فيلم سينمائي يستقطب السياسيين والمفكرين داخل السلطة في واشنطن

«فير غيم» يكشف حقائق ويقع في أخطاء حول قضية فاليري بليم

ناعومي واتس في شخصية فاليري بليم خلال جلسة استجوابها من قبل هيئة محلفين كبرى («الشرق الأوسط»)
TT

يبدو أن فيلم «فير غيم»، الذي طرح في دور العرض مؤخرا، سيثير من جديد حالة من الاستقطاب بين السياسيين والمفكرين وداخل هيكل السلطة في واشنطن. ومن المحتمل أن يثير تساؤلات على غرار: هل كان ينبغي أن نغزو العراق؟ هل كان جو ويلسون عميلا سريا بالفعل؟ هل بالغ البيت الأبيض في تقدير الأدلة المشيرة لوجود خطر وشيك من قبَل صدام حسين؟ هل كانت فاليري بليم عميلا سريا لوكالة الاستخبارات المركزية، «سي آي إيه»، أم مجرد سكرتيرة؟ تبدو مشاهدة فيلم «فير غيم» أشبه بالقيام برحلة زمنية بين عامي 2002 و2006 للتعرف على القضايا المرتبطة بيورانيوم «الكعكة الصفراء» وأنابيب الألمنيوم والمذكرات السرية المسربة والشهادات التي أدليت على مسامع هيئة محلفين كبرى وشبح روبرت نوفاك. ويظهر بعض سكان واشنطن - مثل سكوتر ليبي وكارل روف وجورج دبليو. بوش - في أدوار مساندة. وعبر مقتطفات إخبارية حقيقية من قنوات كابل، تطفو القضايا السياسية المرتبطة بحرب العراق على السطح مجددا، على نحو يحمل طابعا شخصيا قويا في الغالب.

ويحمل الفيلم عبارة «مستوحى من أحداث حقيقية»، ويعد الفيلم بترك تأثير عاطفي قوي على المشاهدين، وهو ما تحقق بالفعل، وساعد في ذلك الأداء القوي لشين بين (في دور ويلسون) وناعومي واتس (في دور زوجته)، بجانب الأداة التي يقدم عليها جميع المخرجين بحماس: الرخصة الدرامية (مصطلح يشير إلى تغيير أحداث حقيقية). لكن التساؤل الذي يثيره الفيلم هو: إلى أي مدى تبدو نسخة هوليوود من الأحداث صادقة في سردها للتاريخ؟ ومتى تهدد الآيديولوجية والميلودراما بالتأثير على إعادة سرد أحداث واقعية؟

باعتبارنا مراسلين صحافيين توليا تغطية قضية التسريب المرتبطة ببليم وعملها لدى «سي آي إيه»، عكفنا على مقارنة الوقائع التي تكشفت داخل واشنطن خلال تلك الفترة بتلك التي أوردها كاتبو السيناريو ومخرج «فير غيم» في الفيلم. يبدو الفيلم نموذجا لسرد دقيق لأحداث واقعية جرى تفحصها بعناية؛ وإن كان يتعين التعامل معه بحذر لأنه يروي الأحداث من منظور جو ويلسون وفاليري بليم ويلسون، حيث يعتمد سيناريو الفيلم على مذكراتهما المنفصلة. والمؤكد أن «سي آي إيه» وأعضاء إدارة بوش سيختلفان بشدة مع هذه الرؤية للأحداث.

بيد أنه بخلاف القضايا السياسية، يكمن الجوهر العاطفي لـ«فير غيم» في التأثير القوي الذي خلفه حدث التسريب لهوية فاليري على الحياة الزوجية لويلسون وفاليري، والمؤكد أن الشخصيتين، اللتين يضطلع بهما بين وواتس، ستتركان أصداء لدى أي شخص على معرفة بالشخصيتين الحقيقيتين. طبقا للقانون، لم يكن بمقدور فاليري الحديث إلى كتاب السيناريو المشاركين بالفيلم حول حياتها المهنية السرية. وفي هذا الصدد، أوضح المخرج دوغلاس ليمان أنها «لن تقدم قط على خيانة الوكالة». وعليه، ظهرت الحاجة إلى بناء شخصيتها في الفيلم بالاعتماد على مصادر أخرى، منها ضباط استخبارات سابقين. وعلى الرغم من إدراكه أنه يتعامل مع «أفراد جرى تدريبهم على حيل الخداع»، فإن ليمان قال إنه على ثقة من أنه تمكن من تصوير النشاطات السرية بدقة.

