جدل إعلامي باكستاني بعد اغتيال سلمان تسيير

البعض اعتبره مسؤولا عن مصرعه.. وآخرون يرون فيه «شهيد» الليبرالية

مظاهرات صاخبة رافقت اغتيال سلمان تسيير («الشرق الأوسط»)
TT

كتب صحافي باكستاني ذو ميول إسلامية متشددة في أحد البرامج الحوارية على إحدى القنوات الإخبارية الرئيسة بعد جدال مطول بأن سلمان تسيير هو المسؤول عن مصرعه «أدعو الله ألا يواجه مسلم ميتة مخزية كهذه».. كان الكاتب يحاول إقناع المشاهدين خلال النقاش بأن تسيير ما كان عليه أن يسارع إلى مناصرة متهمة بالإساءة للإسلام لأنه بذلك أهان الدين ومن ثم استحق جزاءه بالقتل. وقال الصحافي المعروف بخطه المتشدد في القضايا ذات الطبيعة الدينية: «انظروا كيف حث علماء المسلمين العامة على عدم حضور صلاة الجنازة عليه، إنه أمر مخز إلى حد بعيد».

وفي تناقض تام مع هذا الموقف يبذل بعض الأفراد في المجتمع الباكستاني جهودا حثيثة في الإعلام الباكستاني لترسيم تسيير شهيد الليبرالية وحقوق الإنسان في المجتمع الباكستاني. ولم يقتصر الأمر عند هذا الحد، بل إن عددا من المثقفين والصحافيين الباكستانيين ذوي التوجهات اليسارية امتدحوا شجاعة الأفراد الذين خرجوا إلى الشوارع لدعم قضية الحاكم تسيير، فكتب عامر أحمد خان، محرر «بي بي سي أوردو» في عموده الأسبوعي في صحيفة محلية: «بغض النظر عن عدد الأفراد الذين تجمعوا لتقديم العزاء في لاهور (من أجل سلمان تسيير)، أنا مندهش من شجاعتهم في الوقوف أمام الجموع الهائجة. إنه خداع أخلاقي بات مفلسا على الصعيد الديني والسياسي والفكري والأخلاقي ولم يجد سوى أن يقنع نفسه بأن خلاصه الوحيد يكمن في سفك دماء الأبرياء».

هذا الموقفان المتعارضان اللذان تبنتهما القوى الدينية المتشددة والليبرالية المثقفة يؤكدان على أن الإعلام الباكستاني يعكس حالة الانقسام في المجتمع التي بدأت تطفو على السطح في أعقاب اغتيال الحاكم تسيير. وأن هذه الحرب الكلامية بين المجموعتين من اللوبي الديني والمثقفين الليبراليين الباكستانيين تمارس بصورة شبه يومية في المجتمع الباكستاني.

وكما لو أن الجبهتين كانتا تتحينان الفرصة المناسبة لشن هذه الحرب الكلامية التي كانت ساحتها وسائل الإعلام الباكستانية والتي سعى خلالها كل طرف إما إلى تصوير تسيير كبطل أو وصفه بالمرتد بعد موته.

وقد نقلت قناة الأخبار الباكستانية الجنازة الرسمية التي أقيمت للحاكم سلمان تسيير، حيث ووري جثمانه الثرى ملفوفا بالعلم الباكستاني. من ناحية أخرى أذاعت نفس القناة الإخبارية فتوى أكثر من 500 عالم دين باكستاني تحض الباكستانيين على عدم حضور الجنازة.

كانت أكبر هذه الهيئات الدينية الجماعة البريلوية، جماعة أهل السنة الباكستانية، التي تعتبر توجيهاتها ملزمة لكل الجماعات التي تتبع نهج هذه المدرسة الفكرية والتي أصدرت بيانا لها أكدت فيه أنه «لا ينبغي لأي مسلم حضور جنازة أو الدعاء لسلمان تسيير أو إبداء أي نوع من التعاطف أو الندم إزاء الحادث».

وكان سلمان تسيير، حاكم البنجاب وأحد أقطاب حزب الشعب الباكستاني الحاكم، قد لقي مصرعه على يد حارسه الشخصي في إسلام آباد في أعقاب خروجه من أحد المطاعم بعد تناوله طعام الغداء. بعد ذلك قام الحارس الشخصي بتسليم نفسه للشرطة واعترف بجريمته مشيرا إلى أنه قتل الحاكم لأنه عارض قانون تجريم الإساءة للإسلام والذي يضع عقوبة الموت لمرتكب جريمة الإساءة للإسلام.

وفي إطار تصوير حالة الانشقاق التي يشهدها المجتمع الباكستاني نشر موقع «بي بي سي أوردو»، ومقره إسلام آباد، يوم الجمعة الماضية صورتين؛ إحداهما لجناح الشباب في الجماعة الإسلامية، يقدمون التهنئة لوالد ممتاز قدري، والأخرى لإيقاد الشموع في لاهور في ذكرى حاكم البنجاب القتيل سلمان تسيير. وكان لسان حال الصورتين يقول: «من فضلك قارن بين الاثنين، فمقابل كل حزين على تسيير هناك 50 داعما لقدري».

