«صحافة المواطن».. محرك إعلام الثورات العربية المغلقة

في ظل التعتيم والحظر المفروضين من الحكومات والأنظمة

TT

إذا كانت الثورات العربية الأخيرة ولدت من رحم مواقع التواصل الاجتماعي الإلكترونية، فإن التغطية الإعلامية لهذه الثورات قلبت مقاييس الإعلام العربي بعدما غزته «صحافة المواطن» بالصوت والصورة، ضاربة بعرض الحائط كل محاولات القمع والتعتيم التي تنتهجها أنظمة هذه الشعوب. وبالتالي فإن هذا المواطن الذي يقود الثورة على الأرض ومن ورائها على الصفحات الإلكترونية، يشكل في الوقت نفسه مصدرا أساسيا للإعلام الذي صدت أمامه المصادر التقليدية وتحولت «صحافة المواطن» إلى المادة الأساسية التي يعتمد عليها في نقل معظم مجريات الثورات.

وهذا الواقع يبدو جليا في التغطية الإعلامية للثورات العربية وحجم الجهود التي تبذلها وسائل الإعلام في البحث وراء الأخبار التي تخضع لـ«رقابة شرسة»، واصطياد قدر الإمكان ما تشفي غليل الصحافي الذي يبقى دائما متلهفا لخبر من هنا ومعلومة من هناك تنقل ما يجري خلف أسوار «الثورات المغلقة». وبالتالي، تحولت «صحافة المواطن» التي تعتمد على كل أنواع وسائل الاتصال، بدءا من كاميرا الهاتف الجوال وصولا إلى المواقع الإلكترونية والصفحات الخاصة وتقارير شهود العيان الصوتية... إلى الخبز اليومي للإعلام الذي يعيش ما يمكن تسميته عصر «الاندماج الإعلامي».

وفي هذا الإطار، تقول الدكتورة ماجدة أبو فاضل «إن صحافة المواطن تحولت إلى أداة مهمة لإيصال المعلومة في غياب الإعلام التقليدي والتعتيم الإعلامي ومنع الصحافيين من التغطية على أرض الثورات». لافتة إلى أن ما صار يعرف بـ«صحافة المواطن» التي تقدمت إلى الواجهة في تغطية الثورات العربية أثبتت موقعها في الإعلام الغربي كمرادف أو كبديل في بعض الأحيان عن الإعلام التقليدي. وعن نظرة البعض إلى هذا المصدر على اعتبار أنه يفتقد إلى المصداقية ويبعد الوسيلة الإعلامية عن السياق الاحترافي الذي يفترض أن تتمتع به، تقول «هذا مفهوم خاطئ وتعميم يفتقد إلى الإنصاف، وعلى العكس من ذلك، فهو قد يتمتع بمصداقية أكثر من الإعلام التقليدي، والدليل على ذلك أن صور الفيديو التي نقلت عبر شاشات التلفزيون عن التسونامي في اليابان لم تكن ليشاهدها العالم لو لم يصورها المواطنون الموجودون هناك، والأمر نفسه ينطبق على الثورات في تونس وليبيا والبحرين وسورية».

وعن دور «صحافة المواطن» في الكواليس الإعلامية وأهميتها في تغطية هذه الثورات، تلفت الصحافية في قناة «بي بي سي» عربي، نجلاء أبو مرعي إلى أن هذا المصدر ليس وحيدا أو دائما في تغطية الأحداث بل إن الاعتماد عليه يعود لأسباب أساسية أهمها، التعتيم أو الحظر الإعلامي الذي تمارسه الأنظمة في الدول التي تجري فيها الأحداث. وتقول لـ«الشرق الأوسط»: «حينما يلقى القبض على مراسلين ويضربون ويمنع آخرون من العمل وتكون الرقابة مشددة إلى حد أن المراسل إما أن ينقل ما ينقله التلفزيون الرسمي في البلد المعني أو يعاقب، يصبح من البديهي أن يفضل المراسل عدم إرسال خبر يتنافى مع المعايير المهنية ومع واقعية الحدث وسياقه. وبما أن هذا الحظر الإعلامي يمارس أيضا على الوكالات الأجنبية التي تزود الوسائل الإعلامية بالمادة الخبرية الخام، يصبح طبيعيا وجائزا البحث عن مصادر أخرى. وهنا، تصبح حسابات (تويتر) و(فيس بوك) التابعة لناشطين وحقوقيين ومواطنين ومدوناتهم مصدرا للمعلومة التي يجري التدقيق بها قبل بثها طبعا، كما هي الحال بالنسبة إلى الصورة التي تعتبر بمثابة الدم لأي محطة تلفزيونية».

