تركيا.. الرهان على الإعلام الحر

يونيو المقبل موعد المواجهات السياسية على تقاسم حصص مقاعد مجلس النواب الجديد

الإعلام هو المعركة القادمة في تركيا (أ.ب)
TT

كلما اقترب تاريخ الثاني عشر من يونيو (حزيران) موعد الانتخابات النيابية العامة في تركيا، اشتدت حدة المواجهات السياسية وزاد عدد الملفات الساخنة المهددة بإشعال نقاش يقود إلى رفع أسهم البعض وتراجع أسهم آخرين خلال تقاسم حصص مقاعد مجلس النواب التركي الجديد.

أبرز القضايا الجاهزة لتأخذ مكانها إبان الحملات الانتخابية في الأيام المقبلة ستكون مسألة الحريات الصحافية في البلاد وحملات الاعتقالات الأخيرة في صفوف رجال الإعلام بتهمة الانتماء إلى منظمة «أرغينيكون» السرية التي تحاكم بتهمة التخطيط للإطاحة بحكومة «العدالة والتنمية» عبر انقلاب عسكري وتسلم شؤون الحكم في تركيا، حيث إن هناك أكثر من 100 ضابط وجندي والعشرات من الأكاديميين ورجال الإعلام والأعمال تم اعتقالهم بهذه التهم منذ عام 2007. أما القضية الثانية والمرتبطة بالملف الأول بشكل أو بآخر فهي مسألة التعديلات الجديدة التي اقترحتها الحكومة على بعض مواد قانون الجزاء التركي المتعلقة مباشرة بالحريات الصحافية والتي رفعت إلى مجلس النواب لمناقشتها وإقرارها قبل الانتخابات كما تقول قيادات «العدالة والتنمية».

نقابات واتحادات صحافية وإعلامية وحدت صفوفها مؤخرا ونظمت مظاهرتين؛ إحداهما في أنقرة العاصمة التركية، وأخرى في إسطنبول مركز القطاع الإعلامي في تركيا، تطالبان بإطلاق سراح 5 من الصحافيين الذين تم اعتقالهم قبل أسبوعين بتهم لها علاقة بالتنظيمات السرية مثل «أرغينيكون» و«المطرقة» وفي طليعتهم الصحافي أحمد اشق ونديم شنير الذي نال العديد من الجوائز العالمية على نشاطاته وكتاباته في الحقل الصحافي، وتذكر بملفات العديد من الصحافيين المعتقلين منذ أشهر طويلة ينتظرون انتهاء محاكماتهم وفي مقدمتهم مصطفى بالباي وتونجاي أوزقان.

المتظاهرون الذين قرروا كسر أقلامهم احتجاجا على موجات الاعتقال هذه يقولون إن هناك أكثر من 50 صحافيا تم اعتقالهم وتجري محاكمتهم بتهم مباشرة لها علاقة بالكتابة والنشر، وإن هناك نحو 4 آلاف ملف من هذا النوع أمام الكثير من المحاكم التركية، مرددين أن ما يجري يطال الحريات الفردية ويضيق مساحة الحريات الصحافية ويربطها مباشرة بالسلطة السياسية في البلاد.

تجمع آخر قادته جمعيات واتحادات مهنية إعلامية يعارض رزمة التعديلات الجديدة المقترحة حول مواد تتعلق بحرية الصحافة في القانون الجزائي التركي؛ وفي مقدمتها المواد 134 و285 و288 المعنية مباشرة بسرية التحقيقات العدلية ونشر مواد سرية تم الحصول عليها عبر الإنترنت، وإعادة صياغة المادتين 132 و133 بشأن التنصت غير المشروع ومضاعفة العقوبة بحق من تثبت إدانته وتورطه ورفع العقوبة عن الذين ينشرون هذه الأخبار نقلا عن صفحات الويب مثلا.

ورغم تريث الإعلام المساند للحكومة في الكتابة حول هذه التعديلات في انتظار سماع ما ستقوله المعارضة ومتابعة النقاشات التي ستحدث داخل المجلس النيابي، فإن وزير العدل السابق سعد الله أرغين كان قد أبدى تمسك حكومته بإقرار هذه التعديلات، مذكرا بأن سبب دعم وزارته لها هو حالة الفراغ القانوني القائم أو أن العقوبات الموجودة في القانون الحالي غير كافية بالمقارنة مع حجم وقيمة العقوبة المستحقة.

