عميد الصحافيين البوسنيين.. إمام مسجد جذبه بريق السلطة الرابعة

إسماعيلوفيتش لـ «الشرق الأوسط»: كانت الصحف تنتظر عودة المبعوث الصحافي ومواد المراسلين عبر البريد

إسماعيلوفيتش عمل صحافيا يرسل مواده بالبريد ورئيس تحرير صحيفة تستخدم الآن أعلى المعايير التكنولوجية («الشرق الأوسط»)
TT

يعمل عميد الصحافيين البوسنيين، صالح إسماعيلوفيتش (66 عاما) في صمت منذ أكثر من 30 عاما، فلا يُرى سوى في ميادين العمل. وليس ذلك غريبا من رجل ولد في مكان عثر فيه على أكبر مقبرتين جماعيتين حتى الآن، وهو «تسرنه فره»؛ حيث لا يبعد مسقط رأسه، غلوميمي، قرب زفورنيك، (شرق البوسنة) سوى بعض فراسخ عن ذلك المكان الرهيب. تلقى إسماعيلوفيتش تعلميه الابتدائي بمسقط رأسه، وتعليمه الثانوي بمدرسة الغازي خسرف بك في سراييفو، سنة 1965، التي قضى فيها 8 سنوات. ثم التحق بكلية الفلسفة ببلغراد، سنة 1969، وبعد التخرج عمل 10 سنوات كإمام في منطقة كليوتش (غرب البوسنة) ثم في أوسياك بكرواتيا لمدة 7 سنوات.

بدأ العمل في صحيفة «بريبورود»، الناطقة باسم المشيخة الإسلامية، أقدم الصحف المعاصرة في البوسنة عام 1980، أي بعد 10 سنوات من صدور عددها الأول في 15 سبتمبر (أيلول) 1970، ومنذ 30 سنة وهو أحد أعلامها المميزين. و«بريبورود» صحيفة بوسنية تصدر منذ 40 سنة من دون توقف في 64 صفحة بعد أن كانت في بدايتها تحتوي على 12 صفحة فقط.

في أثناء الحرب الأخيرة التي شنت على البوسنة 1992 - 1995 استمرت «بريبورود» في الصدور، لكن بأعداد أقل وفترة زمنية أطول نسبيا؛ حيث كانت تصدر شهريا، وتوزع بضعة آلاف فقط، أما اليوم فلديها أكثر من 100 ألف قارئ.

عن علاقته بالصحافة، ذكر إسماعيلوفيتش لـ«الشرق الأوسط» أنها كانت قد بدأت بهواية وإعجاب تحولا إلى مشاركات تم صقلها من خلال قضاء عام في معهد الصحافة ببلغراد؛ حيث انخرط في عدة دورات تعلم فيها أصول الصحافة.

يذكر صالح إسماعيلوفيتش أول رئيس تحرير عمل معه في جريدة «بريبورود»، وكان زميلا سابقا في الدراسة، يدعى مرزوق فايزوفيتش، وعلى يديه تم تحويل ما تلقاه نظريا إلى صيغة عملية: «دائما العمل أصعب من التلقي النظري، وأحيانا يكون معكوسا»، لكن الأصعب دائما كما يقول: «هو ألا تعمل ما كنت ترغب فيه». ويتابع: «في زمن الشيوعية كان هناك الكثير مما كنت أرغب في الكتابة حوله، ولكن ذلك كان متعذرا، ومحفوفا بالمخاطر، كالكتابة عن مكان يحتاج لمسجد مثلا، ففي المدن لم تبن أي مساجد جديدة منذ الفتح الإسلامي، وحتى نهاية الحرب سنة 1995، بل هدمت مساجد جديدة ولم يعد ترميم الكثير منها وبناء أخرى جديدة سوى بعد الحرب، أو الكتابة عن عائلة ظلمت من قبل السلطات الحاكمة بإيداع من يعولها في السجن على سبيل المثال. كما لا يمكن الكتابة عن حقوق المسلمين في الجيش وحقهم في الأكل الحلال، وهو ما ينطبق أيضا على الطلبة الجامعيين وغيرهم والعمال في المؤسسات الاشتراكية آنذاك».

في البدء كان الحب، وحب العمل الصحافي هو الذي دفعه للمشاركة بالكتابة في بعض الدوريات، خاصة في «بريبورود» عن الأوضاع التي كان يعلمها في منطقته. كما سافر إلى المجر وكتب عن الوجود الإسلامي هناك، وما طرأ على تلك المناطق من تغيير مثل تقلص عدد المساجد في شرق أوروبا بسبب السياسات الشيوعية الهادفة لإماتة الدين والتدين لصالح النظرية الشيوعية وما شابهها من نظريات معاصرة لها: «لقد أحببت العمل الصحافي، وأشعر بأنني أساعد من خلاله الناس، فالكثيرون يقعون اليوم ضحايا للمعلومات المغلوطة، أو غياب المعلومات الصحيحة فنحن نعيش عصر المعلومة». ويواصل: «هناك أناس يحملون معلومات خاطئة مثلا عن البلاد العربية، وقد ذهبت للحج وكتبت عن مكة والمدينة. كما ذهبت إلى عدد من الدول الأوروبية وإلى الولايات المتحدة الأميركية وكندا، وكتبت عن هذه الدول وعن المهاجرين، لا سيما البوسنيين منهم ممن شردتهم الحرب في أكثر من 100 دولة، وكسبت صداقات الكثيرين في هذه الدول».

