقات وإعدادها انتظارا لتوفيق أوضاعها والعودة للبث مرة أخرى.

لكن البعض قرأ قرار إغلاق الفضائيات كرسالة، ورغم عدم ورود أي تعليمات مكتوبة للقنوات الفضائية المصرية بضرورة تفادي موضوعات بعينها، كما يقول علي عيسى، مخرج البرامج الحوارية في قناة «المحور» الفضائية المصرية، فإن مسؤولي هذه القنوات والبرامج «الساخنة» تفاعلوا مع الأحداث وقرروا تشديد الرقابة الذاتية بعدما تابعوا ما يجري حولهم في الساحة الإعلامية. ويؤكد عيسى أنه تم إغلاق ملفات معينة لحين إشعار آخر، منها مثلا ملف «الفتنة الطائفية».

الإجراءات التكتيكية التي اتخذتها بعض وسائل الإعلام في مصر في محاولة لـ«تفادي المجهول»، بحسب البعض، لم تنه حالة الجدل الدائر حول الضوابط المهنية التي غابت داخل السوق الإعلامية المصرية. وهو ما علقت عليه الكاتبة الصحافية سكينة فؤاد، القيادية في حزب الجبهة الديمقراطية (المعارض)، بقولها إن «النظام ليس مكتوف الأيدي، ولديه ترسانة من العقوبات على التجاوزات في مجال الإعلام، وما نطالب به هو تفعيل هذه القوانين والاحتكام للقضاء». مضيفة أنه ليس من المنطقي إقصاء الآخر خشية أن يتجاوز.

يتفق الكاتب الصحافي محمد عبد القدوس، مقرر لجنة الحريات في نقابة الصحافيين المصريين، مع فؤاد، بقوله: «كان يمكننا أن نصدق أوهام الحديث عن المهنية والتجاوز إلى آخر ذلك من الرطانة المنتشرة الآن لو أننا أمام حالة أو اثنتين.. ليس من المعقول أن نصدق أن كل هذه الإجراءات تمت صدفة».

وتابع: «نحن نتعامل مع ما يجري باعتباره هجمة شرسة على الإعلام المصري تعيد إلى الأذهان أشباح سبتمبر(أيلول)»، في إشارة إلى قرارات الاعتقال التي اتخذها الرئيس المصري الراحل، أنور السادات، في عام 1981 ضد عدد واسع من معارضيه، وشملت عددا كبيرا من رموز المعارضة.

لكن، على نحو مختلف تجري الأمور لدى جماعة الإخوان المسلمين، أكثر قوى المعارضة مصرية تأثيرا وأكثرها كفاءة في استخدام التقنيات الحديثة التي تتيحها ثورة وسائل الاتصالات، ورغم اتفاقها على أن الإجراءات تهدف إلى تكميم المعارضة في البلاد قبل انتخابات البرلمان الشهر المقبل وانتخابات الرئاسة خريف العام المقبل، فإنها لم تحمل رؤية متشائمة، وقال عبد الجليل الشرنوبي، رئيس تحرير موقع «إخوان أون لاين» إن «معركة الميديا الحديثة معركة مفتوحة، وأي محاولة للسيطرة عليها محكوم عليها بالفشل»، مشيرا إلى أن موقع «الإخوان» تم حجبه في مصر من عام 2004 حتى عام 2005، لكنه استمر في العمل من الخارج.

وقلل سعيد شعيب، مدير مركز «صحافيون متحدون» من تفاؤل الشرنوبي قائلا إن لديه معلومات من مصادر داخل الحزب الوطني الديمقراطي (الحاكم) تفيد بأن قانونيين في الحزب يعكفون الآن على إعداد مشروع قانون متعلق بجرائم النشر على شبكة المعلومات الدولية (الإنترنت).

وتابع شعيب: «شيء بديهي أن يكون هناك قانون لجرائم الإنترنت.. لكن حشر جرائم النشر وتقييد حرية تداول المعلومات هو ما نخشى منه.. وهناك سوابق تدعونا إلى الريبة مما يتم إعداده الآن».