ديفيد بروتس.. الصحافي الذي دافع عن المظلومين لم يجد من يدافع عنه

ديفيد بروتس («نيويورك تايمز»)
TT

انخرط ديفيد بروتس، الصحافي الشهير والأستاذ الجامعي الذي قضى ثلاثة عقود من عمره في النضال لإثبات براءات الآخرين، على مدى العامين الماضين في صراع آخر محاولا تبرئة نفسه، لكنه لم يفلح.

كان بروتس، الذي عمل في التدريس في كلية ميدل للصحافة في جامعة نورث وسترن، المؤسس والقوة المحركة لمؤسسة ميدل إنيسانس بروجكت، التي أسهمت بشكل رئيسي في تبرئة ما لا يقل عن خمسة عشر شخصا أدينوا خطأً وتخليصهم من السجن، من بينهم خمسة أفراد تلقوا أحكاما بالإعدام في إلينوي، ودفعت حينها الحاكم جورج رايان إلى إخلاء عنبر الإعدام في عام 2003.

بيد أنه خلال التحقيقات في إدانة مشكوك فيها، قامت المدعية العامة لمقاطعة كوك كاونتي بالتركيز على بروتس نفسه وطلابه. وبدأت منذ ذلك الحين في إثارة التساؤلات حول الأساليب الخداعية التي استخدمها طلاب ميدل للحصول على المعلومات والمزاعم بأن بروتس تعاون مع محامي الدفاع (وهو ما ينفي الميزة القانونية للصحافي برفض المثول أمام المحاكمة)، وكان أهم من ذلك الشكوك حول قيامه بتغيير نص رسالة بريد إلكتروني للتستر على تعاونه.

دفعت هذه الاتهامات كلية ميدل، التي تتمتع بسمعة عالمية، والتي نالت مكانة بارزة أيضا بسبب أعماله، من منعه من التدريس في أبريل (نيسان) الماضي، فتخلى بروتس عن التدريس في الجامعة ويدير في الوقت الراهن مؤسسة، شيكاغو إنيسانس بروجكت. كان تلك سقطة أثارت الاندهاش بالنسبة لبروتس الذي يقول إنه يعتقد أنه يتعرض للتشهير بسبب سقطات في الذاكرة ورغبة في الدفاع عن طلابه.

وقال في مقابلة معه: «قضيت ثلاث سنوات من عمري أفضح الإدانة التي تمت عن طريق الخطأ، لأجد نفسي في صدام مع آخرين يتهمونني خطأ».

دائما ما تتهم السياسات الأكاديمية بأنها فاسدة لأن الرهانات فيها منخفضة للغاية، لكن في حالة بروتس والرجال الذين أدينوا خطأً والذين ساعد في إطلاق سراحهم لم تكن الرهانات عالية جدا.

ويقول مارك فيلدستين، الأستاذ المشارك في قسم الإعلام والعلاقات العامة في جامعة جورج تاون: «إنه يقف بين مشاهير الصحافة الاستقصائية في القرن العشرين، فقد تمكن عبر استخدام وسائل بسيطة للغاية من استهداف قضية محددة للغاية وقد قام من خلال هذا العمل بإعادة فتح قضايا غيرت القوانين وأنقذت أرواحا».

ويرى دينيس كولوتون، محامٍ عمل كسكرتير صحافي للحاكم رايان، أن عمل «ميدل» أسهم بشكل جزئي في وقف أحكام الإعدام في ولاية إلينوي. وقال: «أعتقد أنها كانت ستظل في إطار المناقشات الأكاديمية لولا عمل ديفيد».

بيد أنه خلف هذا النجاح الشعبي كان هناك توترات مزعجة داخل كلية ميدل، ولم ينته ميل بروتس للصدام مع السلطة بتطبيق القانون، بل دخل في صراع مع أكثر من عميد للكلية من بينهم العميد الحالي جون لافيني، الذي تولى عمادة الكلية في عام 2006 بعد مشوار حافل في الصحافة.

يعتبر لافيني شخصية استقطابية في كلية ميدل، فيرجع إليه الفضل إلى حد بعيد في استقرار المؤسسة التي كانت تعاني ماليا، لكنه قاد أيضا جهودا ناجحة في إعادة تسمية الكلية باسم كلية ميدل للصحافة والإعلام والاتصالات التسويقية المتكاملة، وهو التغير الذي قال إنه عكس الأجندة الموسعة للكلية، لكنه في الوقت ذاته لقي سخرية واسعة من الصحافيين والخريجين.

وأشار بروتس إلى أن المشروع تلقى في البداية دعما من العميد، لكنه يعتبره الآن أنه تمثيلية «وقال إنها محاولة ليبدو وكأنه يناضل من أجل التعديل الأول للدستور، لكنه كان في الحقيقة يحاول تقويض مشروع إنيسانس بروجكت من كل جانب». ورد لافيني بأنه لم يكن لديه خيار سوى أن يقيل بروتس، قائلا: «ما رأيته برر القرار الذي اتخذته».

