صحافة الدعاية تخلد للراحة.. والإعلام الجديد يستعيد مواقعه

المشهد الإعلامي التونسي بعد الإطاحة بنظام بن علي

تغير كبير في المشهد الإعلامي التونسي بعد 14 يناير الماضي («الشرق الأوسط»)
TT

تفتح الراديو صباحا فيأتيك صوت المذيعة ناعما مشيدا بالإجراءات الإنسانية التي اتخذها الرئيس لصالح ضعاف الحال، وتمر الدقائق متتالية وهي تعدد صفات الرئيس الإنسانية وعبقريته السياسية في حل معضلات الوطن ومشكلات أبنائه.. تفتح التلفزيون فتأتيك صورة الرئيس مبتسما كأنما يسعى إلى إغاظتك، لتسرد لك مقدمة البرامج درسا حفظه التونسيون عن ظهر قلب؛ فالرئيس «استقبل» و«اجتمع» و«أذن» و«قرر».. كلها تأتيك دفعة واحدة.. تفتح صفحات الجرائد فتجد الرئيس متربعا على الجزء الأهم من الصفحة لتمجد أنشطته، وتحلل أبعاد خطبه الرنانة، وقراراته التي تصب في صالح كل الناس.

كل الصحف سواء منها المصنفة ضمن خانة الموالاة أو الاستقلال أو الصحف الحزبية أو حتى شق من صحف المعارضة، منضبطة ضمن الصفوف ولا تسعى إلى الخروج عن المألوف.. تذهب إلى «التلكس» في كل مقرات الصحف التونسية والمؤسسات الإعلامية، فيأتيك النشاط الرئاسي في أعلى الصفحة.. هو لا يهدأ له بال طوال السنة؛ فالزعيم لم يأخذ قسطا من الراحة طوال 23 سنة. الأيام تتوالى وهو يقرر لوحده ويمد إعلام الدعاية بأنشطته اليومية التي غالبا ما تكون للاستهلاك الإعلامي ومعظمها يبقى حبرا على ورق. وإن حاول إعلام المعارضة شق الصفوف والكتابة بشكل مختلف، فإن مصيره يكون التضييق والتهديد، وربما الإغلاق.

صحيفتا «الحرية» و«لورونوفو» الناطقتان بلسان التجمع الدستوري الديمقراطي، ورئيسه بن علي، والوكالة التونسية للاتصال الخارجي التي بعثت لغاية تلميع صورة النظام في الخارج، ووكالة «تونس أفريقيا» للأنباء، الوكالة الرسمية، والصحف المملوكة للدولة على غرار «الصحافة» و«لابرس»، والإذاعات المركزية والجهوية التي ينطلق عملها بنشاط الرئيس، حتى وإن كانت تعيد أنشطة أمس نفسها صباح اليوم الموالي، والتلفزيونات الحكومية والخاصة، كلها كانت تدعو لابن علي وتشيد بعبقريته، وتصبغ عليه أبواق الدعاية من الصفات ما يتجاوز القدرات الإنسانية، فهو «ابن تونس البار» و«بطل التغيير» و«صانع التغيير» و«حامي الحمى والدين» و«القائد الفذ» وغيرها من الصفات التي كررها إعلام الدعاية طوال أكثر من عقدين من الزمن.

هذا الإعلام بلع اليوم لسانه، ودخل في صمت مطبق، فوكالة «تونس أفريقيا» حذفت من صفحتها الرئيسية خانة «النشاط الرئاسي»، وأصبح هناك باب اسمه «سياسة»، والصحيفتان الحزبيتان أصابهما البكم، ولم تصدرا منذ الإطاحة بالرئيس المخلوع يوم 14 يناير (كانون الثاني) الماضي، والقنوات التلفزيونية بصنفيها العمومي والخاص غيرت خلفية شاشاتها وباتت صور الاحتجاجات الاجتماعية واللافتات المطلبية ركنا قارا من أركانها، أما الإذاعات، فقد خرجت من أوكارها وذهبت توا إلى المواطن تستجدي عطفه.

هو مشهد إعلامي مختلف تمام الاختلاف، شكل مطلبا قديما من مطالب الإعلاميين والسياسيين والحقوقيين الذين دعوا في أكثر من مناسبة إلى ضرورة الابتعاد عن «اللغة الخشبية»، وتطبيق «صحافة القرب»، ونشر الحقائق وعدم التعتيم على الواقع التونسي بكل مطباته.