من ناحية أخرى، سمح الزوجان بطرح خلافاتهما الزوجية للتفحص الدقيق، ووصفا لقاءاتهما بليمان وكتاب السيناريو بأنها بدت أشبه بجلسات العلاج النفسي، وساورهما شعور بالألم أحيانا إزاء معايشة الأحداث التي شاهداها في الفيلم مجددا.

يقدم الفيلم عودة سريعة إلى فبراير (شباط) 2002، عندما سأل ديك تشيني، نائب الرئيس آنذاك، مساعده المسؤول بعرض تقارير موجزة من «سي آي إيه» حول معلومات استخباراتية تدعي أن العراق سعى لشراء 500 طن من ركاز اليورانيوم من النيجر لصنع سلاح نووي. وبعثت الوكالة جو ويلسون، سفير سابق متمرس في الشأنين العراقي والنيجري، لتحديد مدى صحة هذه الإدعاءات، التي تم الحصول عليها في الأصل من الاستخبارات الإيطالية من مذكرة اتضح لاحقا أنها زائفة. وبالفعل، فضح ويلسون زيف المذكرة.

ومع ذلك، بعد قرابة عام من الرحلة التي قام بها ويلسون، تحدث بوش في خطاب حالة الاتحاد عام 2003 بنبرة تحمل نذر الشؤم حيال تقرير استخباراتي بريطاني يشير لسعي صدام حسين للحصول على «كميات كبيرة من اليورانيوم من أفريقيا». وجاء خطاب بوش في وقت كانت فيه حشود الجنود الأميركيين تجتمع بالفعل بالخليج العربي.

في 6 يوليو (تموز) 2003، بينما كانت الحرب مشتعلة، خرج ويلسون غاضبا إلى العلن وكتب مقالا في «نيويورك تايمز» وشارك ببرنامج «ميت ذي برس» وشن هجوما ضاريا عبر «واشنطن بوست». خلال تلك الفترة، أطلق ويلسون إدعاءات بالغة الخطورة، متهما الإدارة بالتلاعب في معلومات استخباراتية كذريعة لغزو العراق. ورد البيت الأبيض عبر كبار مسؤوليه بالكشف عن هوية زوجته العميلة السرية لدى «سي آي إيه» أمام خمسة صحافيين على الأقل في محاولة لتشويه صورة ويلسون، والترويج لقصة مفادها أن فاليري بعثت زوجها في رحلة إلى النيجر لمساعدته في تعزيز عمله كاستشاري في مجال الأعمال التجارية.

إلا أن نوفاك أقدم على خطوة إضافية عبر عموده الصحافي، بالكشف عن اسمها. وكتب قائلا: «لم يعمل ويلسون قط لحساب (سي آي إيه)، لكن زوجته، فاليري بليم، عميلة لحساب الوكالة وتعنى بشؤون أسلحة الدمار الشامل». وأضاف: «أخبرني اثنان من المسؤولين البارزين بالإدارة أن زوجة ويلسون اقترحت إرساله للنيجر للتحقق من أمر التقرير الإيطالي».

وقطعا يتعين على أي فيلم يرغب في تقديم تصوير حي للشخصيات انتهاج وجهة نظر محددة، بدلا من تقديم سرد جاف للأحداث أشبه بما تحويه الموسوعات التاريخية. يذكر أن المسودة الأولى لسيناريو «فير غيم» جاءت مكدسة بالتفاصيل على نحو يستلزم عرضها في فيلم مفرط في مدته لا يقل عن ثلاثة ساعات، حسبما ذكر ليمان. بعد ذلك، جرى تعديل السيناريو لتصل مدة الفيلم إلى 104 دقائق.

ومثلما الحال مع غالبية الأفلام، كان لا بد من وجود بطل وشرير. في الفيلم، تظهر فاليري بليم ويلسون، الجاسوسة الساحرة، في صورة شخصية بطولية، بينما يبدو زوجها متسما بعيوب شخصية أوضح، بجانب ميله للتورط في نوبات غضب يغلب عليها الحديث الطنان والشعور بالسمو الأخلاقي، على الرغم من أن الفيلم يظهر غضبه العارم تجاه إدارة بوش باعتباره مبررا.

لكن من هم الأشرار؟ البيت الأبيض، وذلك لانتقامه من ويلسون وزوجته عبر أسلوب واشنطن التقليدي المدمر، بجانب «سي آي إيه» لإنهائها عملية إنقاذ مجموعة من العلماء النوويين المتعاونين بالعراق يشير الفيلم إلى أن فاليري كانت عاقدة العزم على إنقاذهم.

