الحرب في الحياة والموت

المصوران تيم هزيرنغتون وكريس هوندروس قتلا الأسبوع قبل الماضي في مدينة مصراتة الليبية

TT

كان تيم هزيرنغتون مصورا فوتوغرافيا بكل ما تحمله الكلمة من معنى. كان طويلا ووسيما ومتواضعا ويتحدث بلكنة بريطانية تبدو وكأنها مقتبسة من إحدى روايات غراهام غرين. عندما التقيته الصيف الماضي كان قد أتم الفيلم الوثائقي الذي رشح لجائزة الأوسكار «ريستريبو» الذي شارك في إخراجه والذي يتناول جنودا أميركيين يحاربون في وادي كورينغال بأفغانستان.

كان هذا الموضوع الذي اعتقد أنه كان بحاجة إلى مزيد من التحقيق من بين كل التغطية للحرب الأميركية في تلك المنطقة. وقال عن صناعة هذا الفيلم: «إذا لم نكن هناك نصور وننقل الأخبار كان سيبدو ذلك كأنه لم يحدث». أثناء حياته انكسرت رجله خلال إطلاق نار على الوحدة وأخذ يمشي أربع ساعات برجل عرجاء.

وقال وهو يبتسم وينظر إلى الندبة التي خلفها الجرح: «لم تكن أمسية جيدة للغاية». وبدا مثل سوبرمان ورجل لا يقهر. لكن لم يكن ذلك صحيحا، فقد قتل الأسبوع الماضي في مدينة مصراتة الليبية في اليوم نفسه الذي قتل فيه مصور فوتوغرافي آخر هو كريس هوندروس وأصيب اثنان آخران هما غاي مارتين وكريس براون.

ولأننا ننتمي للمجال نفسه، التقيت بالرجلين. وحصل هوندروس، الذي كان يفضل ارتداء سترة صوفية بها رقعتان على المرفقين مهما كان ارتفاع درجة حرارة الجو، على جائزة كمصور لـ«غيتي» غطى أحداث العراق خلال سبع جولات والضفة الغربية وسيراليون وكوسوفو وأفغانستان. كان كذلك من محبي حضور عروض الأوبرا والشطرنج، ولم تكن سماته الشخصية توحي بأنه سيصبح مراسلا حربيا جريئا يوما ما.

ومن بين الصور التي التقطها صورة لفتاة عراقية صغيرة ملابسها ملطخة بدماء والديها المقتولين بعد فشلهما في الاختباء من الطلقات التحذيرية عند نقطة تفتيش أميركية عام 2005. وعبّرت هذه الصورة عن ضريبة الحرب وثمنها الباهظ.

وفي ربيع 2008، تحدثت مع كريس عن سبب عودته دائما إلى العراق رغم أن أمد الحرب قد طال ولم يعد أحد يهتم بها. فقال رغم إقراره بخوفه من عواقب العودة: «لا يمكن أن تتصور الأمر ما لم يحدث أمامك. إن الأمر يزداد سوءا».

وقد عاد على أي حال. لقد كان تيم وكريس رجلين مختلفين توفيا لأنه كانت هناك صفات مشتركة تجمعهما، فكل منهما كان يفكر في مدى أهمية أن يثبت الأمر من خلال وجوده والتقاط صور توضح معاناة البشر ونشرها أمام العالم.

إنها حقا لخسارة فادحة تشبه إلى حد ما حادث تحطم المروحية الذي حدث عام 1968 في لاوس وراح ضحيته لاري بوروز وهنري هويت وكينت بوتر وكيسابورو شيماموتو وهم من أفضل أربعة مصورين صحافيين في جيلهم.

لقد توفي الكثيرون خلال الحروب الأخيرة التي قام الاثنان بتغطيتها وينبغي ألا نقع في الخطأ الصحافي الشائع وهو إعطاء وفاة تيم وكريس أهمية أكبر من وفاة الآخرين. لكن بغض النظر عن الخسارة التي يشعر بها أفراد أسرهم وأصدقاؤهم، هناك خسارة مجتمعية تتمثل في مقتل صحافيين من الأكفاء. خفضّت أكثر المؤسسات الإخبارية من عدد العاملين لديها وأغلقت الكثير من مكاتبها في الخارج.

