علي جابر.. وجه الحقيقة

مصور «الجزيرة» الذي تحول من ناقل للخبر إلى خبر

TT

كان صوت المذيع السعودي في قناة «الجزيرة» القطرية، علي الظفيري يتهدج قبل أن يدخل في نوبة من البكاء، وهو يذيع نبأ مقتل مصور قناة «الجزيرة» الموفد إلى ليبيا، علي حسن جابر. لكن خلف الكاميرا كان الحزن يلف جميع العاملين في المحطة، وجميع الذين عرفوا القتيل، وتحولت سريعا حادثة مقتله إلى عنوان جديد من عناوين التحدي لآلة القمع في وجه نور الحقيقة، حيث خاطر الآلاف من أهالي بنغازي للخروج في تشييعه كتعبير لانتصار الكلمة على آلة الغدر.

تعوّد علي حسن جابر على مدى 30 سنة أن يكون خلف الكاميرا، ناقلا للحدث، لكن مساء الثاني عشر من مارس (آذار) الحالي، كان موعدا لكي يطوي مرحلة كان فيها شاهدا على فظاعة الأحداث، وقسوتها، ليصبح شهيدا يتوج بدمه رسالة الكلمة الحرة.

«أشدّ ما يلفتك في علي جابر إنسانيته»، يقول زميله علي الظفيري، ويضيف في اتصال مع «الشرق الأوسط» أن «علي من الصنف النادر في الأوساط الصحافية»، ويقول «كان عاشقا للكاميرا، لم يكن محتاجا من الناحية المادية لأن يتنقل في مناطق الأزمات والكوارث والحروب، لكن ولعه بالعمل وحبه للكاميرا جعله في الصفّ الأول دائما».

ولد علي حسن جابر في قطر عام 1955، ويقول لـ«الشرق الأوسط» أخوه الأكبر عبد الرحمن، إن علي كان مولعا منذ شبابه بتسجيل اللقطات من التلفزيون، والعمل على إنتاجها، كنوع من الهواية، كما حمل الكاميرا في سنّ مبكرة، قبل أن يختطفه العمل الإعلامي.

حصل علي الجابر على بكالوريوس وماجستير في التصوير السينمائي من المعهد العالي للسينما، أكاديمية الفنون، بالقاهرة عام 1991، وهو أول قطري يحصل على تأهيل أكاديمي في مجال التصوير السينمائي. وقد بدأ عمله في تلفزيون قطر كرئيس لقسم التصوير والكاميرا المحمولة منذ عام 1979 حتى عام 2001، كذلك عمل مشرف تصوير في اللجنة الأولمبية الأهلية في الفترة بين عامي 2001 و2005، بعدها أصبح مديرا لمكتب «سي إن بي سي» بالدوحة، ثم انتقل للعمل بوظيفة رئيس قسم التصوير في قناة «الجزيرة» الفضائية حتى استشهاده في ليبيا أثناء أدائه عمله في 12 مارس 2011.

على الصعيد الإبداعي صوّر علي عددا من الأفلام الوثائقية، بينها فيلم «المحنة والابتلاء» عن تحرير الكويت، وفيلم «سقوط الإمبراطورية» عن روسيا وتركمانستان وشمال القوقاز، وأفلام أخرى.

يقول الصحافي السوداني المقيم في الدوحة، محمد المكي أحمد، أن علي جابر كان مهنيا بامتياز، ويضيف لـ«الشرق الأوسط»، أن علي كان مثالا فريدا للمصور الصحافي الذي لا يتقن البقاء في المكاتب والأماكن المرفهة، ويضيف: «حين تلاحظ أن علي جابر في سنه البالغة 56 عاما، وفي خبرته، وكونه مواطنا خليجيا ميسور الحال، فإن المهنية وحدها وحبّ العمل كانا الدافعين لكي يحترف العمل الميداني».

