الإعلام الروسي و«مسرحة» المناظرات الانتخابية بالشتائم واللكمات

نائب رئيس مجلس الدوما يتهم موسكو بممالأة «محمد» على حساب «إيفان»

ألكسندر ليبيديف يعبر عن توحش رأس المال مع ماضي «كيه جي بي»
TT

كشفت نهاية الأسبوع الماضي عن «عبثية» الكثير مما يدور في أروقة السياسة والإعلام في روسيا. فما كاد الرئيس الروسي ديمتري ميدفيديف يطلق إشارة البداية للانتخابات البرلمانية المرتقبة في مطلع ديسمبر (كانون الأول) المقبل حتى توالت المشاهد الهزلية التي تميط اللثام عن حقيقة ما يجري في أروقة السلطة ومدى توازن القوى في الساحة السياسية، وهو ما تابعته الملايين في الداخل والخارج عبر ما نقلته شاشات التلفزيون وتناقلت بعضا منه وكالات الأنباء العالمية.

ويذكر الكثيرون أن المناظرة التي نقلتها قناة «إن تي في» (القناة التلفزيونية المستقلة) كانت مدعوة قبيل بدء الانتخابات المقبلة إلى مناقشة الأزمة المالية وتفشي ظاهرة الفساد في الدولة الروسية، وشارك فيها ثلاثة من أثرياء روسيا الجدد المثيرين للجدل، وهم ألكسندر ليبيديف ضابط الـ«كي جي بي» السابق الذي تحول إلى السياسة والاستثمار في مجال الطيران في ما سبق، ونجح في شراء صحيفتي «الإندبندنت» و«إيفينينغ ستاندرد» البريطانيتين، وصحيفة «نوفايا غازيتا» الروسية مع الزعيم السوفياتي السابق ميخائيل غورباتشوف، وسيرغي بولونسكي المليونير المشهور صاحب مجموعة «ميراكس» العقارية التي كانت أعلنت إفلاسها خلال الأزمة المالية الأخيرة، وسيرغي ليسوفسكي الذي سبق وتورط في سرقة نصف مليون دولار من مقر الحكومة الروسية لتمويل الحملة الانتخابية للرئيس السابق بوريس يلتسين في 1996 وكوفئ على ذلك بتعيينه نائبا في مجلس الفيدرالية (الشيوخ)، بعد أن تحول إلى أحد أكبر تجار الدواجن في روسيا. غير أن النقاش الموضوعي لم يستمر طويلا، حيث سرعان ما انحرف عن مساره ونجح أحد أطرافه وهو بولونسكي إمبراطور العقارات في «شخصنة» الكثير من جوانبه، ما استفز بعض المشاركين ليتحول النقاش إلى تبادل للاتهامات والشتائم ثمة من تبعها بسلسلة من اللكمات الخطافية أطاحت بموضوعية النقاش وبعثرت وقار أطرافه.