من بين ما تؤكد عليه الصورتان أيضا حالة الحصار الفكري التي تجد وجهة النظر الليبرالية نفسها فيها، مع تدافع الكثير والكثير لنصرة قدري، القاتل بدم بارد، الذي خطط لقتل تسيير بدقة لعدة أسابيع قبل أن ينفذ هجومه، بحسب رأي عامر أحمد خان.

ويقول مسؤول حكومي بارز، قدم استشارات للحكومة بشأن القضايا المتعلقة بالإعلام: «مقتل حاكم البنجاب سلمان تسيير على يد رجل شرطة يفترض به حمايته دفع البلاد إلى حالة من التشظي في الآراء. وقد عكس الإعلام الباكستاني أيضا هذا النوع من الانقسام».

ونشرت صحيفة «إكسبريس تريبيو»، الصادرة باللغة الإنجليزية مقالا أبرزت فيه أهم الأطياف داخل المجتمع الباكستاني فقالت: «أبرز هذه الأقسام هو الفكر الديني الجامد الذي يدافع عن القتلة باسم الإسلام متسلحا بالعديد من أدوات الترهيب. أما ثاني أكبر الأقسام فهو السياسي المنقسم بشكل لافت ما بين مؤيدين لحزب الرابطة الإسلامية (جناح نواز شريف) وحزب الشعب الباكستاني الحاكم، أما من يشاهد هذه الظاهرة فهو المجتمع المدني والذي تم استقطابه تجاه أغلبية تتمسك بوجهة نظر محافظة».

المثير للسخرية هو أنه في حال حدوث الانقسامات يغيب جوهر القضية التي أثارت الانقسامات. فلم يعد يعني لرجال الدين التركيز على السبب الرئيس في الجدال حول قانون تجريم الإساءة للإسلام. بل يصرون على أن أي شخص يعارض القانون يسيء في حق الرسول (صلى الله عليه وسلم)، ويرفضون الدخول في تفاصيل الأسباب وراء اعتقاد الكثير من المتدينين لا رجال الدين أن قانون تجريم الإساءة للإسلام قانون وضعي لا يحتوي على نصوص سماوية بل خطأ بشري. وقد ترك الليبراليون الباكستانيون ذوي الميول اليسارية المجتمع الباكستاني يتساءل عن السبب في أن الفقراء وحدهم والأغلبية العظمى منهم من غير المسلمين يقعون فيه؟

ما يثير المزيد من المفارقة هو أن التيار الديني يربح المعركة الكلامية في الشارع على الرغم من سيطرة الليبراليين على الغالبية العظمى من المنابر الإعلامية الرئيسة التي يبدو أنها تستغل نفوذها لتهميش التيار الديني. ويقول صحافي بارز في إسلام آباد طلب عدم ذكر اسمه: «فاز الاتجاه الديني بالمعركة الكلامية، لا لأنهم أصحاب حق بل لأنهم أقوياء وخلفهم عناصر داعمة لم يعد بمقدور الدولة مواجهتهم».

وفي إطار هذه المعركة لتهميش الآخر قام 4.000 عامل وناشط في الأحزاب الدينية الإسلامية بمسيرة في شوارع كراتشي يوم الأحد الماضي لمطالبة الحكومة بالانسحاب من أي خطوة لإحداث تغيرات في قانون تجريم الإساءة للإسلام. وحذر القادة الدينيون الذين خاطبوا الحشد وسائل الإعلام الليبرالية من عدم تصوير الحاكم تسيير كبطل والتوقف عن شيطنة قاتله، ممتاز قدري.

وخلال ساعات أذاعت وسائل الإعلام الباكستانية مسيرة صاخبة في روالبندي تصف ممتاز قدري بالبطل الوطني الذي قتل منتقدا لقانون تجريم الإساءة للإسلام ولا ينبغي ألا يعاقب. وخرج والده وأخوه إلى الشارع مدعومين أخلاقيا من قبل المحامين المحافظين زاعمين أنهم سينقذون القاتل.

بيد أن عملية الترهيب لم تقتصر على وسائل الإعلام وفقط، فالجمعية العامة لإقليم خيبر - باختونخاوا أصدر قرارا بالإجماع، خوفا مما يمكن أن تقوم به طالبان في بيشاور، بأن قانون تجريم الإساءة للإسلام لن يتغير.