ومن جهة أخرى، تعتبر أبو فاضل أن مواقع التواصل الاجتماعي، لا سيما منها «تويتر» تلعب دور وكالة أنباء عالمية يديرها مراسلون مواطنون ينقلون الخبر والتطورات في ثوان معدودة. وتقول «مع العلم أنه وفي الوقت عينه عندما تتقاطع معلومة واحدة على صفحات عشرات أو حتى المئات من المواطنين المشاركين في الموقع فلا بد عندها أن تكتسب مصداقية قد تفتقد إليها وسائل إعلام تقليدية ترتبط سياستها بأجندات خارجية، جعلتها في أحيان كثيرة تنقل أخبارا كاذبة».

وعن دور الصحافي في تعامله مع مصداقية «صحافة المواطن» تقول أبو فاضل «قد تتغير الأدوات والتقنيات لكن القواعد الصحافية تبقى نفسها. سلاح الصحافي في هذه الحالة هو المنطق والدقة في نقل المعلومة والتأكد من مصادر عدة قبل بث الخبر». وفي حين لا تنفي أبو فاضل احتمال التشكيك في بعض ما يقوله شهود العيان عبر الاتصالات الهاتفية، وإن بدرجة قليلة، تشدد على ضرورة أن يوسع الصحافي دائرة مصادره والاستناد إلى المعلومات التي تنشرها المنظمات الإنسانية الدولية التي تكون موجودة على الأرض.

وعن هذه المهمة، تقول أبو مرعي «لكل صحافي شبكة من العلاقات، وهي طبعا مستخدمة للوصول إلى أشخاص ذوي مصداقية منكبين على ممارسة ما يسمى صحافة المواطن. ولذا فإن الصحافي الموجود في غرفة التحرير البعيد عن مكان الحدث يصبح أمام مهمة جمع المعلومة الخام من خلال هذه الشبكة، فهو متى رصد عبر (تويتر) أو غيره معلومة ما، يبدأ بتعقبها، وهذا يعتمد على الحس المهني للصحافي وأيضا مدى اتصاله المباشر ومعرفته بمراسل المعلومة أحيانا، ليبدأ بما نسميه التحقق من تطابق المعلومة عبر أكثر من مصدر»، لافتة إلى دور الناشطين الحقوقيين أو الناشطين في هذه التحركات العربية الذين هم ناشطون إلكترونيا وأصبحوا نتيجة ذلك وجوها نشاهدها أو نسمع تعليقاتهم على الشاشات، فبالتالي لم يعد المدون أو مستخدم «تويتر» شخصا افتراضيا إلى الحد الذي يعتقده البعض. بل هم مسؤولون عن المعلومة التي يقدمونها كأي مسؤول رسمي أو غير رسمي. وفيما يتعلق بالتشكيك بمصداقية «شهود العيان» الذين يرفضون الإفصاح عن هويتهم، تعتبر أبو مرعي أن الأمر غير دقيق، ذلك أن الشخص الذي يخشى على حياته في بلد يتعرض فيه المعترضون إلى العنف بدءا من الاعتقال إلى التعذيب والقتل، من حقه أن يبقي هويته مجهولة للعموم. وتضيف «لا بد من الإشارة إلى أنه أيضا يجري التحقق من صدقية المتصلين، والتأكد من مجموعة من العوامل منها وجود الشخص في المكان وتماسك الرواية وغيرها من الأسئلة التي يطرحها أي مراسل على أي شخص قد يأخذ منه تعليقا على انفجار وقع في مكان ما وكان عليه شاهدا. مع العلم أننا لا نغفل التوازن والموضوعية في العمل، ونحرص دائما على أن يكون هناك مسؤولون رسميون أو مقربون من النظام بصرف النظر عن الدولة المعنية، للتعليق والتوضيح».