هذه المسائل وغيرها حملها وفد المجلس الأعلى للصحافة قبل أيام إلى قصر «شنقايا» لمناقشتها مع الرئيس عبد الله غل وليعبر أمامه عن قلقه حيال ما يجري؛ فالمعارضة تنتقد أسلوب التعامل مع مسائل الحريات الصحافية التي حملت تركيا إلى الوراء في ترتيبها الدولي في هذا المضمار، إلى المرتبة 138 تحديدا كما تردد. والمعارضة، كما فهمنا أيضا، تركز في حملاتها المضادة على إلغاء 3 نقاط أساسية غير قانونية، كما تقول، تتضمنها التعديلات:

رفع الحواجز القانونية أمام التعامل مع مواد ما زالت قيد التحقيق. إمكانية إدخال أو إضافة مواد لا علاقة لها بملف القضية الأساسي والتهم الواردة في ملف المدعي العام المقدم إلى المحكمة. قبول علنية بعض المواد في حال نشرت عبر صفحات الويب حتى ولو كانت طريقة الحصول عليها غير شرعية.

ورغم أن المدافعين عن التعديلات يرون أنها تحمل إيجابيات كثيرة وتنهي حالة من الضعف والفراغ القانوني مثل مضاعفة عقوبة الإخلال بسرية التخابر من 6 أشهر إلى عامين على الأقل و5 أعوام على الأكثر، ومعاقبة المفشين أسماء شهود سريين وتحويل عقوبة السجن بسبب مادة محاولة التأثير على القضاء عبر وسائل الإعلام إلى غرامة مالية، فإن الحاكم السابق لتركيا في محكمة العدل الأوروبي رضا توزمان يبدي قلقه من أن تتحول مادة السماح بإبقاء مواد لا علاقة لها بملف الدعوى إلى مسألة تضيق رقعة الحريات الفردية بدل توسيعها.

أستاذ القانون الجزائي كوكسال بيرقدار يتفق مع توزمان في مسألة تعارض هذه المادة مع الحريات الشخصية. كذلك المحامي تورغوت قازان رئيس نقابة المحامين السابق في إسطنبول الذي يقول إن ترك مواد لا علاقة لها بملف الدعوى هناك هو خروج عن القانون وخرق للدستور التركي ومواده بهذا الشأن. نشر الحوارات الخاصة التي يتم الحصول عليها بطرق غير شرعية يشبه إلى حد بعيد موضوع نشرها على صفحات الويب ثم حملها إلى الصحف التركية للإفشاء، ألا يستحق مثل هذا العمل العقاب؟

الأمين العام لـ«اتحاد الصحافيين العصريين» أحمد أباكايا يرى أن إعطاء المحاكم حق تحديد حدود الخبر خطوة تحمل الكثير من الخطورة على الحريات في البلاد، تسييس القضاء هو الهدف على ما يبدو هنا، كما يضيف. وهذا ما يقوله أيضا الصحافي الهان تاشي في «جمهوريت» بترديده أن مهنة الصحافة مهددة بأن تكون تحت إشراف القضاء وأن هذه التعديلات ستفتح الطريق أمام التشهير بالناس وبحرية كاملة عبر وسائل الإعلام. وهنا يبرز ما قاله ارجان ايباكشي الأمين العام لنقابة الصحافة التركية إلى الأمام، فهو يردد أن «مشروع القانون هذا سيعيدنا إلى الخلف، بينما نطالب بتوسيع رقعة الحريات الصحافية أكثر فأكثر». ويتقدم كلام أستاذ القانون الجزائي ارسين شن الذي يرى أن «البوح بمعلومات سرية لها علاقة بالحريات الفردية يشبه إلى حد كبير ترك المواطن عاريا أمام الجميع. مسألة استدعاء المدعي العام المتضرر من نشر مسائل سرية تتعلق به وسؤاله عما إذا كان مشتكيا أم لا، لا يحل المشكلة. علينا تحويل هذه المسألة إلى قضية تفرض إقامة دعوى مباشرة دون الاستماع إلى المتضرر الذي قد يخاف ويتردد في طلب تقديم شكوى في هذا الإطار».

في حقبة يحدثنا فيها قيادات «العدالة والتنمية» عن الصعود التركي في الداخل والخارج وفي كل المجالات ويرددون أن تركيا لن تتراجع عن قرار مواصلة هذا الصعود لتأخذ مكانها بين الدول العشر الكبرى في العالم قبل عام 2023، برز موضوع الحريات الصحافية إلى العلن وطرحت الأسئلة من قبل أصوات معارضة على النحو التالي: هل هي أزمة الصحافة الحرة في البلاد؟ أم مشكلة حرية الصحافة؟ ليعقبها سؤال مشابه: هل تكون استقلالية القضاء وحياد رجال القانون هي العقدة؟ أم إنها عقبة اسمها القضاء المستقل وحيادية رجال القانون؟ وهل يحاول البعض الدمج بين حرية الصحافة واستقلالية القضاء؟

