مذيعو الشاشة الصغيرة.. الولاء للوطن أم للنظام أو الأجر

محمود سعد وشروط اللعب مع الكبار

تحظى البرامج الحوارية والإخبارية على مشاهدة عالية في العالم العربي عموما ومصر على وجه الخصوص (إ. ب. أ)
TT

فجأة صار السؤال عن أجور المذيعين هو الذي يشغل رجل الشارع في مصر.. الأرقام المليونية التي تم تداولها أثارت شهية الناس ودفعتهم إلى الدهشة.. اختلطت السياسة بالثورة بالموقف الوطني بالأجر الذي يحصل عليه المذيع.. احتل الصدارة طوال أيام ثورة 25 يناير الإعلامي اللامع محمود سعد كان محمود قد قرر يوم 26 يناير (كانون الثاني) الماضي بعد 24 ساعة فقط من اندلاع شرارة الثورة ألا يظهر عبر شاشة التلفزيون الرسمي احتجاجا على التوجه الذي اتبعته البرامج التلفزيونية في ماسبيرو والتي كانت تكرس لبقاء مبارك على سدة الحكم وأن تشجب بكل قوة ثورة الشباب.. كان المطلوب هو أن يقدم محمود مبايعة للنظام ويقف في طليعة من يتهمون الشباب الثائر بأنهم مجموعة من الأفاقين أو على أقل تقدير المضللين.. رفض محمود المشاركة في ترويج تلك الأكاذيب.

تعود محمود طوال خمس سنوات وهي سنوات عمله في تلفزيون الدولة من خلال برنامج «البيت بيتك» الذي كان يعتبر حائط الصد الأول الذي يحمي النظام قبل أن يصبح اسمه قبل نحو عام «مصر النهارده» تعود محمود أن لديه مساحة من الحرية لا يحظى بها زملاؤه تامر أمين وخيري رمضان ومنى الشرقاوي.. كان محمود يشارك في البرنامج من أجل إقناع مشاهدي التلفزيون بالعودة إليه من خلال التأكيد بأن الدولة تسمح بهامش من الحرية يتوافق مع الهامش المماثل في قنوات مصرية بدأت تحظى بقدر لا ينكر من المتابعة لدى قطاع عريض من الجمهور مثل «دريم» و«المحور».. كان ينبغي أن يسمح التلفزيون الذي يمثل النظام بقدر من الحرية مع الحفاظ على الخط الأحمر المتمثل في عائلة الرئيس وأيضا في عدد من الوزارات السيادية على رأسها بالطبع الداخلية فلا يجوز مثلا تقديم أي انتقاد داخل تلفزيون الدولة لحبيب العادلي وزير الداخلية السابق إلى درجة أن المحلل الكروي علاء صادق تم إيقافه عام كامل قبل أقل من شهرين لأنه تجرأ وانتقد سلوك رجال الشرطة في إحدى المباريات.. اعتبر المسؤولون أن المذيع تخطى الخط الأحمر وأصدر أنس الفقي قرارا بإيقافه لمدة عام إرضاء للعادلي.

الحرية في «ماسبيرو» مقننة وكان الكل يعلم ذلك وبالطبع محمود كان يدرك تماما هذه الممنوعات ولكنه كان يحاول دائما الحفاظ على نجوميته التي يستمدها كلما تناول بعض سلبيات الدولة.. على الجانب الآخر كانت الدولة تعتقد أن نجومية ومصداقية محمود سعد لدى المشاهدين سوف تصبح أحد أسلحتها في السيطرة على الشارع لو حدث نوع من الغضب العارم الذي يحتاج امتصاصه إلى شخصيات تتمتع برضا وقبول في صفوف الجماهير العريضة.. المؤكد أن ثورة 25 التي أطاحت بمبارك لم تكن قط في الحسبان الأجهزة الحساسة في النظام لم تتوقعها لا أحد تصور أن هناك ثورة من الممكن أن تحدث في الشارع المصري وتطيح بحسني مبارك ولكن كانت الدولة تتحسب إلى معركة أخرى قادمة أعدت لها إمكاناتها من وسائل الدفاع الإعلامية الخاصة وليست فقط التابعة للدولة.. لا شك أن ثورة الشباب جاءت في لحظة استرخاء كانت الدولة تتحسب إلى أن بعض الممانعة من الممكن أن تعلن عن نفسها لو أن النظام دفع بجمال مبارك رئيسا خلفا لوالده كما كان متوقعا في شهر نوفمبر (تشرين الثاني) القادم ورغم ذلك فلم يتوقع أحد هذه المساحة من الغضب.