لقد دخل تيم هذا المجال من منطلق اهتمامه بحقوق الإنسان، فقد عمل في السابق كمحقق تابع للأمم المتحدة يوثق النهب في غرب أفريقيا. قال سباستيان جانغر، المراسل الحربي والمشارك في إخراج فيلم «ريستريبو» إنه بعد كل الذي منح للفيلم، ظل تيم يشعر بدافع نحو السفر إلى ليبيا لتغطية أحداث الثورة التي بدت أنها تجد صعوبة في العثور على طريقها. وقال جانغر: «يملأنا جميعا الطموح. لقد كان منتشيا بربيع الثورات العربية بحيث رأى احتمال تحسن الوضع قتال حامي الوطيس. لقد ذهب إلى هناك حتى يرى ذلك يتحقق». وأضاف: «أراد تيم أن يغير العالم، لكنه أراد أن يغيره العالم أيضا».

وتم ترشيح كريس لنيل جائزة البوليتزر عام 2004 لعمله في ليبيا وحصل على ميدالية «روبرت كابا» الذهبية، التي يمنحها النادي الأميركي للصحافة العالمية، عام 2006 عن أفضل تقرير خبري بالصور الفوتوغرافية من الخارج يتطلب شجاعة استثنائية ومشروع. لكن كان الناس الذين ظهروا في صوره أكثر من مجرد موضوعات. بعد انتهاء الصراع في ليبريا، عثر على القائد العسكري الذي ظهر في إحدى صوره ودفع له مصاريف تعليمية حتى يعمل في مجال آخر غير الحرب.

لقد كانا يتمتعان بروح المغامرة، لكن لم يكونا بالشجاعة التي عادة ما يتم تصوير مصوري الحرب بها في الأفلام. عندما سألت تيم كيف ظل يسير ورجله مكسورة وقال: «لم يكن هناك الكثير من الخيارات المتاحة آنذاك لأنني لا أريد أن أكون الشخص الذي يوقف فصيلة ويعرض حياة الآخرين إلى الخطر».

وأوضح تيم في «ريستريبو» أن الرقيب بريندان بايرن كان أحد الجنود وكان يقوم بعمله أو لنقل عملنا لأننا من أرسلناهم إلى أفغانستان لشن حرب هناك.

وقال في مكالمة هاتفية: «لقد كان تيم يجيد أداء وظيفته، فقد كان من النوع الذي لا يرتكب أي أخطاء، لكنك لا تستطيع الاختباء من الحظ التعس. فقد بدا وكأن الرصاصات والمدفعية تنتقي أفضل الناس. إن مجرد التفكير في الأمر يقودني إلى حافة الجنون».

رغم أن المجموعة الحالية من مصوري الحرب الأميركيين لا تزال حية، عرفت المدفعية والطلقات النارية الطريق إلى الكثير من الصحافيين خلال السنوات الأخيرة الماضية. وبعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) 2001، أصبحت تجارة الحرب أكثر رواجا وكان كل من يحمل آلة تصوير لا سلاحا في ساحة المعركة يلقى جزاء داميا. فقد قتل في العراق وحدها 36 صحافيا منذ عام 2003.

وحتى مع تغير طبيعة الحرب التي أصبحت في بعض الحالات تدار عن بعد، لم تتغير وظيفة تغطية أحداث الحرب. ويمكن توجيه القذائف الصاروخية عن بعد والطائرات عن طريق عصا تحكم، لكن يظل على الصحافيين الذهاب ومشاهدة موقع سقوط القنابل.

أصبحت المعلومات تنتشر بوسائل كثيرة منها موقع «فيس بوك» و«تويتر» والمقاطع المصورة التي ترسل عن طريق الهاتف الجوال، لكن لا يوجد ما يضاهي عمل الصحافي التقليدي.

يقول مايكل كامبر، أحد مصوري الحروب القدامى لدى صحيفة «نيويورك تايمز»: «لا توجد ماكينة تستطيع القيام بذلك لأن جوهر هذا العمل هو محاولة رصد الجانب الإنساني مما يحدث. إنك بحاجة إلى شخص لا يتحلى بالشجاعة فحسب، بل بالتعاطف الذي يجعله يلتقط صورا تساعد الآخرين على فهم الوضع».

بعد ما سمعته من أخبار خلال الأسبوع الماضي، اتصلت بجاو سيلفا، أحد المصورين الصحافيين لدى صحيفة «نيويورك تايمز». الخريف الماضي فقد رجليه الاثنتين في انفجار قنبلة بدائية الصنع في جنوب أفغانستان ولا يزال يتلقى العلاج في مستشفى «والتر ريد»، حيث يخضع لعديد من العمليات الجراحية.

وقال سيلفا الذي يريد العودة إلى ميدان المعركة بمجرد تماثله للشفاء: «إن أول رد فعل هو وضع آلة التصوير جانبا بسبب ما حدث لهم، لكنني لا أعتقد أن هذا أمر صائب. بالتأكيد ما كان تيم وكريس ليريدا منا أن نبتعد ونخلف فراغا».

*خدمة «نيويورك تايمز»