أما بطلا المشهد الفضائحي الذي يظل إحدى علامات المرحلة فكانا ليبيديف الذي أثبت أنه لا يزال على نشاط وحيوية ضابط الـ«كي جي بي» بقدرته على مباغتة الخصم وتوجيه أكثر الضربات الخطافية إثارة وقوة، وزميله إمبراطور العقارات بولونسكي الذي بوغت بهذه اللكمات التي أطاحت به عقابا له جراء تطاوله وإساءته إلى ليبيديف، وهو ما كان مثار انتقادات الكثيرين من الحاضرين والمتابعين. على أن ما حدث ورغما عن كل ما اتسم به من هزل وعبثية يظل أمرا «طبيعيا» بالنسبة للساحة الروسية، سبقته أحداث ومشاهد مماثلة كثيرة استمدت بداياتها من سنوات عهد يلتسين وارتبطت كلها بالانتخابات والعمل داخل البرلمان الروسي تأكيدا لتردي مستوى الأداء وافتقاد القدرة على إدارة الحوار. وقبل الانتقال إلى مشاهد عبثية أخرى تابعتها الملايين عبر شاشات التلفزيون نتوقف لنقول إن الإعلام الروسي في معظمه كثيرا ما يستمرئ السقوط في «شرك التبعية» عن طيب خاطر، قانعا أحيانا بلعب دور «مهرج الملك» دون تجاوز لأي من الخطوط المرسومة من جانب النظام الذي يدير العملية برمتها من وراء «ستار». هكذا عوّدنا منذ تخلص «عن غير إرادته» من ربقة التبعية وضغوط النظام الحاكم على يدي الزعيم السوفياتي الأسبق ميخائيل غورباتشوف في أواخر ثمانينات القرن الماضي من خلال سياسات «البيريسترويكا والغلاسنوست»، وإلى أن عاد ثانية إلى السقوط في أحضان «الديمقراطية الموجهة» أو «السيادية» حسب تعبير كاردينال الكرملين سوركوف المسؤول عن السياسة الداخلية، بعد أن كان قد تحرر من تبعيته لرأس المال الذي كان توحّش وتغوّل إبان سنوات حكم الرئيس الأسبق بوريس يلتسين. ولعل ما نشهده اليوم من برامج تستعصي أهدافها على فهم وإدراك بسطاء الناخبين ممن فقدوا القدرة على اختيار ممثليهم الحقيقيين لتمثيلهم في برلمان «الرأي الواحد»، تقول بهزلية الموقف وضبابية المستقبل في وقت ينزلق فيه الكثيرون من نجوم الساحة إلى معارك جانبية، منها ما تحول إلى توجيه اللكمات وتبادل السباب والشتائم على مرأى ومسمع من ملايين المشاهدين كما أشرنا عاليه.

ويذكر الكثيرون ما تندرت به الملايين حول ذلك «الرأي الواحد» الذي أراده بوريس غريزلوف الرئيس الحالي لمجلس الدوما والأمين التنفيذي للحزب الحاكم «الوحدة الروسية»، الذي يتزعمه فلاديمير بوتين، بإعلانه أن البرلمان «ليس ساحة للمناقشات» على اعتبار أنه ومن وجهة نظره مجرد «ورشة لترزية القوانين» التي تطرحها السلطة التنفيذية في زمن ضاعت فيه الفوارق بين السلطات الثلاث التي ثمة شواهد كثيرة تقول إنها أيضا استمرأت السقوط في شرك التبعية.

ومن هذا المنظور نتوقف عند الكثير من البرامج التي بدأت القنوات التلفزيونية تبثها في إطار الاستعدادات للانتخابات البرلمانية المرتقبة، ومنها برنامج «إن تي فيشنيكي»، نسبة إلى العاملين في قناة «إن تي في» التي أسسها في مطلع تسعينات القرن الماضي فلاديمير جوسينسكي إمبراطور الإعلام في عهد يلتسين قبل توليه منصب رئيس للمؤتمر اليهودي الروسي، وهو نفس البرنامج الذي شهد تبادل الشتائم والسباب واللكمات التي تابعها الملايين في نهاية الأسبوع الماضي. ومن المعروف أن هذه القناة وبعد فرار مالكها جوسينسكي إلى إسرائيل هربا من ملاحقة فلاديمير بوتين في مطلع سنوات ولايته الأولى كانت انحازت عمليا وعنوة إلى جانب السلطة الحاكمة لتكون إحدى نوافذ بيتها الإعلامي الجديد. أما برنامج «إن تي فيشنيكي»، ويعني «العاملون في قناة إن تي في»، فقد تناول في حلقته قبل الأخيرة الاستعدادات للانتخابات البرلمانية بمشاركة عدد من أبرز رموز الساحة السياسية من ممثلي الحزب الحاكم، ومنهم من ينسبونهم «تجاوزا» إلى قوى المعارضة. وقد جاء توقيت هذه الحلقة بعد أخبار كثيرة جرى تداولها حول تدهور شعبية الحزب الحاكم، ومنها نتائج استطلاعات للرأي قالت إن الغالبية من الناخبين تبدو على يقين من أن نتائج الانتخابات المرتقبة ستكون شأن سابقاتها مزورة لصالح الحزب الحاكم.

وكان مركز «ليفادا» - أشهر مراكز استطلاعات الرأي في روسيا - كشف عن أن نتائج استطلاع الرأي الذي أجراه بين أوساط الناخبين الروس تقول إن 62% من المشاركين في الاستطلاع على يقين من أن الانتخابات المرتقبة لمجلس الدوما سوف يجري تزويرها لصالح حزب الوحدة الروسية الحاكم الذي يتزعمه فلاديمير بوتين رئيس الحكومة.