يضيف المكي أن الجميع كانوا يرون في علي الجابر نموذجا للصحافي الذي يمتهن عمله، ويقدر مهنته، حتى دفع روحه ثمنا لهذا العمل. سافر علي جابر إلى بنغازي على متن طائرة خاصة تنقل مساعدات قطرية للمدنيين الليبيين، في الأول من مارس الحالي، وكان برفقته 3 مصورين و3 فنيين، وخلال المدة التي قضاها الفريق في بنغازي، كان علي جابر يمارس هوايته المفضلة، فقد كان بالنسبة للجميع أبا وراعيا.

زملاء الراحل علي جابر يتحدثون عن علاقة من نوع خاص تربطه بزملاء المهنة، يقول المصور أشرف إبراهيم (سوداني) إن علي جابر رفض طوال مدة الرحلة إلى بنغازي أن يصرف أحد من زملائه على حاجياته، فقد كان يتولى هذه المهمة بنفسه. وحين وصل الفريق اختار السكن في غرفة مشتركة مع زميله أشرف، قبل أن ينضم إليهم زميل ثالث.

يقول علي الظفيري إن علي جابر يمتلك صفات خاصة.. «كان نقيا جدا، وبعيدا كل البعد عن التشاؤم، بل إنه مصدر إلهام لكثير ممن حوله، ومن الصعب عليك أن تقفل راجعا من عنده دون أن تنفض عنك غبار اليأس والإحباط».

في حين يقول محمد المكي: «إن علي جابر كان طموحا جدا، ولكنه في ذات الوقت كان رقيقا جدا وهو متدين وخفيف الظل، ومن الصعب أن تتعرف إليه دون أن تحبه». في حين يقول المصور أشرف إبراهيم: «كنت أعتبر الشهيد علي أبا وصديقا كبيرا، لكنه بعد استشهاده تحول إلى رمز ومثال للعمل المهني».

غطى علي جابر مناطق كثيرة من النزاع والحروب، كما شارك في سفينة نقل المساعدات لكسر الحصار عن قطاع غزة، وبرأي ولده عبد العزيز الذي يعمل في وزارة الداخلية القطرية، فإن والده علي جابر كان تواقا لنيل الشهادة. ويروي لـ«الشرق الأوسط» زميله المصور الصحافي في قناة «الجزيرة» أشرف إبراهيم، الذي رافقه في رحلته إلى ليبيا، أن الشهيد اختار في اللحظات الأخيرة الخروج في مهمة كان من المفترض أن يخرج إليها زميله أشرف.

اختلط علي جابر بالناس الثائرين في وجه العقيد الليبي معمر القذافي، وفي لحظة انكسار الخوف تحوّل علي ومعه الكاميرا والشاشة والكلمة إلى عناوين للحقيقة في وجه التعتيم والظلام، في ميدان التحرير في بنغازي كان علي يحمل الكاميرا يفتش عن وجوه الثورة، لكنه سرعان ما ينسلّ من المكان لتخوم المدينة التي ترد هجمات كتائب القذافي، أو تواجه طائراته المقاتلة، وحفلت اللقطات التي صورها بمقابلات مع الثوار، كما رصدت كاميرته، ظهيرة السبت قبيل مقتله، صلاة الجنازة على أحد قتلى الثوار جرى نقل جثمانه من ساحة المعركة في مدينة راس لانوف وفق ما روى مراسل «الجزيرة» بيبة ولد امهادي.

يقول أشرف في مساء السبت كان علي جابر يتولى البث المباشر الساعة الثالثة عصرا بتوقيت الدوحة، حين علم الفريق بوجود مظاهرات في بلدة سلوق جنوب غربي بنغازي التي تضم ضريح شهيد استقلال ليبيا عمر المختار، على بعد 40 كلم جنوب غربي بنغازي، وهي مسيرة مؤيدة للثورة، يتم فيها رفع علم الاستقلال، في وقت كان إعلام النظام الليبي يزعم أن تلك المسيرة سوف ترفع العلم الأخضر عنوانا لخضوعها بالولاء للقذافي، وكان على الشهيد أن يلتقط لحظة الحقيقة التي تفند زيف التضليل، وكان استهدافه رسالة لمعركة الحقيقة في وجه طيور الظلام.

