التجارب الليبية مع الصحافة الحرة سلبية

محاولة يائسة لكسب عقول وقلوب الغرب قبل الحرب > الحبس في فندق 5 نجوم ومن يخرج على النص.. السجن في انتظاره

رغم محاولات التجميل الليبية مع الإعلام الغربي إلا أن النتائج كانت سلبية («نيويورك تايمز»)
TT

في البداية، دخل صحافي إيطالي والمرافق الليبي المعني بمراقبته في تشابك بالأيدي داخل البهو. وفي اليوم التالي، ألقى مصور خلال تناوله الإفطار بكوب من العصير على وجه كاتب في مجلة فرنسية. وهدد مراسل لـ«لوس أنجليس تايمز» بضرب مذيع تركي لإعاقته مسار الحافلة.

وكانت الأعصاب تغلي وتفور بين الصحافيين الـ100 تقريبا الذين تجمعوا - أو حوصروا - لأكثر من أسبوعين هنا في «ريكسوس هوتيل» كضيوف على العقيد معمر القذافي والحكومة الليبية.

وربما تكون الحكومة، التي تعد بمثابة مبتدئة في التعامل مع الصحافة الحرة، قد صاغت استراتيجيتها تجاه العلاقات العامة انطلاقا من حكمة تتناول كيفية الفوز في سباق بينما يحمل المرء على كاهله كيسا ممتلئا بالفئران، وتقول الحكمة إن عليك الاستمرار في هز الكيس بحيث تفقد الفئران القدرة على حفظ توازنها وتعجز عن العثور على سبيل للخروج.

إلا أن المتحدث الرسمي باسم القذافي، موسى إبراهيم، أعلن أن دعوة وسائل الإعلام الأجنبية إلى طرابلس كان لهدف أبسط من ذلك بكثير. لقد خلصت حكومة القذافي إلى أنه مهما بلغ سوء الأمور التي ستكشف عنها وسائل الإعلام الأجنبية فإنها لن تكون بسوء التقارير التي تواترت بوسائل الإعلام عندما يتحدث خصوم العقيد القذافي حول عمليات قصف وجثث منتشرة بالشوارع في كل مكان.

وتمثل الهدف في تجنب التعرض لتدخل أجنبي. وفي خضم الحرب الدعائية ضد الثوار على كسب العقول والقلوب في الغرب، «كان ذلك السلاح الوحيد الذي نملكه»، حسب ما أوضح إبراهيم. وفي حين حظي الصحافيون برعاية كبيرة هنا في غرب ليبيا، اختفى أربعة صحافيين يعملون لحساب «نيويورك تايمز» كانوا يغطون الصراع في شرق اجدابيا، حسب ما كشفت الصحيفة.

جاءت تجارب حكومة القذافي في طرابلس مع الصحافة الحرة في بعض الأحيان سلبية. من جانبه، كان المضيف إبراهيم، 36 عاما، قد نال مؤخرا درجة الدكتوراه في دراسات الإعلام الرقمي من «رويال هولواي» بجامعة لندن وأنشأ مركز دراسات إعلامية هنا قبل أن تتم الاستعانة به لتنسيق التعامل مع وسائل الإعلام الأجنبية.

وضم الفريق المعاون له المعني بمراقبة الزائرين الأجانب طبيب أسنان ووكيل سفريات وخريجا جامعيا تخصص في دراسة العلوم السياسية، والذين اشتركوا جميعهم في ولاء مطلق للعقيد القذافي والقدرة على الحديث بالإنجليزية بطلاقة. وفي البداية، منحوا الصحافيين شعورا بالحرية، وتولوا توصيلهم إلى مدينة يسيطر عليها الثوار، حيث رحب السكان بالحافلة التي تقل الصحافيين عبر إطلاق هتافات بالإنجليزية موجهة ضد الزعيم الليبي. لكن هذا الحماس سرعان ما تلاشى أمام حالة أشبه بالحبس. صباح الجمعة، حاول المضيفون الليبيون إغلاق الفنادق التي يقيم فيها الصحافيون بحيث يعجزون عن تغطية المظاهرات المتوقعة بعد صلاة الجمعة. وهددوا أي شخص يغادر الفندق بالطرد من البلاد. (وهو تهديد خاو، حسب ما اتضح لمن فروا من الفندق).

وأخبر المراقبون الليبيون الصحافيين بأن أي صحافي أجنبي داخل سيارة أجرة من المحتمل أن يتعرض للاحتجاز عند نقاط التفتيش. وألقت قوات الأمن بالفعل القبض على العديد من الصحافيين على مسافة قصيرة من الفندق وسارعت بإعادتهم. وحاولت مجموعة من الصحافيين الدخول إلى مدينة الزاوية المحاصرة الواقعة على بعد 30 ميلا - وهو مسعى دائما - لكنها تعرضت للاحتجاز لسبع ساعات. وجرى التعامل مع بعض المغامرين بقسوة. على سبيل المثال، احتجز ثلاثة مراسلين لـ«بي بي سي» لليلة كاملة وتعرضوا للإرهاب والضرب. وأطلق، الأربعاء، سراح صحافي عراقي يعمل لحساب الـ«غارديان»، حيث كان عبد الأحد في ليبيا من دون فيزا، بعد احتجازه مدة أسبوعين.