وقال المراقبون تعليقا على هذه النتيجة إنه يجري تدمير روسيا على مرأى ومسمع من مواطنيها على نحو يعيد إلى الأذهان ما سبق وأسفر عن ضياع الاتحاد السوفياتي من خلال الإمعان في الكذب واختيار الأمثل على هذا الصعيد ليكون ممثلا للأوساط السياسية والاجتماعية.

وأشار موقع «غازيتا رو» الإلكتروني إلى أن الملياردير ميخائيل بروخوروف الذي كان الكرملين أوعز إليه بتشكيل حزب يميني جديد لخوض الانتخابات المرتقبة تحت اسم «القضية العادلة» تقدم مؤخرا باقتراح يكتفي بموجبه الحزب الحاكم بالحصول على 226 مقعدا في مجلس الدوما الجديد، أي بما يعادل الأغلبية البسيطة 50% + 1. وقد سخر المراقبون من هذا الاقتراح مشيرين إلى أن بروخوروف يتعامل مع الانتخابات ومع الديمقراطية ضمنا بمنطق البائع والمشتري، خلافا للمعروف حول أن الديمقراطية هي وقبل كل شيء تداول السلطة من خلال الانتخابات الشفافة، وهو ما تفتقده روسيا حسبما أشار موقع «غازيتا رو». ولذا كان من الطبيعي أن يستضيف هذا البرنامج التلفزيوني ميخائيل بروخوروف ومعه نجم «الخناقات والمهازل البرلمانية والسياسية والشوارعية» فلاديمير جيرينوفسكي زعيم الحزب الليبرالي الديمقراطي (القومي المتشدد) ونائب رئيس مجلس الدوما الحالي، ومعه عدد من ممثلي الحزب الحاكم، الوحدة الروسية، والحزب الشيوعي الروسي وحزب يابلوكو اليميني. أما القضية الرئيسية التي ناقشها البرنامج فقد تلخصت في أسباب مشاركة الأحزاب السياسية في الانتخابات رغم اعترافهم سلفا بأنه يجري تزويرها لصالح الحزب الحاكم وما إذا كانوا مدعوين للعب دور الكومبارس والديكور لتصوير وجود حياة برلمانية في روسيا! وفي إطار مستلزمات الديكور أيضا دعا منظمو البرنامج عددا من المراسلين والصحافيين الأجانب للحضور والمشاركة بما يعن لهم من أسئلة قالوا إنها يمكن أن تتسم بالصراحة والمباشرة والاستفزازية سعيا وراء إضفاء أكبر قدر من الحيوية والإثارة على البرنامج. وانطلقت التنويهات التلفزيونية تبشر بأن القناة في سبيلها إلى إذاعة أول «مناقشات جادة» حول الانتخابات وأن البرنامج سيكون «ساحة للمناقشات الحرة» على نحو يحمل المشاهد إلى أجواء الحياة في بلد ديمقراطي متحضر، على حد قول أنطون خريكوف مقدم البرنامج. وأضاف خريكوف: «إن ذلك يحدث لأول مرة منذ زمن بعيد»، مشيرا إلى أن الكل مدعو في هذه الحلقة إلى الإفصاح بكل الصراحة عن وجهة نظره تجاه مستقبل الوطن ويستطيع منازلة منافسيه سعيا وراء أصوات الناخبين.

من هنا كان ارتفاع سقف توقعات الناخبين والمشاهدين ممن تحلقوا حول شاشات التلفزيون لمتابعة ما قالوا إنه يحدث لأول مرة. غير أن الأمين العام التنفيذي للحزب الحاكم غاب عن المشاركة التي اعتذر عنها أيضا زعيم الحزب الشيوعي، ما افقد النقاش قدرا كبيرا من أهميته وحيويته وإن تولى جيرينوفسكي بأساليبه المعهودة من ديماغوجية وتهريج وخلط للحقائق تعويض ما غاب من عناصر الإثارة والتشويق. لكن المهم وحسب تعليقات كثيرين من المراقبين تمثل في ما خلص إليه بعض المشاركين في اللقاء حول ضعف المعارضة وهيمنة الحزب الحاكم بما يملك من آليات وسياسات، بينما اعترف ممثل الحزب الحاكم أندريه إيسايف صراحة بأن الحزب الحاكم لم يخفِ يوما أنه تشكل من أجل تأييد فلاديمير بوتين فضلا عما هو معروف بشأن أن بوتين ليس عضوا في هذا الحزب رغم إعلانه زعيما لهذا الحزب في سابقة نادرة لا ترقى إليها زعامات كثير من الأحزاب الحاكمة في الدول «غير المتقدمة».