وعن أصعب الظروف التي مرت بها الصحافة، وهو شخصيا، يشير عميد الصحافيين البوسنيين إلى فترتين حالكتين في تاريخ بلاده، ولكنهما كانتا مادة صحافية مرغوبة، هما: فترة الحكم الشيوعي، والحرب: «عملت في المجال الإعلامي بشكل رسمي لمدة 30 سنة، كانت هناك فترتان كالحتان إنسانيا، شائقتان إعلاميا، كانت فيهما الحريات تختزل في الحرية الشخصية على مستوى السلوك الفردي، وما يتعلق بالغرائز فقط، بينما كانت توضع الحدود للحريات الأخرى، الحرية الدينية، وحرية التعبير، وحرية الصحافة، وحرية الضمير، والحريات السياسية». أما صحيفته «بريبورود»، فلم يكن مسموحا لها بالحديث «عن حقوق المسلمين، وعن حق المسلمين بالجيش في عدم تناول ما هو محرم في عقيدتهم مثل لحم الخنزير»، كما أن «العهد الشيوعي لم يكن يسمح بانتخابات ديمقراطية، أو انتقاد النظام القائم، فتلك كانت محرمات تفوق المحرمات الدينية التي استبيحت لإلهاء الناس عن المحرمات السياسية والثقافية والقانونية وغيرها، فإذا كان يسمح بنقد الدين، فليسمح أيضا بنقد كل ما يؤخذ طابع المقدس لدى الجميع وليس للمتدينين فقط». ولتلك الأسباب كان البعض من الكتاب المشهورين حاليا يكتبون بأسماء مستعارة «كان علي عزت بيغوفيتش، الذي أصبح بعد ذلك رئيسا للبوسنة في الفترة بين 1990 و2002 على سبيل المثال، يكتب لـ(بريبورود) باسم مستعار، وكذلك الكاتب سيد موليتش، والكاتب ميهو تراكيتش، وغيرهم».

لا يعرف إسماعيلوفيتش إن كان من حسن حظه أو سوئه أن يعمل في تلك الفترة رئيسا للتحرير؛ فقد كان يدعى من قبل الشرطة للإجابة عن سؤال: من يكتبون للجريدة بأسماء غير معروفة لديها؟ «الشرطة طلبت مني كشف أسماء من يكتب، وأصحاب الرسائل التي كانت تأتي من الخارج، وقد رفضنا إعطاء الأسماء. وقلنا لهم لا أحد يكتب لنا من السجن، وإذا كان من بين كتابنا من تعرض للسجن سابقا فهو قد قضى فترة العقوبة ولم يعد مسلوب الحرية بل هو مواطن حر».. ولم يزد ذلك الرد سوى زيادة جرعة القمع: «هددونا؛ لأن سجناء سابقين يكتبون في الجريدة». وعما إذا كانت السلطات تتدخل فيما يكتبون وما لا يكتبون قال: «لم يفرضوا علينا ما نكتب وما لا نكتب، لكنهم كانوا يراقبون ما نكتب ويمارسون ضغطا نفسيا علينا، وهو ما يولد الرقابة الذاتية، التي تتجاوز أحيانا ما يسمح به وما لا يسمح به فعلا. وكانت صحافتهم تنتقدنا باستمرار وتهاجمنا وتحرض علينا، وتعمل على تشويهنا». ومع ذلك استمروا في ابتزاز وسائل الإعلام على ندرتها وقلتها وقلة انتشارها في ذلك الوقت: «طلبوا منا أن نطلعهم على أي مواضيع تصل من مساجين سابقين أو من مواطنين من الخارج تنتقد النظام الحاكم، فأخبرناهم بأننا لا نستقبل مثل هذه المواضيع».

حول ظروف العمل بين الربع الأخير من القرن العشرين وبداية الألفية الثالثة قال: «تتسم هذه الحقبة بظهور الإعلام الإلكتروني الأسرع، والأكثر تفاعلية، ولكن أقل مسؤولية من حيث التوثيق، والالتزام». واستطرد: «تساعدنا اليوم الإنترنت على إرسال التقارير الصحافية، أما في السابق، فكانت الصحف تنتظر عودة المبعوث الصحافي أو استقبال مواضيع المراسلين بالبريد. ويحصل أحيانا ضياع الكثير من المواد، فنطلب إعادة الإرسال، أو استبدال النصوص بأخرى.. حدث ذلك في الكثير من المرات، وكنا نطلب إعادة الإرسال أو وضع نصوص أخرى مكانها».