اليوم كثرت الأصوات وتعددت الرؤى وتداخلت المهام وأصبح الإعلام قاطرة لدفع الوعي السياسي والتوعية بأهمية التحول الذي حصل في تونس. منافسة حادة اليوم بين مختلف أنواع الإعلام المرئي، وهي علامة صحية ودلالة إضافية على ما جد منذ يوم 14 يناير من السنة الحالية. عناوين جديدة نزلت إلى الأسواق والعديد منها على قائمة الانتظار. وقد حصلت صحيفة «حريات» للهادي بن يحمد، و«الجرأة» لسليم بقة، على الترخيص القانوني، ومن المنتظر أن تعززا المشهد الإعلامي.

حول الدور الجديد الموكول للإعلام، قالت تبر النعيمي، الصحافية في جريدة «الحرية» (الناطقة باسم حزب بن علي) لـ«الشرق الأوسط» إن مصير العاملين في «دار العمل»، المؤسسة التي تنتمي لها الصحيفة، أصبح مجهولا منذ الإطاحة بالرئيس بن علي. وأوضحت: «صحافيو المؤسسة حافظوا لسنوات على الخط التحريري للصحيفة، واحترموا أخلاقيات المهنة وميثاق الشرف، ومن الظلم استثناؤهم اليوم، والحال أن الإعلام التونسي كله كان بوقا لابن علي». وتابعت النعيمي قائلة إن الصحافيين هناك لم يتلقوا رشى من أحد، بل إن معظمهم حرم من الترقيات المهنية والمطالبة بحقوقهم المادية بدعوى الالتزام الحزبي.

وخلصت النعيمي إلى القول إن «دار العمل» التي تمر بأزمة حادة منذ يوم 14 يناير الماضي، يرجع تاريخ تأسيسها إلى سنة 1934، وإن أول من ترأسها كان الرئيس التونسي الأسبق الحبيب بورقيبة، وهي بهذا المعنى تحمل في طياتها تاريخ تونس النضالي الطويل بقطع النظر عن تحويلها إبان فترة حكم بن علي إلى نواة للفساد الإداري والسياسي.

وقالت صباح الطوجاني، إعلامية ومسؤولة سابقة بالوكالة التونسية للاتصال الخارجي (الوكالة المتهمة بالدعاية للنظام السابق)، لـ«الشرق الأوسط» إن الصحافيين الذين عملوا في تلك المؤسسة الدعائية يطالبون باسترجاع الإعلام لمكانته كسلطة حقيقية بعيدا عن لغة تصفية الحسابات وتوجيه الاتهامات. وأضافت أن «كل العاملين هناك كانت تحكمهم التعليمات التي لا يدري أحد من أين تأتي، والمطلوب اليوم تطبيق مبدأ (الرأي والرأي الآخر) بطريقة حضارية بعيدا عن لغة إقصاء الآخرين والركوب على الثورة».

وحول إحساس قسم من العاملين في الدعاية للنظام السابق بالذنب، قالت الطوجاني إن «الصحافيين هناك كانت تحكمهم علاقة طبقية، فهناك من يتقاضى الملايين، وهناك من لا يصله غير الفتات، والحال أن معظم هؤلاء أصحاب مستويات علمية مرموقة ولهم كتابات جيدة، ولو لم تكن لهم تلك الكفاءة لما استنجد بهم النظام السابق للدعاية والترويج لما كان يسميه (النجاحات التونسية)».

وعن المسار المهني لوكالة الأنباء الرسمية خلال سنوات حكم بن علي، قال ناصر المولهي، الصحافي بوكالة «تونس أفريقيا» للأنباء الحكومية في تصريح لـ«الشرق الأوسط» إن هذه الأخيرة تحولت خلال سنوات حكم بن علي إلى وسيلة دعائية لفائدته، وتغافلت طوال سنوات عن صناعة الخبر الصحافي. وعزا المولهي ذلك إلى تعيين مسؤولين تابعين للحزب الحاكم على رأس إدارتها، مشيرا إلى أن هؤلاء لهم مطامحهم السياسية التي لا يمكن تحقيقها إلا عبر الدعاية للحزب الحاكم ولرئيسه.

