لا مكان لـ«لحظة صدق» على شاشات التلفزيون الروسي

«قبل وبعد منتصف الليل».. ذكريات حالمة

بوتين رئيس الوزراء الروسي مازال مسيطراً على شاشات التلفزيون الروسي
TT

جاءت أزمة إقالة عمدة موسكو في نهاية سبتمبر (أيلول) الماضي لتكشف عن اهتزاز «الثوابت» وتأرجح «الكلمة» تحت وطأة سطوة السلطة وقدرتها على تطويع «القلم» وفرض مبدأ «المصلحة» معيارا لقياس أبعاد «المهنية» في مجال الإعلام و«استقلالية» الرأي والقرار. تعالت الاتهامات في حق الكرملين تقول بمسؤوليته تجاه تراجع حرية الرأي وغياب الرأي الآخر بعد أن كثر اللغط خلال السنوات الأخيرة حول انحسار مساحات الديمقراطية في روسيا. وبعيدا عن مشروعية الكثير من الاتهامات ومنطقية ما جرى توجيهه من انتقادات نقول إن ما تشهده الساحة الإعلامية الروسية من جدل يدور في معظمه بين مؤيد لتوجهات السلطة والنظام، ومعارض على استحياء لهذه التوجهات، يشير إلى أن المصالح صارت تحدد الكثير من تصرفات ومواقف ممثلي «السلطة الرابعة» ممن يتساقطون في شرك إعلاء الخاص على العام. ولعل ما حدث بشأن الحملة كاملة العدد التي أجهزت على عمدة موسكو، يوري لوجكوف، ونالت من سمعته ومكانته من خلال الكثير من الاتهامات بالفساد واستغلال الوظيفة وتسهيل اكتناز قرينته لمليارات الدولارات من خلال تجارة الأراضي والعقارات، يقول إن الكرملين يمسك بتلابيب الموقف ويحكم قبضته على مقاليد إدارة شؤون الإعلام، والمرئي منه بالدرجة الأولى. وثمة من يقول إن ما بثته قنوات التلفزيون، ومنها الرسمية، من تقارير وأفلام استهدفت فضح ممارسات عمدة العاصمة وقرينته التي ساهمت الوكالة الفيدرالية للنشر والصحافة في تمويل إعداد بعضها، كان يستهدف ضمنا إعداد الساحة الروسية للانتخابات البرلمانية والرئاسية المرتقبة في عامي 2011 و2012 فيما يبدو بالونة اختبار لنيات ومواقف الكثيرين من أساطين الكلمة في موسكو. ومن هذا المنظور تناولت الأوساط الاجتماعية والسياسية قضية منع برنامج «لحظة صدق» للتلفزيوني المعروف اندريه كاراؤلوف من الظهور على شاشة «القناة الثالثة» - قناة العاصمة التابعة عمليا لعمدة موسكو رغم التنويهات الكثيرة عن حلقة البرنامج التي كانت تشير إلى أنها تتضمن الردود على الكثير من الاتهامات في حق عمدة موسكو وتفضح شهادات من ساهموا في حملة تشويه الحقائق. ولم يمض من الزمن سوى أيام معدودات حتى تلقى كاراؤلوف خطابا رسميا يفيد بإنهاء تعاقده مع القناة لأسباب تعود إلى «انتهاكه المستمر لبنود العقد الموقع وتعمده تشويه الحقائق»، وهو الذي يواصل تقديم حلقات برنامجه منذ مارس (آذار) 1992 التي دأب خلالها على فضح وقائع الفساد والجريمة ورصد تجاوزات المسؤولين، وإن سقط أحيانا في شرك «الموالاة» و«محاباة» أساطين المال والأعمال، شأن موقفه الأخير المؤيد لعمدة موسكو. وأشار الخطاب أيضا إلى أن كاراؤلوف خالف «قواعد المهنية»، وهو ما يثير السخرية ويدفع إلى اتهام من يتذرع بمثل هذه الصيغ «الهلامية» بالجهل والعجز عن فهم معايير المهنية الحقيقية، وهم كثيرون اليوم ممن يدثرون بدفء السلطة ويلتحفون بعباءتها.. إلى حين بطبيعة الحال! ومن واقع مشاهدة فقرات كثيرة من الحلقة الممنوعة من النشر التي كانت تحمل عنوان «الجحيم الروسي»، نقول إن كاراؤلوف تعمد اصطياد الفقرات الضعيفة في شهادات المشاركين في فيلم «القضية في الطاقية» الذي أذاعته قناة «إن تي في» وأغفل عن عمد، حسبما نعتقد، الوقائع التي تقول باستغلال النفوذ وغير ذلك ممن يتداوله القاصي والداني في موسكو، لسنوات طويلة، حول فساد السلطة في العاصمة الروسية، ولا سيما في مجال تجارة الأراضي والعقارات وتوزيعها على المحاسيب والمقربين، بما يعني عمليا أن الحلقة لم تكن لتؤثر على الرأي العام لو تركها أولو الأمر تمر، مما يعكس عدم المهنية من جانب «الرقابة غير المعلنة». وهنا تشخص المشكلة بكل قامتها حيث تبدو «المصالح «معيارا» لـ«المهنية» التي اتهم المسؤولون الحكوميون كاراؤلوف