أنشأ بروتس، الذي يعمل ابنه بن كمراسل لصحيفة «نيويورك تايمز»، مؤسسة بروجكت في ميدل عام 1999 بعد قضاء أغلب عمله الصحافي يبحث في الإدانات موضع الشكوك في مجلة «شيكاغو لوير». وبالتعاون مع مركز «الإدانات الخاطئة»، المشروع المشابه لما يقوم به في كلية نورث وسترن للحقوق قام بروتس بعمل فحص منهجي للقضايا ووضع الخطوط لعملية التقصي التي سيقوم بها طلابه وقام بتوجيههم خلال عمليات التقرير الصحافي.

ومع ازدياد عدد الإعفاءات من القتل، ارتفعت شعبية ميدل - وبروتس - وبدأ الطلاب ينجذبون إلى المشروع للتدريب في القضايا الأساسية الواقعية.

ويقول إيفان بين، الطالب السابق في صف بروتس والذي يعمل حاليا مراسلا لصحيفة «ذا سان لويس بوست ديسباتش»: «الطبقة التي ينتمي إليها بروتس تعمل على تغيير العالم».

كان من الغريب بالنسبة لمؤسسة إنيسانس بروجكت ألا يكتب الطلاب مقالاتهم الخاصة (حتى نشر المشروع على الإنترنت)، فقد كان الطلاب، الذين كانوا يعملون مع محققين مستقلين، يقومون في بعض الأحيان بكتابة صفحة واحدة بشأن النتائج التي توصلوا إليها، ثم مشاركتها فيما بعد مع صحافيين مشاهير لإبراز المعلومات الجديدة إلى النور. لكن غياب منفذ صحافي مباشر أثار اهتمام عميد واحد على الأقل.

ويقول مايكل جانواي، عميد كلية ميدل في الفترة من 1989 إلى 1996 والذي يعمل الآن أستاذا للصحافة في جامعة كولومبيا: «كان ذلك على الدوام أمرا باعثا على الارتباك، سواء أكان الأمر متعلقا بالصحافة أو قانون العدالة الاجتماعية حيث تبرر الغايات الوسائل. كان ديفيد جادا تماما، ومتحمسا في متابعته للفكرة، التي لا يمكنك التشكيك فيها».

ويؤكد ماوريس بوسلي، الحائز على جائزة بوليتزر في الصحافة والمشارك مع بروتس في مشروعه على أن القيود على النشر التي أحاطت ببروتس لم تخدمه كما ينبغي.

وقال: «في البنية التنظيمية للصحيفة، أحيانا ما تصادف رئيس تحرير غير مهتم بالتقارير الصحافية رفضا مثل هذا المسار. وأنا لا أعلم إن كنت قد واجهت رئيس تحرير من هذا النوع، فديفيد شخص غريب الأطوار، لكنه في تعاملاتي معه كان بالغ الحرفية».

في عام 2003 تبنت مؤسسة إنيسانس بروجكت قضية أنتوني ماكيني، الرجل الذي حكم بالسجن مدى الحياة لإدانته بجريمة قتل. وخلص تسعة فرق من الصحافيين الشباب إلى أن ماكيني الذي حكم عليه بالسجن مدى الحياة في عام 1981 لقتل حارس أمن كان يشاهد مباراة الملاكمة بين ليون سبينكس ومحمد علي كلاي وقت الجريمة. فقد تراجع شاهدا عيان ممن شهدا ضد ماكيني عن أقوالهما عندما سألهما الطلاب الذين كانوا يعملون مع بروتس، ونشر القصة بوزلي باستخدام بعض أعمال الطلاب في صحيفة «ذا شيكاغو صن تايمز» في عام 2008.

الشكوك التي أثارتها مؤسسة إنيسانس بروجكت قادت المدعية العامة للمقاطعة إلى إعادة دراسة القضية، لكن المحققين اكتشفوا بعض الحالات التي لم يتلقوا فيها ذات الإجابات التي زعم الطلاب أنهم حصلوا عليها. وفي عام 2009 قامت أنيتا ألفاريز بدراسة شاملة لكل المواد التي قدمتها المؤسسة وكان من بينها ملاحظات الطلاب والمذكرات ورسائل البريد الإلكتروني وحتى الدرجات التي حصل عليها الطلاب، اعتقادا منها بأن هؤلاء الطلاب سيكتبون تقارير لصالح البراءة طمعا في الحصول على درجات أفضل.

اعترض بروتس في الحال على ذلك، مؤكدا أنهم كصحافيين، هو وطلابه، خاضعون لحماية قانون إلينوي، ومضى إلى القول بأن المدعي العام كان أكثر اهتماما بالسعي إلى إثبات عدم مصداقية التقارير أكثر من التأكد مما وقع في قضية ماكيني.

وأشارت السيدة دالي إلى أن المدعية العامة للمقاطعة قضت عامين من التحقيق وإجراء عشرات المقابلات في ست ولايات قبل أن تجبر جامعة نورث وسترن على تقديم المعلومات. فقالت: «لقد صورها الأستاذ على أنها نوع من الانتقام، وهذا غير صحيح».