لم يستطع الإعلام الرسمي التعامل بمرونة ولا أقول بمصداقية فقط بقدر من الحرفية لامتصاص الغضب.. المفاجأة أن الدولة من هول المفاجأة لم تدرك ماذا تفعل وعلى هذا طلب أنس الفقي آخر وزير إعلام مصري من محمود سعد أن يلتزم تماما بمهاجمة المتظاهرين والدفاع عن وزارة الداخلية مثلما فعلت كل القنوات الأخرى التابعة لتلفزيون الدولة.. مساحة الحرية التي كان يتمتع بها محمود نزعت منه في لحظة لأن الإعلام في النهاية كانت لديه تقارير من أمن الدولة تفيد بأن الغضب هذه المرة فاق التوقعات ولا يمكن السيطرة عليه إلا بشجبه وليس امتصاصه.. وهكذا كان يجب أن يحدث الصراع بين المذيع محمود سعد الذي يعمل في تلفزيون الدولة ويعلم تماما أن للدولة أجندة ومحاذير وبين قناعات محمود سعد الشخصية قرر محمود أن ينحاز إلى موقفه الشخصي رغم أنه في بداية التعاقد مع التلفزيون كان يعلم أن اللعب مع الكبار له شروط أهمها أنه في اللحظات المصيرية يلعب لصالحهم وليس عليهم، إلا أنه كان يعلم بأن الجمهور في مثل هذه المواقف لا يتسامح ولا يغفر أبدا وهكذا مثلا رغم نجومية عادل إمام وعمرو دياب وتامر حسني فلقد رفضتهم الجماهير لأنهم أيدوا مواقف الدولة في تلك اللحظات المصيرية من عمر الوطن وعندما تغضب الجماهير لا يتبقى للفنان أو الإعلامي شيء يستند إليه الكل يعلم أن الناس هي التي تملك النجومية لأنها هي التي تمنحها وتستطيع لو أرادت أن تنزعها.

ترك محمود سعد الإعلام الرسمي ولم يعد إليه إلا بعد تنحي مبارك عن الحكم وبدأت ملامح الهجوم المضاد على محمود في مداخلة أنس الفقي الذي تعمد أن يذكر الرقم الذي يحصل عليه محمود سنويا مقابل تقديمه البرنامج وهو 9 ملايين جنيه مصري أي ما يزيد على مليون ونصف مليون دولار في العام رغم أن محمود يقدم يومين فقط في الأسبوع (السبت والأربعاء)، وكان الرد الذي أطلقه محمود رغم تعاقده مع «صوت القاهرة» التابعة لاتحاد الإذاعة والتلفزيون أنه يحقق إعلانات وأن أجره يأتي مقابل ما تدره هذه الإعلانات التي تأتي إليه تحديدا.. وبالطبع ما يقوله محمود به الكثير من الصحة ولكن بالتأكيد فإن الإعلان يدخل فيه أيضا كعامل أساسي توقيت عرض البرنامج والمعروف أن هناك أوقات ذروة ويحتل البرنامج توقيت الذروة البرامجية بالإضافة إلى أنه يعرض أرضيا وفضائيا مما يتيح للمعلن قاعدة عريضة من المشاهدة ولهذا تتدفق الإعلانات على التلفزيون، جاذبية مقدم البرنامج تلعب دورا رئيسيا ولكن يجب ألا ننسى العوامل الأخرى المؤثرة على زيادة حصيلة الإعلانات المتوقعة.

