الصحافة الاستقصائية.. المشي على حبل مشدود

الصحافية الروسية آنا بوليتوفسكايا كشفت عن الجانب المظلم في نظام بوتين

TT

كتبت آنا بوليتوفسكايا، الصحافية الروسية الشجاعة التي اغتيلت على يد مجهول في موسكو عام 2006، عن الجانب المظلم من نظام حكم فلاديمير بوتين المتمثل في الحرب الوحشية التي اندلعت في الشيشان والبلطجة والفساد المنتشر في البلاد وعدم استقلال القضاء و«سحر البيروقراطية الأسود» الذي يمكن أن يسمم أو ينهي الحياة في لحظة.

وكتبت آنا التي كانت أما لطفلين قبل أن تقتل عن عمر يناهز الثامنة والأربعين جملا تناسب موضوعها بلغة واضحة مباشرة تضم حقائق مريرة. وتصف في الكتاب الذي يضم مجموعة من مقالاتها في صحيفة «نوفايا غازيتا» الروسية، الذي يحمل عنوان «هل الصحافة تستحق الموت دونها؟»، شابة من الشيشان تجمع أشلاء مخ والدها «من فوق الجدران لتضعها في حقيبة لتدفنها». أحيانا يبدو هذا الكتاب دليلا يضم أهوالا استقصائية لا تناسب أصحاب القلوب الضعيفة.

يتنقل السرد في الكتاب بين عدة مستويات، أحدها خاص بالنظرة على حياة الكاتبة إذا كانت تعمل في زمان ومكان مختلفين. إن دفئها وإنسانيتها يفيضان على هوامش الكتاب وهي تصف الأهوال التي رأتها بشكل مقبول.

فعلى سبيل المثال؛ خلال رحلة لها إلى باريس قابلت ناشرا اسمه روبرت لافونت، وأعجبت بذلك الاسم وشعرت أنه مثل أسماء فلاديمير نابوكوف. وبعد ملاحظتها للزوجين الأرجنتينيين اللذين يرقصان «التانغو»، أصدرت حكما صارما خاصا بالرومانسية في بلدها قائلة: «إن الحب على الطريقة الروسية هو رحلة بين نقطتين. إن العيش مع كلبك المفضل لهو مثل (تقطير وريدي للحب) خصوصا إذا كان الكلب مارتين قد تعلم حمايتك من الخصوم».

ويقدم كتاب «هل الصحافة تستحق الموت دونها؟» شهادة معنوية ولا يحتوي على الكثير من اللحظات المشرقة، لكن يمكنك انتقاء هذه اللحظات لتكون دليلك في الطرقات المظلمة.

كتبت آنا خلال حياتها العملية عدة كتب، منها «ركن صغير من الجحيم: رسائل من الشيشان» الذي نشر عام 2003 و«روسيا في عهد بوتين» الذي نشر عام 2005 و«يوميات روسية» الذي نشر عام 2007. لكن هذا الكتاب الأخير الذي بين أيدينا اليوم نشر للمرة الأولى العام الماضي في بريطانيا بعنوان «لا شيء سوى الحقيقة». العنوان الفرعي لهذه الطبعة هو «رسائل مختارة» وهو أكثر قدرة على التعبير عن مضمون الكتاب من «رسائل أخيرة» الذي ظهر على غلاف الطبعة الأميركية. ويحتوي الكتاب بالفعل على بعض الأعمال الأخيرة لآنا، ومنها المواضيع الاستقصائية التي من المرجح أنها كانت السبب المباشر في قتلها، لكن الجزء الأكبر من محتوى الكتاب هو مقالات كتبتها خلال الـ6 سنوات الأخيرة من حياتها. وقام أرك تيت بترجمة الكتاب بمهارة، بحيث إنه يبدو كما لو كان مكتوبا بالإنجليزية. ويغيب عن الكتاب مقال يقدم سيرة الكاتبة لتعريف القارئ بحياتها وأعمالها ولوضع هذه المقالات في سياقها. لكن كل هذا لا يقلل من شأن الكتاب الذي يمثل توثيقا حزينا لبطولة صحافية. يبدأ الكتاب بمقال وُجد على جهاز الكومبيوتر الخاص بآنا بوليتوفسكايا بعد موتها. وتستهل آنا المقال بتعريف كلمة «كوفيرني» التي ترادف كلمة «مهرج»، وتصف جيلا من الصحافيين الروسيين بأنهم «نخبة من المهرجين وظيفتهم التسرية عن الجمهور» وتمجيد الوضع الراهن.