وحين بلغ النقاش ما يبدو أنه منتهاه دون التوصل إلى نتيجة تذكر تعمد معدو البرنامج على ما يبدو إلى «الاستفزاز المتعمد» لمن تصفه بعض الصحف الغربية بـ«مهرج الملك» فلاديمير جيرينوفسكي الذي شارك في كل الانتخابات الرئاسية والبرلمانية كزعيم لحزبه الليبرالي الديمقراطي الذي يقولون إن النظام الحاكم يقف وراءه. ولما يملكه من مؤهلات طالما سمحت له ولمن يستعين بما يملكه من مؤهلات لـ«تسخين» أجواء النقاش، تحول مقدم البرنامج إلى سؤال جيرينوفسكي حول «الشوفينية العنصرية» التي لا يتحرج حزبه الليبرالي الديمقراطي عن ترويجها ونشر شعاراتها ضمن ما يصدره من أدبيات تقول صراحة بإعلاء القومية الروسية على ما عداها من ممثلي عشرات القوميات الأخرى في القوقاز وسيبيريا وأرجاء أخرى من الدولة الروسية.

وأمام محاولات جيرينوفسكي إنكار الطابع العنصري لهذه التوجهات قام مقدم البرنامج بمواجهته بما نصت عليه هذه الأدبيات في الحزب التي نصت في بعضها على: «إن السلطة الروسية تسمح بمصادرة أموال (إيفان) (في إشارة إلى كل أبناء القومية الروسية التي ينتشر فيها هذا الاسم) العامل الذي يتعب ويكد في عمله لصالح (محمد) (في إشارة إلى أبناء القوقاز من المسلمين وممن ينتشر بينهم هذا الاسم) قاطع الطريق الذي يعود لذبح إيفان ويرشو الشرطة لإخفاء جريمته. إن السلطة تفكر في (محمد) وفي كيفية منحه الكثير من المال لكي يُثرى ويسمن ويشتري المرسيدس الثالثة ويسافر للاستمتاع مرة أخرى إلى مصر». هنا اضطر جيرينوفسكي إلى الاعتراف بأن ذلك حقيقة، لكنه باغت الجميع بسيل من السباب والشتائم التي طالت الجميع ومنهم مقدم البرنامج والقناة التي يعمل بها، مشيرا إلى أنهم وما داموا يناصرون محمدا على إيفان فعليهم الرحيل إلى خارج موسكو واللحاق بالشيطان.

وقال ضمن ما قال: «اغربوا عن وجوهنا أيها الجواسيس ممثلو الطابور الخامس. أنتم الذين خسرتم الحرب في الشيشان! أنتم الذين تسببتم في هلاك وقتل جنودنا الروس هناك»... إلى آخر هذه الاتهامات الخرقاء. وخلص جيرينوفسكي وشأنه في كل مرة إلى استنتاج أحقية الروس في بلادهم وفي اعتبار أن كل ما عداهم لا يمكن أن يتمتعوا بنفس حقوقهم! أما عن الشق الثاني في الاستفزازات «المتعمدة» فقد تعلق بما تعرفه الخاصة والعامة حول أن جيرينوفسكي يبيع عضوية البرلمان لمن يدفع أكثر، وأن الحكومة تستعين به لدى التصويت على ما تريده من قوانين مقابل مكاسب مادية. وهنا انبرى جيرينوفسكي للرد مطالبا من يتهمه بذلك بالبيّنة وإثبات تقاضيه مقابل إدراج النواب ضمن قائمة حزبه الانتخابية، بينما نعت من يجاهر بذلك بأنهم سفلة وأوغاد. وحين استشهد أحد الصحافيين برئيس الحكومة الروسية الأسبق فيكتور تشيرنوميردين الذي كشف له في حديث صحافي عن أن الحكومة تستعين بجيرينوفسكي أحيانا لقاء مقابل قال إنه لا يكلفها الكثير، ألقى جيرينوفسكي بالميكروفون وهو يرغي ويزبد مؤكدا عدم صحة ما يقال، معربا عن استعداده للموت رميا بالرصاص داخل قاعة مجلس الدوما في حال أثبت أحد مثل هذه الاتهامات. وحين واجهه أحد محاوريه باسم أحد أثرياء موسكو الجدد من أعضاء كتلة جيرينوفسكي البرلمانية والهارب إلى بريطانيا واضطر مجلس الدوما في دورته الحالية إلى سحب الحصانة عنه بطلب من النيابة العامة لتورطه في قضايا فساد وإعلانه مطلوبا من قبل الإنتربول، هدده جيرينوفسكي بأنه سوف يبصق عليه. ومع ذلك فقد اعترف لاحقا أنه كان يطلب في المقابل مناصب وزارية لأعضاء حزبه، وهو ما يعد مقبولا في كل الأوساط السياسية المحلية والعالمية.