أما المراسلون الآخرون، فتعرضوا للسجن داخل قفص من طراز خمسة نجوم. وكل ليلة، كان إبراهيم يستدعيهم جميعا لمؤتمر صحافي، حيث يحث الحضور على الجلوس بعضهم بجانب بعض في الصفوف الأمامية، انطلاقا من رغبته في أن لا يبدو الحشد شديد الضآلة على شاشات التلفزيون.

وتدور هذه المؤتمرات الصحافية الموجزة حول القضية نفسها؛ الإرهابيين الإسلاميين أصحاب اللحى من تنظيم القاعدة الذين يوزعون المخدرات لدفع الشباب الليبي نحو موجة محمومة من العنف، وهي نظرية كان العقيد القذافي أول من روج لها خلال محادثة هاتفية أجراها معه تلفزيون الدولة في اليوم الذي سيطر خلاله الثوار على الزاوية، حيث قال بانفعال: «إنهم يتعاطون المخدرات داخل أقداح القهوة ويخلطونها بالحليب، مثل النسكافيه».

وطرح البعض على إبراهيم التساؤل التالي: لماذا لم يعثر الصحافيون على إسلاميين ملتحين أو مخمورين عندما زاروا المدينة التي يسيطر عليها الثوار؟ وأجاب بأن الثوار كانوا على علم بقدوم الصحافيين وبالتالي أخفوا الإسلاميين داخل المساجد.

صباح أحد الأيام، أعلن إبراهيم بحماس كبير أن الصحافيين ستتاح لهم فرصة معاينة قرابة 36 مليون قرص من أقراص الهلوسة صادرتها الشرطة الليبية؛ في ما اعتبره دليلا قاطعا على خطة «القاعدة» لتخدير الليبيين. لكن اتضح أن الأقراص هي «ترامادول» وهو مسكن متوسط التأثير يستخدم في التغلب على الآلام المزمنة.

وتضمنت بعض المؤتمرات الصحافية رسوما بيانية. في أحد المؤتمرات الصحافية، أظهر إبراهيم مقتطفات مصورة قال إن الثوار التقطوها بأنفسهم، تضمنت صفوفا من الجثث الملقاة على وجهها وسط برك من الدماء في أعقاب عمليات إعدام جماعية ورجل تم دفنه حيا. وأظهر أحد المقاطع صورة جندي تم إخراج أحشاؤه ووضع مخه - الذي بدا ضخما على نحو يثير الريبة - فوق دبابة للثوار حيث عمد أحد الأشخاص لسحقه بقدمه.

في الصباح، كان إبراهيم يقوم بدور مستشار المعسكر، حيث يتولى تنظيم رحلات ميدانية ويستخدم جهاز تكبير صوت بالفندق لاستدعاء الصحافيين من أجل القيام برحلة باستخدام حافلة حول العاصمة. وبعد تواتر تقارير حول إطلاق قوات القذافي النار على متظاهرين سلميين، اصطحب المراسلين إلى مستشفى بطرابلس، حيث حرص رجلان داخل المستشفى على إخبار الصحافيين بأنهما تعرضا لإطلاق النار عليهما من جانب قناصة مناهضة للقذافي من فوق أسطح منازل، لكنهما كانا الوحيدين هنا اللذين أشارا لوجود متظاهرين يحملون أسلحة. وبدأ طبيب في إحدى الزوايا في سرد قصة مختلفة حتى تسبب ظهور حراس أمن بملابس مدنية في إثارة الخوف بداخله وإجباره على الصمت.

وأخيرا، الثلاثاء، اصطحب إبراهيم الصحافيين الأجانب في اجتماع مع أحد مقاتلي «القاعدة» وتحدث إبراهيم بحماس قائلا: «لا أصدق أنني أجلس بجوار عضو في (القاعدة)»، مشيرا إلى صلاح أبو عوبة حيث كان يجلس على طاولة طويلة داخل قاعة اجتماعات وأحاطته كاميرات التلفزيون داخل مكتب التحقيقات الجنائية.

وتعذر التحقق من أي من عناصر القصة التي رواها أبو عوبة. لكن مثلما الحال مع الكثير من المناسبات الإعلامية المعدة سلفا، خرجت الخطوات عن مسار النص المقرر على نحو غير متوقع.

سرعان ما اتضح أنه ليس عضوا في «القاعدة» أو على صلة بها. وأشار إلى أنه عضو في «الجماعة الإسلامية الليبية للقتال»، وهي جماعة إسلامية محلية تبرأت من «القاعدة» منذ أمد بعيد.

وذكر أنه لم يشاهد الكثير من الإسلاميين أو المقاتلين الأجانب بين الثوار، ولم يتوقع إقامة دولة إسلامية في ليبيا، مبررا ذلك بأن غالبية الشعب الليبي لن تقبل بذلك. وأكد أنه انضم للثوار أملا في بناء حكومة أكثر انفتاحا وتعددية. وقال: «على الأقل سيكون لنا دور في مستقبل ليبيا».

وسرعان ما عاد الصحافيون الأجانب إلى الحافلة، من دون أن يجنوا مزيدا من المعلومات. لكن خلال مقابلة أجريت لاحقا، وصف إبراهيم التجربة مع الصحافيين الأجانب بأنها ناجحة. وقال: «نظام الإعلام لدينا في ليبيا قديم للغاية. ينبغي ربطه بباقي العالم وأن ينفتح. ليس لدينا ما نخشاه».

* خدمة «نيويورك تايمز»