«صحافة السجون» تكتسب وجها جديدا

تشهد انحسارا مع تزايد الطابع العنيف للسجناء منذ ثمانينات القرن الماضي

الطابع العنيف للسجناء اضعف ظهور صحافة السجون («واشنطن بوست»)
TT

جلس كالفرت بورتر خلف مكتب مذيع الربط، وانهمك في تعديل وضع ياقة قميصه، بينما عكف زميله المذيع كيث ويليامز على قراءة النص الخاص به.

وسأل بورتر: «هل ترغب في تفحص أجهزة الصوت؟».

أجاب المصور: «لا داعي. كل شيء على ما يرام».

وسأل بورتر: «هل ترغب في أن أبدأ بممازحة خفيفة؟».

ودخل المذيعان في دردشة حول كرة القدم لبضع دقائق، ثم أخبرا المصور بالبدء في تشغيل الكاميرا، وانطلق ويليامز قائلا: «أهلا أعزائي وشكرا لكم على اهتمامكم».

بورتر مدان بجريمة اغتصاب، وويليامز مدان بسطو مسلح، أما جمهورهما فيقدر بـ2000 شخص تقريبا من القتلة والمغتصبين واللصوص والمزورين وسارقي السيارات داخل سجن هيجرزتاون. أما هدفهما فكان شبيها بهدف المذيعة الشهيرة ديان سويرز، وهو إطلاع المشاهدين على ما لا يعرفونه من أخبار. وبالنظر إلى المكان الذي يعملان منه، تتسم معظم الأنباء التي يعرضانها بطابع محلي.

وقال ويليامز: «لدينا حقائق مثيرة للغاية سنعرضها عليكم»، بينما تردد صوته بين جدران القبو الذي تم تعديله ليتحول إلى صالة تحرير.

وتعد هذه النشرة الإخبارية داخل «مركز ماريلاند للتدريب التأهيلي» واحدة من عدة برامج مشابهة يجري تنفيذها داخل سجون الولاية، ويعتقد خبراء أن مثل هذه الجهود قد لا يكون لها نظير على مستوى الولايات المتحدة. وتضيف هذه النشرات الإخبارية طابعا عصريا لتقليد صحافة السجون التي تعود إلى القرن التاسع عشر، عندما اشتهرت عصابة جيسي غانغ بأمور كثيرة، منها أن تضم مجموعة من الأسماء البارزة بالمجال الصحافي التي تعرضت للسجن.

هذه الأيام، تشهد صحافة السجون انحسارا أو تكاد تكون اختفت كلية، حيث عجزت عن البقاء مع تزايد الطابع العنيف للسجناء منذ ثمانينات القرن الماضي، مما أجبر الكثير من النشاطات الصحافية بالسجون على التوقف، وخلق بيئات أكثر صرامة وتقيدا بالسجون. إضافة إلى ذلك، شهدت التكاليف ارتفاعا هائلا، مع انحسار مصادر التمويل.

ويعتقد خبراء أن البث التلفزيوني قد يوفر حلا رخيصا للولايات التي تعاني نقصا في المال، التي تحمل على عاتقها ميزانيات ضخمة للإصلاح والتأهيل. ولا شك أن التمتع بمنفذ يمكن من خلاله تسجيل والتشارك في المعلومات، حتى بين المسجونين، يشكل حاجة أولية، بل وحقا أساسيا.

عن ذلك، قال المؤرخ جيمس مكغارث موريس، الذي ألف كتابا حول صحافة السجون، إنه «يجري وضع بضعة آلاف من الأفراد معا، وبالتالي يصبح لدينا مجتمع صغير. وأي مجتمع بحاجة لتسجيل أفعاله. في القرن الحادي والعشرين، تجد نفسك أمام خيارين: إما إنشاء مدونة أو محطة تلفزيونية».

نظرا لأن خدمة الإنترنت ممنوعة داخل سجون ماريلاند، اتخذ سجناء منذ سنوات قليلة ماضية طريق الصحافيين التلفزيونيين البارزين؛ مات لوير وكاتي كوريك وبوب كوستاس، وشجع مسؤولو السجون النشرات الإخبارية المسجلة لتوفير أموال طبع آلاف النشرات الإخبارية المكتوبة شهريا.