إلى جانب التقارير الإخبارية المصورة للمسيرة الداعمة لقدري أذاعت القنوات الإخبارية الباكستانية تقارير إخبارية عن انضمام بضع مئات من المعتدلين والليبراليين إلى المسيرة التي قام بها حزب الشعب الباكستاني الحاكم يوم الجمعة الماضي في لاهور دفاعا عن الحاكم تسيير إلى جانب المنظمات غير الحكومية المدافعة عن الأقليات وأعضاء الأقلية المسيحية المذعورة إلى حد بعيد. ويقول أحد التعليقات في إحدى الصحف الصادرة باللغة الإنجليزية، «إكسبريس تريبيون»: «المعتدلون غاضبون، لكنهم يتراجعون سريعا. وهم في الوقت ذاته (المعتدلون والليبراليون) منقسمون على أنفسهم بين معتقدين بأن الحاكم تسيير كان محقا في موقفه في الدفاع عن أقلية ضعيفة ومن يعتقدون أنه كان عليه التمهل في إبداء آرائه».

قامت وسائل الإعلام أيضا بتغطية الانقسامات بين صفوف النخبة السياسية بشأن هذه المسألة البالغة الحساسية سواء بدعم أو معارضة قضية سلمان تسيير. فمن جانبه سارع حزب الشعب الباكستاني، الخائف من إثارة غضب رجال الدين وقوتهم في إدراج التفجيرات الانتحارية كأحد أسلحتهم، إلى الإعلان عن أن القضية ليست دينية، خاصة أن الحزب يتعرض لهجوم قوي من الملالي ومن ثم لا يرغب في تعزيز هذا الاتجاه. لكن الحزب وصف القضية بأنها سياسية وهو الأمر الذي أثار حزب الرابطة الإسلامية جناح نواز شريف الذي يدخل الصراع بينهما في الوقت الراهن مرحلة مريرة. وقد اصطبغ حكم المجتمع المدني بشكل عام بحملة رجال الدين والصدام السياسي بين حزب الشعب الباكستاني وحزب الرابطة الإسلامية جناح نواز شريف.

ومع كون المعنى الضمني لهذه الحرب الكلامية وصف سلمان تسيير بالبطل أو الكافر، إلا أن قضية أمن وسلامة وزيرة الإعلام الباكستانية السابقة بدأت تحتل عناوين الأخبار في وسائل الإعلام الباكستانية، فالوزيرة السابقة هي التي تقدمت باقتراح قانون إلى الجمعية الوطنية تقترح فيه بعض التعديلات على قانون تجريم الإساءة للإسلام، وهو ما لقيت بسببه انتقادات لاذعة من العديد من الأحزاب الدينية البارزة في البلاد. وقد تزايدت المخاوف بشأن سلامتها الأمنية بعد مقتل حاكم البنجاب سلمان تسيير لحمله وجهة نظر مشابهة بشأن قانون تجريم الإساءة للإسلام.

وفي أعقاب عملية اغتيال تسيير بدأ المعلقون ومذيعو التلفزيون في مناشدة الحكومة توفير الحماية الأمنية لشيري رحمن لأنها «قد تكون الهدف القادم للأشخاص الذين يعتقدون أن النقاش في قانون من صنع البشر فيه إساءة للإسلام».

ويضيف عامر خان: «هذا يستحضر إلى الأذهان المرأة الشجاعة التي تجرأت على تقديم مسودة قانون إلى الجمعية الوطنية بهدف تعديل بعض البنود شديدة القسوة من القانون والتي لم تقدم شيئا سوى الظلم خلال ربع قرن من وجوده، فالجموع الهائجة وزعت منشورات تحث على ضرورة ملاقاتها لنفس مصير تسيير».

وخلال الأيام التي تلت مقتل حاكم ولاية البنجاب حملت الصحف الباكستانية العديد من البيانات المتكررة من شيري رحمن تؤكد فيها على إيمانها القوى بالمعتقدات الدينية، بيد أن المخاوف والتعليقات في وسائل الإعلام تخشى أن تكون الهدف القادم.

هذا الجدل في وسائل الإعلام الباكستانية والذي بدأ في أعقاب وفاة الحاكم تسيير يعيش حالة من التأرجح الكامل من خلال الجهود الحثيثة لكل من الإسلاميين والليبراليين في محاولة هزيمة الآخر وتهميش الآخر في عيون العامة.

حتى الآن يقف الحاكم تسيير في الخلفية حول شرعية قانون تجريم الإساءة للإسلام الذي يقف في وسط هذا الجدال الوطني. حيث يحاول الجانبان تقديم الجوانب السياسية والإنسانية للفوز بالنقاش. وفي الوقت الذي يصف فيه اللوبي الديني أجندة إدخال تعديلات على قانون تجريم الإساءة للإسلام بأنها خطة أميركية، وأن الليبراليين يدفعون بحقوق الإنسان لتكون الهدف الرئيسي من وراء النقاش. ويرى أحد خبراء الإعلام البارزين أنه لا تبدو هناك نهاية لهذا النقاش وأن الصناعة الإعلامية لديها مصلحة تجارية واضحة في استمرار هذا النقاش، لكن دعونا نأمل وندعو ألا يخرج الجدال عن مجرد الحرب الكلامية فقط.