ورغم أن الأكاديمي وداد دمير يتحدث عن أزمة محاولة البعض الخلط بين المسألتين؛ حرية الصحافة واستقلالية القضاء، وأن الكثير من الإعلاميين يحدد موقفه حسب موقعه السياسي والآيديولوجي وهو لا يتراجع عن ذلك خطوة واحدة وربما هذا هو صلب المشكلة، متسائلا: هل المقصود هو أن يتحرك رجال القانون بالأسلوب والذهنية نفسها كما يلمح، فإن الصحافي في جريدة «زمان» الإسلامية بولاند قوروجو مثلا يرى أن «هناك معايير مزدوجة يقيس البعض على أساسها. هم تجاهلوا لسنوات أكثر من ملف وأزمة ودعوى أمام القضاء. لم يحركوا ساكنا حول مشكلات ونقاشات في غاية الأهمية ولها علاقة مباشرة بالحريات الصحافية، واليوم قرروا التحرك لأنهم وجدوا أن ما يجري قد يضر بمصالحهم وحدهم. من الذي قاد عمليات كتابة التقارير حول آلاف المواطنين وحياتهم الشخصية بأدق تفاصيلها؟ وأين كانت بعض الأقلام التي لم تحرك ساكنا يومها؟».

مسألة توقيف بعض الإعلاميين مؤخرا كانت أزمة الزجاجة التي سقطت أرضا وأخافت الجميع من أن تتحطم وتتبعثر؟ أقلام وقفت أكثر من مرة إلى جانب الحكومة وسياساتها الانفتاحية تنتقد ما يجري؛ وفي مقدمتها غولاي غوك تورك ونظلي اليجاك، لكن أصواتا أخرى ترد عليها محذرة من إقحام القناعات الشخصية في مسائل باتت أمام القضاء يبت فيها وسيقول كلمته النهائية بشأنها.

أقلام تقول إن الحرية الإعلامية ليست امتيازا يستخدمه البعض للتهجم والإهانة والتحقير، وإن ذلك لا علاقة له باستقلالية القضاء وفرصه في الكشف عن المذنبين ومحاكمتهم، وأخرى ترد بأن الحرية الإعلامية تتطلب الوصول إلى الخبر ومصدره بحرية واستقلالية دون التلويح بمواد قانونية جديدة تحد من إمكانات التحرك كالسيوف المسلطة فوق الرؤوس. دون أن ننسى وجود طرف ثالث في تركيا ينتقد الجانبين معا؛ ومنهم سدات يلمز مخرج فيلم «الصحافة» الذي يعرض في هذه الأيام والذي حمل وسائل الإعلام الكبرى مسؤولية تجاهل الكثير من المسائل السياسية والأمنية على مدى سنوات طويلة ولم تتعامل مع موضوع الإخلال بالحريات الصحافية كما يجب.

بولاند ارينش مساعد رئيس الوزراء والمشرف على مديريات الإعلام الرسمي والقنوات التلفزيونية الحكومية يقول إن «تركيا اليوم وصلت إلى مساحة واسعة جدا من الحريات في المجالات كافة وفي مقدمتها الحرية الإعلامية، وإن ما أقر من إصلاحات وتغيير وتحديث ستعرف قيمته عند التطبيق. عدد القنوات التلفزيونية التي كانت تابعة لـ«تي آر تي» التركية كان 4 فقط قبل أعوام، والعدد الآن هو 14 قناة تبث إلى أكثر من منطقة وبأكثر من لغة ومضمون». لكن البعض متمسك برأيه بأن ما يجري يستحق التوقف عنده بجدية وحذر، كما قال بيان للبرلمان الأوروبي والسفير الأميركي الجديد لدى تركيا الذي دعاه رجب طيب أردوغان ليكون أكثر دقة واطلاعا قبل الحديث والتعليق حول مسائل تعني الداخل التركي.

الوزير أرغين الذي ترك منصبه بسبب نظام الانتخابات التركي قبل أيام كان قد بدأ حوارا مع الإعلاميين والمؤسسات الإعلامية لشرح مضمون التعديلات الأخيرة وغاياتها، لكن فاتح التايلي رئيس تحرير صحيفة «خبرتورك» يقول إن «البداية خلال مناقشة مسائل من هذا النوع تفرض علينا العودة إلى تاريخ الصحافة التركية القديم والحديث وطريقة تعامل القيادات والأحزاب مع هذه القضايا ونظرتهم إليها، وربما بذلك نستطيع فهم ما يجري». بقي أن نقول نحن إن «العدالة والتنمية» هو الذي رفع قبل 8 سنوات شعار الحريات في تركيا، وهو الذي أوصل البلاد إلى ما هي عليه اليوم من مساحات واسعة من النقاش والتفكير والتعبير، وهو لن يتراجع عن الخطة التي أطلقها بمثل هذه السهولة، لأنه يعرف حجم الأضرار التي قد تلحق بكل ما بناه وأعد له حتى الآن، رغم أن الإعلامية ايتان اكغون متمسكة بفكرة أن الإعلام الحر مادة سيحتاج إليها الجميع يوما، ورغم أنها تدعو بأسلوب ساخر لعدم الكتابة في هذه الآونة لأن «الدور سيأتيك أنت أيضا إذا ما كتبت».