وقد سجلت كاميرا الجابر لقطات لمسيرات الأهالي المنتفضين في وجه العقيد، كما صورت مقابلات ولقطات لضريح عمر المختار، وكانت تلك آخر اللقطات التي اختزلتها الكاميرا. أقفل بعدها الفريق راجعا، وهو يتكون من أربعة أفراد هم المصور علي الجابر والمراسلان ولد امهادي والهدار، إضافة إلى السائق، وفي طريق عودتهم إلى بنغازي شكّ الفريق في أنه ملاحق من سيارة غريبة طاردتهم حتى منطقة الهواري على بعد 20 كلم من بنغازي.

وكان وقتها علي الجابر جالسا إلى جانب ولد امهادي في المقاعد الخلفية للسيارة، في حين جلس الهدار في المقعد الأمامي إلى جانب السائق الذي شاهد عبر المرآة العاكسة وجود شخصين ملثمين في سيارة خلفه. ومع اقترابهم أمطر المهاجمون السيارة بوابل من الرصاص من الخلف أصابت ثلاث منها جسد الجابر وأصابت إحداها قلبه بشكل مباشر، في حين أصابت الرابعة طرف رأس الهدار من جهة الأذن واخترقت الزجاج الأمامي للسيارة.

يقول أشرف: «كانت الساعة الخامسة إلا خمس دقائق، حين اتصل هاتفيا الشهيد علي جابر يطلب التهيؤ لموعد البث المباشر. لكن اتصالا آخر جاء بعد 20 دقيقة من مراسل (الجزيرة) بيبة ولد امهادي يبلغه أن الفريق تعرض لهجوم وأن علي أصيب».

وقالت قناة «الجزيرة» إن علي حسن الجابر استشهد في منطقة هواري بالقرب من بنغازي، وقالت إن طاقم الجزيرة تعرض لـ«كمين مسلح»، حيث أصيب أيضا مراسل القناة ناصر الهدار. في حين قال مراسل «الجزيرة» في بنغازي بيبه ولد امهادي «إن الجابر أصيب بثلاث رصاصات أودت بحياته، حيث فشلت جهود إسعافه».

كما نعته شبكة «الجزيرة»، وقال مديرها العام وضاح خنفر: «إن الفقيد استشهد وهو يؤدي واجبه المهني وإن (الجزيرة) لن تتراجع عن أداء رسالتها مهما كلفها ذلك من ثمن».

مثّل رحيل المصور علي الجابر، عنوانا لما يلاقيه الصحافيون والمصورون في أوقات الأزمات والحروب والمشكلات السياسية. وفي عصر الثورات العربية، تحول الإعلام إلى هدف للقمع والتضييق، كما تحول الصحافيون إلى رهائن وأسرى ودروع بشرية، بل إن كثيرا من الإعلاميين تعرض في مصر وتونس وليبيا إلى العنف الجسدي، وهو ما يؤكد الحاجة لوجود تشريعات تحمي المراسلين وتحافظ على أرواحهم وعلى أداء رسالتهم، يقول علي الظفيري: «إن المشكلة ليست في التشريعات، وليست في القوانين، ولكن في انعدام القوة اللازمة لتطبيقها». ويضيف: «ما الذي يمنع نظاما يعمل بكل طاقته على وأد الحريات وقتل الناس؟ إنه يستهدف وسائل الإعلام، ما دام لا يشعر أن التعرض للصحافة من شأنه أن يكسبه مزيدا من الخسارة وليس الربح». ويضيف الظفيري أن على الدول التي تتولى - داخل المنظومة الدولية - تطبيق القانون الدولي، أن تلزم الحكومات باحترام حريات وسائل الإعلام والحريات الصحافية، كما يتعين على رفاق الحرف والكلمة أن يعلنوا تضامنهم في وجه القتلة وخانقي الحريات. فليس مسموحا لنظام كنظام العقيد القذافي أن يسكت الحقيقة.