وقال لافيني: «في البداية حظي المشروع بدعم الكلية، في ذلك الوقت قلت إذا كنت ستضع أستاذا في السجن لأنه غير في درجات الطلاب والمواد التي جمعوها والتي أعتقد أن جميعها خاضعة لحصانة من القانون، فسيجب عليك أن تضعيني أولا في السجن».

لم يكشف مكتب المدعية العامة العديد من المواقف التي حاول فيها الطلاب تجاوز الحدود المهنية.

ففي نوفمبر (تشرين الثاني) 2006 قامت إحدى طالبات بروتس بتعريف نفسها بأنها موظفة إحصاء خلال محاولتها العثور على شاهدة. وفي عام 2009 قام أحد الطلاب بالتنكر في زي عامل شركة كهرباء. وفي كلتا الحالتين لم يعرف بروتس بشأن التكتيكات التي استخدمها هذان الطالبان بصورة مسبقة، لكنه لم يثر نقاشا مهنيا معهما.

بعد هذه الاتهامات بدأت جامعة نورث وسترن تحقيقا داخليا العام الماضي في أهداف المنظمة وفي سبتمبر (أيلول) 2009، فجرت كارن دانييل، كبيرة محامي ماكيني، فضيحة من العيار الثقيل باعترافها لمحققي لجامعة بأنها تلقت قدرا كبيرا من المواد من طلاب بروتس وهو سيلغي الميزة التي زعمها بروتس أملا في الحفاظ على عمل الطلاب بعيدا عن أيدي ألفاريز.

وأكد بروتس حينئذ أن هذه الحوادث مر عليها سنوات عديدة وأنه لا يستطيع تذكر ما الذي بدله وما لم يبدله. لكن البحث في حاسبات المؤسسة كشف عن رسالة بريد إلكتروني من بروتس إلى مساعده في عام 2006 قال فيها إن مذكرات التقارير التي أعدها الطلبة تمت مشاركتها مع فريق الدفاع.

وكتب مشيرا إلى محامي ماكيني: «موقفي بشأن المذكرات، كما تعلمون، هي أننا نشارك كل شيء مع الفريق القانوني ولا نحتفظ بنسخ».

لكن نسخة البريد الإلكتروني الذي قدمه إلي محامو الجامعة تم تغييرها: «موقفي بشأن المذكرات، كما تعلمون، هو أننا لا نحتفظ بنسخ من المذكرات».

وأشار بروتس إلى أنه غير في مضمون رسالة البريد الإلكتروني لتعكس الممارسة الحقيقية للمؤسسة كما يتذكرها هو.

وقال: «الكل يحاول إلقاء الإثم على ما فعلته، لكن لم أكن أنوي تضليل العدالة، لقد كان العكس تماما. كان نصيبي راجعا إلى قصور في الذاكرة بشأن المدى الذي شاركت فيه مذكرات الطلبة مع الدفاع، وقد تمسكت بعناد بهذا الموقف عندما شعرت بتكاتف الجميع علي».

في أعقاب الكشف عن رسالة البريد الإلكتروني، تحطمت الجبهة التي اعتبرت موحدة أمام الجموع وراء الستار. وفي اجتماع عاجل دعا إليه عميد الكلية في 6 أبريل (نيسان) قدم لافيني لزملائه عرضا للتصريحات والأفعال التي قام بها بروتس والتي اعتبرها عميد الكلية مضللة، وطلب الرأي من أساتذة الكلية. وما إن وصل الأساتذة إلى مكاتبهم الخاصة صدر بيان صحافي عن الكلية بأن بروتس لن يدرس ضمن الفصل الدراسي في الربيع وأوضح البيان أنه «لن يكون موضع ترحيب في الكلية مرة أخرى».

ووصف دوغلاس فوستر، الأستاذ المشارك في الكلية: «تطور الموقف بشكل سريع للغاية، فأكثر الأساتذة في الكلية جرأة وشهرة أوقف في لحظات عن التدريس دون إشعار وتعرض لنوة من العقاب. إنها حالة تستحق الدراسة لكيفية إدارة الصراع».

في أعقاب توقيع بروتس الاتفاق المتفاوض عليه للرحيل عن الجامعة، استمر عمل المؤسسة تحت قيادة أليك كلين، المراسل الاستقصائي السابق في صحيفة «واشنطن بوست». وفي أوائل يونيو (حزيران)، نشرت مؤسسة إنيسانس بروجكت قصة أثارت شكوكا جادة حول الاتهام الموجه لدونالد واتكينز، الذي قضى 56 عاما بالسجن، بالقتل. في الوقت ذاته قال ماكيني إن الطلب لا يزال متوقفا.

وترى جنيفر ميريت، واحدة من التلاميذ السابقين لبروتس، أنه رغم الصعوبات التي تواجهها المؤسسة، لا بد وأن تستمر.

وقالت ميريت، التي تعمل حاليا محررة في وكالة أسوشييتدبرس: «آخر ما يمكن أن أتوقعه أن تختفي الصحافة الاستقصائية والتدريب. ربما تكون هناك بعض الأشياء التي يتشكك بشأنها الأفراد، لكن النتائج النهائية تكون مذهلة».

* خدمة «نيويورك تايمز»