بعد نشر مقال نوفاك، لم يعترف أي من ويلسون أو زوجته بعمل فاليري لحساب «سي آي إيه»، لكنها شعرت بأن التغطية المكثفة لهذا الأمر تعرض حياة أفراد أسرتها للخطر. وفي لحظة ما، طلبت من «سي آي إيه» توفير حماية لمنزل أسرتها في باليسيدز، الأمر الذي رفضته الوكالة في الواقع وفي الفيلم.

وطبقا للفيلم، فإن مسؤولي الوكالة في لانغلي سرعان ما أقصوا فاليري عن العمليات التي كانت مسؤولة عنها بالخارج بمجرد نشر مقال نوفاك. ويدعي الفيلم أنهم أوقفوا العمل بخطة لتوفير ممر آمن لعلماء عراقيين كانوا مصرين على أنه لا وجود لأسلحة دمار شامل بالعراق، مما عرض حياتهم للخطر.

في أحد مشاهد الفيلم، تصر فاليري أمام أحد رؤسائها على أنه «يجب أن أنقل رسالة لبغداد. هناك 15 عالما سينقلون إلى الحدود اليوم!».

وأجابها رئيسها ببرود: «لا أدري عما تتحدثين».

في الحقيقة، كانت فاليري بليم ويلسون تعمل بالفعل مع إحدى الفرق التابعة لـ«سي آي إيه» التي كانت تحاول جمع معلومات بشأن العمليات المرتبطة بأسلحة الدمار الشامل داخل العراق، لكن من الواضح أنها لم تضطلع بدور محوري على عكس ما يصورها الفيلم. لم تكن فاليري جزء من البرنامج المعني بالعلماء على نحو مباشر، طبقا لما ذكره مسؤولون بالوكالة.

على الجانب الآخر، يشير الفيلم إلى تجنيد فاليري لطبيبة عراقية المولد من كليفلاند كي تقوم بزيارة لشقيقها العالم في بغداد سعيا للحصول على معلومات بشأن البرنامج النووي العراقي المزعوم. إلا أنه في الواقع تم تجنيد الطبيبة على يد ضابط آخر بالوكالة.

وعلى الرغم من أن الفيلم يوحي بأن الكشف عن حقيقة فاليري تسبب مباشرة في إنهاء عملية توفير خروج آمن للعالم العراقي، فإن مصدرا استخباراتيا مطلعا أخبرنا أنه «حال وجود مثل هذا الأمر، لو كان ساريا، فإنه ما كان ليتم إلغاؤه لهذا السبب».

والملاحظ أن الفيلم تخلى عن شائعة أن فاليري لم تكن عميلة سرية، لكن تبقى هناك مساحة لإعادة طرح التساؤل حول كيفية اختيار جو ويلسون للاضطلاع بمهمة السفر للنيجر غير مدفوعة الأجر. هنا، ينقل الفيلم ما حدث في الواقع، حيث أوضحت «سي آي إيه» أن مسؤوليها المعنيين بمكافحة انتشار أسلحة الدمار الشامل اختاروا ويلسون وطلبوا من زوجته الاتصال به. أما هي فلم توص به. في الواقع، استعان مسؤولو الوكالة بويلسون في مهام خارجية سابقة.

وقدمت فاليري زوجها أثناء اجتماع جرت خلاله مناقشة السفر إلى النيجر. وقع التضارب إزاء دورها بسبب رسالة بريد إلكتروني بعثت بها ليلا لرئيسها (الذي لم يشارك في تكليف ويلسون بالمهمة في البداية) تشرح خلالها مؤهلات زوجها التي تؤهله للقيام بمهمة التوجه للنيجر. وشكلت هذه الرسالة الأساس المحوري الذي اعتمدت عليه اللجنة المنتخبة لشؤون الاستخبارات بمجلس الشيوخ التي يهيمن عليها الجمهوريون في القول بأن فاليري اضطلعت بدور في اقتراح الاستعانة بزوجها في المهمة.

منذ البداية، حرص جو ويلسون على التأكيد أمام الصحافيين على أن زوجته لا صلة لها بسفره للنيجر. وفي أحد مشاهد الفيلم، يظهر طفلاهما يركضان حولهما داخل ملعب، بينما يواجه ويلسون زوجته غاضبا بالتقرير الصادر عن مجلس الشيوخ، وشرع في قراءة فقرة منه تذكر أن «زوجة السفير السابق (طرحت اسمه)».