لم يكن الصحافيون الذين رفضوا الخضوع منبوذين تماما، لكنهم كانوا يتعرضون مثلها إلى «القتل بالسم أو الاعتقال أو تلقي رسائل تهديد على بريدهم الإلكتروني وعبر الهاتف». ونفت أن يجد القارئ ما يبحث عنه من فضائح هنا، حيث كتبت: «ربما يعتقد البعض أن هذا عمل جواسيس.. على الإطلاق؛ فأنا أكره هذا النمط من الحياة».

وتبدأ رسائل آنا من الشيشان بثلاث كلمات هي «هذه قصص فظيعة». فقد وصفت الحرب باعتبارها «حرب إبادة جماعية»، ووثقت الإعدام الجماعي وحوادث الاغتصاب ونزع فروة الرأس وحرق النساء والرجال وهم أحياء والضغط على خصى الرجال والصدمات الكهربائية وسحق الأصابع بين الباب والحلق. وعندما تجدها تشير إلى أنها لم تذكر بعض وسائل التعذيب نظرا «لشدة فظاعتها التي تدل على أمراض نفسية»، فلك أن تتخيل إذن مدى قسوة هذه الوسائل.

لقد كانت آنا تنحاز إلى الحقائق وتعتقد أن الحقيقة يمكنها أن تحرر البشر أو البلاد. وبعد حادثة اختطافها بدأت آنا تقوم بعمل تحريات لم يكن المدعون العموم الروس ليقومون بها، فقد أخذت تبحث عن أسماء وأرقام.

انظر إلى البلاغة والفصاحة اللاذعة في قولها: «إنهم لا يريدون أن يعرفوا على سبيل المثال رقم بطاقة تعريف حاملة الجنود المدرعة التي تم اختطاف أمكانوف وإسيغوف بواسطتها دون حتى الاطلاع على جوازات سفرهما. لقد كان رقمها (4052). ولم يرغبوا في معرفة إشارة بث المركبة وهي (88) أو إشارة الضابط الذي أصدر إليهم الأمر إنه (12). وكان رقم شاحنة الجيش (KSh1003 O). إنها قامت بكل شيء باستثناء القبض على الجناة ووضع الأغلال في أيديهم».

إن السخرية القاتمة تتسرب عبر الكتاب. فقد عرضت منح «جائزة الحرب» لمن ارتكب أكبر عدد من الذنوب في الشيشان. وعندما فُقدت بعض الوثائق الهامة من مكتب المدعي العام الروسي أخذت تقول: «مفاجأة.. مفاجأة» في إشارة إلى أن نسخ صحيفتها لم تُفقد.

لقد كانت قادرة على إدراك المفارقات السوريالية، حيث قالت عن قائد عسكري فظ: «ربما أطلق الرصاص على شخص ما، لكنني لا أراه يلكم أحدا في وجهه». إن عباراتها تبقى في العقل. وقالت عن قائد عسكري آخر: «في وقت إدارة عملية الاختطاف، كان يمد يديه إلى الأمام كما فعل لينين على السيارة المدرعة في فنلندا عام 1917».

وقدمت التصنيف التالي عن التاريخ الروسي الحديث: «اتسم عهد بريجينيف بجنون الانتقاد. وكان شعار عهد يلتسين: فكّر على مستوى عال لتحصل على الكثير.

أما تحت حكم بوتين نحن نعيش عهد الجبن». وتم قتل آنا بوليتوفسكايا في عيد ميلاد بوتين الموافق 7 أكتوبر (تشرين الأول).

* خدمة «نيويورك تايمز»