وحول إمكانية تغيير المسار الإعلامي لواحدة من أقدم وكالات الأنباء على المستوى العربي (تأسست سنة 1961)، قال المولهي إن ذلك مرتبط بالأساس بنوعية المسؤولين الذين سيتم تعيينهم خلال الفترة المقبلة، وعلى الإدارة أن تفصل فصلا كاملا بين العمل الإعلامي والانتماء الحزبي حتى يتمكن الصحافيون من بلورة توجه جديد يبتعد عن الدعاية المغلوطة والمغرضة، على حد تعبيره.

وحول الخطوات المطلوبة لتغيير المشهد الإعلامي التونسي والقطع مع إعلام الدعاية، قال خميس العرفاوي الصحافي بجريدة «الصحافة» الحكومية، إن «المطلوب الآن هو الإنارة وإبراز المخفي، وليس الإدانة أو التجريم أو التبرئة المجانية.. المطلوب تعزيز ثقة المتلقي في الإعلام التونسي، وليس الضحك على ذقنه باتباع أساليب الإثارة البالية نفسها».

وتبحث الأحزاب السياسية اليوم، التي بلغ عددها 21 حزبا مرخصا لها بالنشاط و31 حزبا في انتظار الحصول على الترخيص، بالخصوص، في طرق إسهام الإعلام في تشكيل الرأي العام السياسي وإعادة النظر في قانون الإعلام والصحافة، وهي تجد في البحث عن منابر إعلامية تتبنى أفكارها السياسية. وقد هيأت لها ظروف الانفتاح السياسي مجالات التعريف بأنشطتها والظهور في أكثر من منبر إعلامي.

وفي هذا الصدد، قال كمال العبيدي رئيس الهيئة الوطنية المستقلة لإصلاح الإعلام والاتصال التي حلت محل المجلس الأعلى للاتصال الموالي للنظام السابق، إن أبرز أهداف الهيئة الجديدة هو تقديم مقترحات وتوصيات بشأن تطوير الأداء الإعلامي والنهوض بواقع القطاع وإحداث هيئات تعديلية لتسوية ما قد يطرأ من مشكلات بين المؤسسات الإعلامية والرأي العام من دون اللجوء إلى المحاكم. ويفسر هذا التوجه بفتح أبواب المنافسة بين مكونات الإعلام التونسي وما قد ينشأ من تقطع في المصالح. وتسعى الهيئة في مرحلة أولى إلى تقييم واقع الإعلام والصحافة في تونس والاستئناس بتجارب مماثلة على غرار ما حدث في إسبانيا واليونان ودول أوروبا الشرقية وتشيلي والأرجنتين.. فقد تمكنت من طي صفحة الماضي وإرساء إعلام حر مستقل.

كما أعلن في تونس عن إنشاء «المجموعة العربية لرصد الإعلام» وهدفها كما ذكرت التونسية سهام بن سدرين التي ترأسها، بناء إعلام عربي مهني مستقل وذي مصداقية، ودعم حرية الرأي والتعبير وتطوير القدرات المهنية للصحافيين. وستعمل المجموعة كما ذكرت في بيانها التأسيسي، على إصدار تقارير تتضمن ملاحظات وتوصيات حول أوضاع الإعلام في الوطن العربي ومن بينها تونس، والأطر القانونية للممارسة الصحافية، واحترام أخلاقيات المهنة والعلاقة بين السلطات العمومية والإعلام. وقال محمود الذوادي رئيس «مركز تونس لحرية الصحافة» الذي تم الإعلان عن تكوينه منذ أيام، إن هذا الهيكل هو امتداد لنضالات زملائنا في الحقل السياسي والإعلامي، ولمطامح الهيئات المستقلة في مجال الإعلام من أجل إعلام بديل. وأضاف: «الإعلاميون في تونس لا يريدون إعادة سيناريو الصراع المرير نفسه مع النظام، وما يتبع ذلك من مناف وإيقافات، وهم الآن يتأهبون لممارسة إعلام حر ومسؤول، وإلى إماطة اللثام عن أكثر من عقدين من الظلم السياسي والاجتماعي والاقتصادي، وهذا الأمر لن يكون سهلا اعتبارا لتضاربه مع مصالح كثير من الفئات الاجتماعية التي حققت منافع عدة من النظام السابق».