وصاح غاضبا: «هذا تحديدا ما كنت أحاول نفيه.. وكنت أؤكد دوما أن زوجتي لم ترسلني في مهمة سفر».

وردت فاليري: «لقد طلب مني أن أكتب توصية. ماذا كان يفترض علي أن أفعل؟».

يذكر أن تقرير مجلس الشيوخ كان بمثابة سلاح في أيدي خصوم جو ويلسون وقضى فعليا على مصداقيته داخل واشنطن، كما تسبب في إحداث توتر بالغ في علاقته بزوجته دفعت زواجهما لشفا الانهيار.

وظهرت فاليري في الفيلم وهي تنفصل عن زوجها وتنتقل مع طفليها التوأم لمنزل والديها في بنسلفانيا. هنا، جرى استخدام الرخصة الدرامية مجددا. وعن ذلك قالت فاليري: «مرت فترات كنت في حاجة خلالها إلى بعض المساحة الفردية، لكنني لم أحزم أمتعتي وأصحب الأطفال معي. مثلما يدرك أي إنسان ناضج في علاقة، يمكنك أن تبقى مع الآخر في المنزل ذاته من دون أن تكونا فعليا معا». واعترفت فاليري أن هذه الفترة من زواجها كانت «مشحونة». وأضافت: «لا أزال أشعر بالألم لدى مشاهدة الفيلم. وشعرت بألم بالغ لدى سردي ما حدث في هذه الفترة».

من جهته، قال ليمان، المخرج، إن المشهد المفضل لديه يتمثل في الصدام الذي وقع بين الزوجين بشأن الرد على البيت الأبيض عبر تنفيذ حملة إعلامية خاصة بهما. رأى ويلسون أنه عليه وزوجته التعاون مع مجلة «فانيتي فير» بشأن مقال حولهما مدعوم بصور.

في الفيلم، يدور هذا المشهد داخل المطبخ. وقال ليمان: «إذا رشح هذا الفيلم لنيل جائزة أوسكار، فهذا هو المشهد الذي سيعرضونه، فهذا أكثر المشاهد درامية بالفيلم». كما أن هذا المشهد يبدو الأكثر احتمالا لأن يثير ضجة كبيرة داخل واشنطن. ويدور الحوار خلاله على النحو التالي:

الزوجة: «هل أرغب في عرض صورتي في (فانيتي فير)؟ هل هذا هو السؤال؟ الزوج: «هذه فرصتنا».

الزوجة: «كي نفعل ماذا؟».

الزوج: «كي نسرد الأحداث من وجهة نظرنا».

أما الأمر الذي سكت عنه الفيلم، فهو أن قرار الزوجين بالسماح لـ«فانيتي فير» بالتقاط صورة لهما بدت خلالها فاليري أشبه بالممثلة غريس كيلي وهي ترتدي نظارة شمسية وتضع إيشاربا صغير على رأسها داخل سيارة زوجها من طراز «جاغوار»، كان بمثابة كارثة كبرى لهما على صعيد العلاقات العامة، فحتى ذلك الحين، لم يكن الرأي العام قد اطلع على صورة لها. وجاءت الصورة بمثابة صدمة لأنصارهما وقوضت التأييد الذي تحظى به من زملائها داخل «سي آي إيه». وقد اعتذرت لاحقا لزملائها داخل الوكالة عن الصورة.

اليوم، يبدو الزوجان مستقران في حياتهما الجديدة في سانتا في، وراضيان عن الفيلم. كما يبدوان على قناعة بأن «فير غيم» سيكشف الحقيقة وسيقضي على أي شائبة لطخت سمعتهما ويثير مجددا مشاعر الغضب حيال تعرض البلاد للتضليل لدفعها نحو حرب العراق. وفي حديث له معنا، قال ويلسون: «بالنسبة للأفراد أصحاب الذاكرة الضعيفة أو الذين لا يقرأون، يعد الفيلم السبيل الوحيد لدفعهم لتذكر هذه الفترة. وعلى الرغم من وجود بعض العناصر الهوليودية المميزة به.. فإنني أعتقد أن الفيلم يزيل اللبس عن بعض الأمور. أعتقد أن الفيلم قضى على بعض الأمور التي ألصقت بالقصة على مر السنوات». أما زوجته، الجاسوسة السابقة، فعلقت على الفيلم بقولها: «لو كنت على متن طائرة، وكان الجالس إلى جواري يشاهد (فير غيم)، لن أشعر بالحرج.. بل أنا فخورة بالفيلم. إنه فيلم راق ودقيق».

* خدمة «واشنطن بوست» خاص بـ«الشرق الأوسط»