ويجري تسجيل النشرات الإخبارية باستخدام كاميرات فيديو شخصية كتلك التي يستخدمها السائحون في رحلاتهم.

وتضم النشرات الإخبارية المسجلة فقرات تتناول حقوق الضحايا والرياضة وقواعد السجن والصحة والدين والمحادثات الهاتفية والكتب والقرارات القانونية وصالة الطعام والرسم بالألوان المائية. وتذاع بعض البرامج باللغة الإسبانية. ويدور التركيز حول توفير طابع تعليمي وإيجابي، وكشف حقيقة الشائعات، أينما أمكن، التي من شأنها إثارة توترات مع حرس السجن.

ومن بين الأقسام الأخرى التي تحظى بشعبية كبيرة في هذه النشرات: «الحياة لمن يعيشونها».

ويجري بث النشرات الإخبارية، بموافقة رئيس السجن، إلى زنزانات المساجين حيث يشاهدون البث عبر أجهزة تلفزيون (يذكر أن التلفزيونات مسموح بها داخل معظم السجون التابعة لولايات، لكن ليس داخل السجون الفيدرالية). وعادة ما تبث نشرة إخبارية واحدة عند نهاية الأسبوع، لكن يبقى بإمكان المذيعين بث أخرى في منتصف الأسبوع حال توافر أنباء تستحق ذلك. أما معدلات إعجاب المشاهدين، على الرغم من أنه لا يجري قياسها على نحو علمي، فتتركز النسب الأعلى منها في البرامج الرياضية والمسلسلات التلفزيونية.

وقال ويليامز: «إننا نعيش في عصر معلوماتي، ومسألة عدم الاطلاع على المعلومات المناسبة قد يكون أمرا مثيرا للإحباط. يملك الجميع تلفزيونات، لذا فإنها تمثل وسيلة عملية للحصول على معلومات».

يجلس كل من بورتر وويليامز، وكلاهما يقضي فترة عقوبة سجن لمدة 40 عاما، على مقعدين يصدران صوت صرير ومغطيان بمشمع مهترئ، ومع ذلك لا يزال المقعدان محتفظين بلمعانهما. وتتسرب أشعة الشمس إلى داخل الاستوديو عبر نافذة صغيرة يمكن من خلالها مشاهدة المسجونين وهم في طريقهم إلى الفصول التعليمية، أو لإصلاح سيارات أو لزيارة المكتبة، أو أي مكان بخلاف جانب السور الذي يجري من عنده بث النشرة الإخبارية.

هذا اليوم، كان من أهم الأخبار التي يجري إذاعتها الإعلان عن طراز جديد من «آي فون»، وتوافر أجهزة تحويل رقمية يمكن تشغيلها على التلفزيونات الخاصة بالسجناء، يمكن للسجناء شراؤها مقابل 45 دولارا لزيادة عدد القنوات المتوافرة لديهم من 12 إلى نحو 45.

وقبل أن يكشفا مزيدا من المعلومات عن أجهزة التحويل الرقمي، طبق المذيعان ما تعلماه عن فن إثارة اهتمام وفضول الآخر؛ حيث تحدثا لبضع دقائق عن فعاليات شهر تعزيز وعي ضحايا الجرائم، منوهين بقرب إذاعة تغطية لزيارة أحد ضحايا الجرائم للسجن مؤخرا.

عن ذلك، قال ويليامز: «أعتقد أن هذه الفقرة كانت مؤثرة للغاية».

وقال بورتر: «إن هذا البرنامج يطلعنا على وجهة نظر جديدة بخصوص معاناة الضحايا».

وأضاف ويليامز: «لقد ظهرت كلمة تسامح في السياق كثيرا».

وأوضح المذيعان أن السجناء يحبون التصرف على نحو يجعلهم يبدون أشداء ويتظاهرون بأنهم لا يأبهون بما اقترفوه، لكن المقابلات المصورة مع الضحايا غالبا ما تدفع السجناء للاعتراف أمامهما باعترافات من قبيل «لقد بدل هذا المشهد قلبي».

وكان لتغطية الأنباء تأثير مشابه على المذيعين؛ حيث قلص غلظة قلبيهما وأثار لديهما اهتماما ببناء مجتمع إيجابي، وعلمهما احترام الحقيقة.