وعن الدور الأبرز لصحافة المواطن الذي لعبته في تغطية أخبار الثورات العربية الأخيرة من تونس مرورا بمصر وليبيا وصولا إلى سورية والبحرين واليمن، تشير أبو مرعي إلى أن موقع «يوتيوب» في ثورة تونس كان أساسيا في الحصول على الصورة رغم أن الثورة لم تنطلق إلكترونيا، لكن لاحقا وقبل السماح للمراسلين بالدخول كان هناك دور للناشطين على «تويتر» والمدونين، وبالتالي كان ذلك مفيدا. وفي مصر، رغم أن الدعوات كانت عبر «فيس بوك» و«تويتر»، حتى إنه كاد يطلق عليها ثورة الـ«فيس بوك»، فإن التعتيم الإعلامي لم يكن موجودا كما نراه في دول أخرى كسورية، فهجوم الجمال على المتظاهرين مثلا كان مباشرة على الهواء.

وليس بعيدا عن أرض الواقع الصحافي في خضم الثورات الأخيرة، لا ينفي المصور الصحافي في قناة «الجزيرة» الإنجليزية مازن هاشم أهمية دور المواطن الذي بدا واضحا في نقل وقائع أحداث الثورات العربية. وعن تجربته أثناء وجوده على الحدود المصرية - الليبية، في الأيام الأخيرة للثورة المصرية وبدء الثورة الليبية، يقول «واقع العمل في أحداث كهذه ليس بالأمر السهل، لا سيما في وضع يكون فيه الصحافي مستهدفا وممنوعا عليه من دخول أرض الحدث، وبالتالي فإن امتلاك الثوار والمواطنين لآلات تصوير وهواتف كان له دور مساعد بل أساسي في بعض الأحيان في حصولنا على الأفلام المصورة التي كنا نعمد إلى نقلها مباشرة من كاميراتهم وهواتفهم للحفاظ قدر الإمكان على نوعية الصورة ووضوحها». ويضيف «خلال وجودنا على الحدود الليبية - المصرية كان الثوار الليبيون يأتون إلينا يوميا لإعطائنا ما لديهم من مشاهد مصورة ونقوم في ما بعد بنقلها على الشاشة في غياب أي حل أو وسيلة أخرى. وفي مصر، أيضا توطدت علاقتنا مع الثوار المصريين، وصاروا أصدقاء لنا على صفحات التواصل الاجتماعي، وكنا نترقب نشاطاتهم باستمرار، ونعمد إلى الاتصال بهم عند تنزيلهم لأي فيديو مهم للحصول عليه وبثه». ويلفت هاشم إلى أن أحد المصريين الذي يقطنون في شقة تطل مباشرة على ميدان التحرير أصبح صديقا لعدد كبير من الصحافيين الذين صاروا يقصدونه يوميا للحصول على ما التقطته كاميرته من أرض الثورة.

وعن تأثير «صحافة المواطن» على موقع الوسائل الإعلامية الأخرى في المستقبل ودورها، تعتبر أبو فاضل أن صحافة المواطن لم ولن تلغي الإعلام التقليدي، بل ستكون المكمل لدوره والدليل على ذلك أن كلا من الإذاعة والتلفزيون والصحيفة والإنترنت لم يؤثر أحدها على موقع الآخر بل على العكس من ذلك تحول الواقع الإعلامي إلى ما يمكن تسميته «الإعلام المندمج الشامل»، وتعتبر أبو مرعي أن الاتجاه هو للتكامل ولجيل جديد وثقافة أكثر تقدما وعصرية للعمل الصحافي، لا سيما أن الناشط المعارض ومستخدم «تويتر» أو المدون بات كما الكاتب الصحافي في الجريدة، يستضاف في المحطات التلفزيونية للوقوف على رأيه والتعليق على حدث ما بعدما صار لمصداقيته معيار.