إلا أن المأزق الثاني الذي تعرض له محمود هو رفضه السبت الماضي إجراء حوار مع الفريق أحمد شفيق رئيس الوزراء بحجة أنه مرفوض جماهيريا وأن هناك مطالب بتغييره والحقيقة أنه من الناحية الإعلامية كان من الممكن أن تكون هذه هي المحاور التي يستند إليها محمود في حواره مع رئيس الوزراء ويقدم حوارا رائعا مع رئيس الوزراء الذي يرى محمود أنه مرفوض جماهيريا وهو أيضا يرفضه خاصة أن الأمر الآن تغير فلا يوجد وزير إعلام سوف يوجه دفة الحوار أو يملي على محمود ما يريده من أسئلة، الوحيد الذي يملك توجيه الحوار كما يريد هو محمود.. رئيس الوزراء قال إن السبب الحقيقي لرفض محمود إجراء حوار معه وتقديمه لاستقالته بناء على ذلك لا يعبر عن الحقيقة ولكن محمود طلب أن يحصل على أجره القديم بينما رأت الإدارة الجديدة للتلفزيون أن هذا الأجر مبالغ فيه وطلبت تخفيضه إلى مليون ونصف مليون جنيها مصري فقط وهو ما دفع محمود للاستقالة ودفع الناس للتساؤل في الإنترنت والصحافة هل هذا الرقم ضئيل إلى هذا الحد!! الحقيقة التي دفعت محمود إلى رفض إجراء حوار مع رئيس الوزراء المصري هل هي الأجر أم أنها أسباب أخرى سياسية متعلقة بقناعات محمود الشخصية.. ستظل دائما الإجابة مثار تساؤلات لا تنتهي إلا أن القضية هي شروط اللعب مع الدولة ويجب أن ندرك أنه بعد الثورة وعندما يتولى رئاسة مصر رئيس مدني منتخب خلال 6 شهور بعد كل ذلك سيظل أيضا هناك دولة لها قناعاتها وأفكارها ورجالها داخل وخارج الإعلام الرسمي.. الحكومات الديمقراطية في أميركا وأوروبا لها أيضا رجالها فلا تحول الديمقراطية دون وجود رجال يعملون لحساب النظام القائم وخاصة في الإعلام.

انضم محمود قبل 5 سنوات للإعلام الرسمي وقرر أن يطبق قانونه وليس قانون الدولة التي اعتقدت أنه في اللحظة المناسبة سوف يلعب لصالحها فقرر محمود أن يلعب لصالحه.. القنوات الفضائية الخاصة مثلا تقدم برامجها وهي لديها خطوط حمراء تدركها ولا تتخطاها ولو تتبعت قناة «دريم» سوف تدرك مثلا أن رئيس القناة أحمد بهجت كان طوال أحداث الثورة يتدخل أكثر من مرة على الهواء في أكثر من برنامج مثل «صباح دريم» و«العاشرة مساء» لتوجيه مسار الحديث مما يؤكد أن لديه هو أيضا حدود قصوى للانتقاد وأجندة لها سقف لا يستطيع أن يتخطاه في انتقاد النظام.. بالتأكيد بعد تنحي مبارك عن الرئاسة اختلف الأمر في قناة «دريم» ولكني أتحدث عن اللحظات التي كان فيها حسني مبارك متشبثا بالحكم وهذا يؤكد أن القنوات الخاصة أيضا كانت واقعة هي الأخرى تحت قبضة الدولة وأن مذيعي هذه القنوات لم تكن لديهم حرية مطلقة إلا ما يسمح به صاحب القناة.. ومن الممكن أن ترى أن الصورة في «المحور» كانت أشد ضراوة حيث تم «فبركة» لقاء ضد المتظاهرين لحساب أمن الدولة من خلال استضافتهم لفتاة ادعت أنها تعمل لحساب جهات أجنبية لكن بعد تنحي مبارك تغير الأمر واعتذر المفبركون وقالوا «لم نقصد»؟! الإعلام بجناحيه لعب دورا ولا يزال في كل ما نراه ولا شك أن محمود أراد أن يلعب مع وعلى الإعلام الرسمي ولم يكمل الطريق وخرج بطلا ولكني أرى أن المعركة لم تنته بعد.. الدولة لا تزال تملك أوراقا وهي بالمناسبة سوف تظل تملكها وفي كل العهود.