بأنه يفتقدها. وهي «المهنية» نفسها التي جعلت كاراؤلوف يبادر بالترويج لأنه هو الذي طلب «فسخ العقد» رغم اعترافه بتسلمه «خطاب المنع»، وأنه اتصل بألكسندر بونوماريوف، المدير العام للقناة، لـ«يشكره على سنوات العمل المشترك»، على حد قوله! وما دام الشيء بالشيء يذكر، نتوقف لنتناول ما قد يبدو على طرفي نقيض من حكاية منع برنامج «لحظة صدق»، ففي مثل هذا الوقت منذ عشرين عاما فوجئ المشاهدون باختفاء أحد أهم البرامج التلفزيونية التي كانت قد غيرت وجه الإعلام السوفياتي في أعقاب الإعلان عن سياسات «البيريسترويكا والجلاسنوست»، وهو برنامج «قبل وبعد منتصف الليل» لصاحبه فلاديمير مولتشانوف. وكانت السلطات قد حاولت آنذاك التدخل بـ«تعديل وحذف» بعض فقرات هذا البرنامج الذي كان أشهر البرامج التلفزيونية التي ظهرت مع مطلع سنوات «البيريسترويكا»، وهو ما رفضه فلاديمير مولتشانوف صاحب البرنامج الذي سعدت حظا بزمالته في كلية الآداب جامعة موسكو في مطلع سبعينات القرن الماضي. أعلن مولتشانوف أنه يفضل الانسحاب وعدم إذاعة الحلقة التي شاءت الأقدار أن تكون الأخيرة، وليكون المنع والإغلاق مقدمة لانحسار «الجلاسنوست» وانهيار الحلم رغم ما أثاره البرنامج من ظواهر إيجابية كانت مقدمة لظهور برامج أخرى لا تزال حية في ذاكرة الكثيرين، ومنها «وجهة نظر» (فزجلياد) التي أعلن غورباتشوف صراحة أنه ليس راضيا عنه، وبرنامج «600 ثانية» لألكسندر نيفزوروف الذي زلزل مدينة لينينغراد بما أثاره من قضايا ساخنة وما فتحه من ملفات للجريمة والفساد في توقيت مواكب لظهور نجوم الساحة السياسية ممن جاءوا من هناك لتسلم مقاليد السلطة في الكرملين، ونقصد بهم فلاديمير بوتين وديمتري ميدفيديف ورفاقهما ممن يتربعون على عرش السلطة لما يقرب من عشر سنوات. وإذا كان مولتشانوف ونيفزوروف وأمثالهما رفضوا المساومة، فقد ظهر من يقدم هذه الكلمة لمن يدفع أكثر ما دامت جملة «الثمن حسب الاتفاق» تظل شعارا يتصدر غلاف الصحف والمجلات بدلا من كلمتي «السعر الرسمي»، بما يعني أن ثمن الكلمة يتباين بقدر تباين الزمان والمكان! انسحب مولتشانوف في صمت أملته عليه رومانسيته الحالمة التي طالما حددت مسار وتعرجات حياته التي اختار لها الأدب والموسيقى والفن إطارا. ونذكر أن ذلك جاء في توقيت مواكب لظهور قناة «إن تي في» التي أسسها فلاديمير جوسينسكي، أول رئيس للمؤتمر اليهودي الروسي، والتي كانت سلاح الأوليجاركيا في تسعينات القرن الماضي، وإحدى أهم القنوات التي ساهمت في فوز الرئيس السابق بوريس يلتسين بفترة ولاية ثانية. ولذا لم يكن غريبا أن تكون هذه القناة أيضا في مقدمة القنوات التي طالتها موجة التغيير العاصفة في مطلع عام 2000. وكان الرئيس السابق بوتين قد بدأ حملته التي استهدفت تطهير الساحة الإعلامية من رموز تقويض وحدة الوطن، وفي مقدمتها «إن تي في» بما قدمته من دعم للمقاتلين الشيشان إبان سنوات الحرب الشيشانية الأولى 1994 -1996. الطريف أن هذه القناة نفسها ومن بقي فيها من نجومها القدامى تقف في طليعة القوى التي تخدم أغراضا بعينها بإيعاز مباشر من «حزب السلطة» الذي وصفه سيرجي ميرونوف، رئيس مجلس الاتحاد، بأنه «نقابة البيروقراطيين» التي تضم بين صفوفها أكبر أثرياء روسيا. وكان ميرونوف قد أشار إلى وجود الرقابة على قنوات التلفزيون بإيعاز من السلطات الرسمية التي قالت «وول ستريت جورنال» الأميركية إنها «تمنع الكثير من الشخصيات المعارضة من مجرد الظهور على شاشات هذه القنوات، كما تعمل في غالبية القنوات الفضائية أطقم عمل تابعة لها». ذلك ننقله عن الأصدقاء الذين يمثلهم ميرونوف، والخصوم متمثلين في إحدى أهم المطبوعات الأميركية ممن أعربوا عن مواقف متقاربة تقول إن الأجهزة المعنية تواصل إحكام قبضتها الحديدية تحسبا لأي تحركات غير محسوبة قد تربك حسابات السلطة قبيل الانتخابات البرلمانية في العام المقبل التي ستحدد بدرجة كبيرة محاور الانتخابات الرئاسية المرتقبة في عام 2012.