وعلى الرغم من أنه ليس هناك حارس سجن يولي ثقته الكاملة سجينا، يعتبر بورتر وويليامز سجينين نموذجيين، الأمر الذي جعلهما مرشحين للعمل مذيعين. يذكر أن بورتر (48 عاما) ولد في بالتيمور ونال الكثير من الشهادات العلمية أثناء وجوده في السجن، وعمل أغلب الوقت في جمع أموال من أجل ضحايا ومنظمات خيرية. أما ويليامز فينتمي لجنوب شرقي واشنطن وله نشاط كبير في خدمة كنائس السجن. ويتطوع كلاهما بالوقت الذي يقضيانه في إذاعة النشرة الإخبارية، ويكسبان يوميا بضعة دولارات عبر وظائف أخرى يقومان بها داخل السجن.

وعلق بورتر على ذلك بقوله: «هذا يساعد على التحلي بالإبداع على نحو صالح. من قبل، كنت مبدعا لكن على نحو شرير». يذكر أن مهمة بورتر اليومية تنظيف آثار الدماء التي تخلفها المشاجرات بين السجناء.

وقال ويليامز: «كيف يمكنني العمل كجزء إيجابي مما يدور داخل مجتمعي؟ لقد ارتكبت جريمة، وهذا ما أرسلني إلى هنا. وأرغب في قضاء مدة عقوبتي كي أكفر عن جريمتي، وأود بعدها العودة إلى المجتمع وفعل شيء إيجابي. ويبدأ الإنتاج من هنا، والآن هذا هو الوقت الأمثل لبدء العمل، لا أود الانتظار حتى الخروج من السجن».

الملاحظ أن بورتر وويليامز يجري التعامل معهما باحترام وتبجيل بالغين داخل السجن. وقد دخلا في التنافس مع مذيعين من سجون أخرى، على الرغم من أن كل الأطراف لم تطلع على عمل الأخرى.

ومع اقتراب الفترة المسموح للسجناء خلالها بطلب أقمشة وملابس جديدة، حرص بورتر على تذكير المشاهدين بالعناصر الرئيسية: ملاءتين للسرير، وغطاءين للوسائد، وبطانية وست قطع من ملابس داخلية وستة قمصان وستة أزواج من الجوارب وسترة رمادية اللون وقطعة واحدة من ملابس تحتية طويلة وزوج من أحذية العمل وزوج من السراويل القصيرة (رمادي اللون) وطاقية رياضية وزوجين من سراويل جينز.

ونبه بورتر المشاهدين بقوله: «احرص على ارتداء حذاءك الرياضي كي تتمكن من المشاركة في الماراثون المخصص لصالح مرضى السرطان»، في إشارة لحدث خيري سيقام قريبا.

وأضاف: «أيضا كي تضمن فتح شهيتك لقائمة الغداء التي يتقدم خلال الحدث، وتتألف من همبرغر وهوت دوغ وجبن وخس وطماطم وبصل ومعكرونة وحلوى».

ويحرص المذيعان على التمتع بحياتيهما، ويمزحان كثيرا معا.

وقال بورتر بعد انتهائه من عمله: «نحن نرحب بعمل هذا الأمر مجانا»، وهو ما أكده ويليامز.

بعد ذلك، انتقلا لقسم الأنباء الصحية، الذي يركز على فوائد العدو، مثل خفض ضغط الدم والتغلب على الضعف الجنسي، وعلق بورتر بقوله: «لكن أولا على السجناء حل لغز اللون الوردي للحم الديك الرومي»، مضيفا أنه «توصلنا إلى الإجابة من أجلك».

اتضح أن الغازات غير الضارة الموجودة في الفرن تتفاعل مع الهيموغلوبين. وعلق ويليامز قائلا: «لا أدري ماذا يعني ذلك». وأوضح المذيعان أنه على أي حال يضفي هذا التفاعل على لحم الديك الرومي لونا ورديا، لكنه غير ضار بالصحة.

ويختتمان نشرة الأخبار بنبرة جادة، حيث يقول ويليامز: «نشكركم على متابعتكم هذه النشرة. وتذكروا دائما أن عليكم التحلي بالإيجابية وأن تجعلوا من أنفسكم أصولا مفيدة لمجتمعكم وتضيفوا إليه إسهامات إيجابية».

ويتبعه بورتر بقوله: «بارككم الله».

* خدمة «واشنطن بوست» خاص بـ«الشرق الأوسط»