المراقب الصحفي: التحقيقات الاستقصائية في الأزمات

TT

ما أحوجنا إلى قراءة «تحقيقات استقصائية» صحافية، في ظل الأزمات التي تشهدها الدول العربية. الأجواء التي نعيشها من تذمر الشعوب، وتفشي الفساد، واستغلال البشر، وامتهان كراماتهم، ومصادرة حرياتهم، وانتهاك أعراضهم (كما يزعم البعض)، فضلا عن تجنيد مرتزقة لتنكل بالمواطنين العرب، كلها أجواء مواتية لتفتح الشرق الأوسط بقوة ملف التحقيقات الاستقصائية لتقدم مادة صحافية مهمة للقارئ ربما تصبح حديث الموسم، وتتناقلها وكالات الأنباء والقنوات الفضائية.

من مزايا التحقيقات الاستقصائية أنها تزيد من شعبية الصحيفة، وتخدم المجتمع، ومن أمثلتها الشهيرة فضيحة «ووتر غيت» التي كشفت فيها صحيفة أميركية قصة تجسس محسوبين على الرئيس نيكسون على حزب منافس له، فاستقال على أثر هذه الحادثة. ومن الأمثلة العربية الحديثة قصة الصحافي العراقي الذي حاز جائزة سيمور هيرش عام 2010 عن تحقيق بحث فيه عن الدوافع وراء استمرار ظاهرة الختان في كردستان العراق، وتقرير «تجنيد الأطفال» في معارك المتطرفين الذي حل بعده بالترتيب، وغيرها الكثير من التحقيقات. وقد نجحت صحيفة «الشرق الأوسط» فعليا في إجراء تحقيقات استقصائية في عدة دول عربية، وإن كان الحدث الأبرز للعام المنصرم كشف الصحيفة عن وجود أبناء زعيم القاعدة أسامة بن لادن في إيران، وكان حدثا كبيرا صار له تداعيات دولية.

ولا بد أن نعترف أن التحقيقات الاستقصائية مكلفة بعض الشيء، فقد يكتشف الصحافيون المحترفون بعد شهور أن القصة أو المعلومات التي كانوا يسعون للتأكد من صحتها ليس لها وجود أصلا، فلا يخرجون بمادة صحافية تستحق النشر. وهذه هي طبيعة التحقيقات الاستقصائية. وتحتاج التحقيقات إلى صحافيين موهوبين ومهنيين لديهم من الصبر والمثابرة والمصادر الموثوقة ما يؤهلهم لتقديم مادة صحافية تضع إصبعها على موضع الألم وتقدم حلولا.

وكم سترتفع مهنية «الشرق الأوسط» في أعين قرائها عندما تعلن صراحة أنها لم تتمكن من الوصول إلى مادة تستحق النشر بعد شهور من البحث الصحافي في قضية معينة. هذا المستوى من الصراحة نفتقده، للأسف الشديد، في صحافتنا العربية.

أما إذا نجح التحقيق الصحافي، فقد يخلق رأيا عاما مهما، على غرار ما فعلته صحيفتان أميركيتان عندما كشفتا بالوثائق المأساة التي خلفها الجيش الأميركي في حرب فيتنام، فاندلعت المظاهرات الشعبية الاحتجاجية. هذا يمكن أن يكون موضوعا لصحيفة «الشرق الأوسط» بحيث تكشف ما يدور خلف كواليس الأنظمة العربية التي ثارت عليها شعوبها، بحيث تأتي بقصة «غير مطروقة» من قبل وسائل الإعلام، لتكتب بها فصلا جيدا في تاريخ الثورات العربية، يقرأه الأجيال القادمة، شريطة أن يكون تحقيقا توافرت فيه أعلى معايير المهنية الصحافية، بحيث يمكن أن يدرس في كليات الإعلام في الوطن العربي.