هكذا جرت وقائع البرنامج الحواري الأكثر جماهيرية في أجواء صخب غير عادية في إطار استعدادات روسيا للانتخابات البرلمانية. غير أن هناك من وقائع هذه الحلقة ما خضع للرقابة والحذف ولم يصل إلى المشاهد - فقد كانت الحلقة مسجلة وليست على الهواء - وهو ما فضحه بعض المراسلين الأجانب ومنهم مراسلتا «فورين بوليسي» الأميركية و«فايننشيال تايمز» البريطانية. وبهذا الصدد كتبت يوليا يوفيه مراسلة مجلة «فورين بوليسي» تقول إن المناظرات التي جرت تعتبر الأولى منذ عشر سنوات، وهو ما يبدو غير صحيح، وكانت أعربت عن تحفظاتها تجاه دعوة المشاركة فيها تحسبا لما قاله أحد أصدقائها الروس حول أن مثل هذه المشاركة تضفي على مثل هذه البرامج «الهزلية»، على حد تعبيره، المصداقية التي تفتقدها. وبغض النظر عن عدم صحة ما قالته حول أن السنوات العشر الماضية لم تشهد أي مناظرات انتخابية على غرار مثل هذه المناظرة، فقد سبق وسجلت كاميرات التلفزيون بعضا من اللقاءات التي شاهدها وتابعها كثيرون، وإن بدت وكما يقول العاربة «غير مناظرات»، حيث غلب عليها طابع الشكل بعيدا عن المضمون. وقد جارت يوليا يوفيه مراسلة «فورين بوليسي» بشكواها حول إخضاع ما قالته لـ«مقص الرقيب» رغم تطمينها قبيل البداية بأن من حقها التوجه بأية أسئلة «استفزازية» حسب قول معدي البرنامج. ومع ذلك رصدت الصحافية الأميركية ما يتخذه الكرملين من محاولات لإضفاء الحيوية والنشاط على العملية الانتخابية وإيعازه لأحد أثرى أثرياء روسيا وهو ميخائيل بروخوروف بتشكيل حزبه، القضية العادلة، كحزب يميني يخوض الانتخابات ربما بديلا لحزب رفضت وزارة العدل الروسية طلب المعارضة المناوئة شكلا ومضمونا لسياسات بوتين وحزبه الحاكم إعلانه تحت نفس الاسم بقيادة ميخائيل كاسيانوف، رئيس الحكومة الروسية الأسبق، وبوريس نيمتسوف أحد أبرز أقطاب عصر الرئيس الأسبق بوريس يلتسين. ولذا كان من الطبيعي أن يسخر أحد مشاهير الصحافيين الروس وهو أوليغ كاشين الذي سبق وتعرض لأكثر من محاولة اغتيال من ذلك بقوله إن ما يفعله الكرملين وماكيناته الإعلامية لإضفاء الحيوية على الساحة السياسية لا يساوي شيئا، حيث إنه يعرض لوجهات نظر من يشاهدهم المواطن كثيرا داخل أروقة الكرملين ومكاتبه في صحبة رموز النظام الحاكم.

غير أنه لم يمضِ من الزمن بعد بث هذه الحلقة التلفزيونية الكثير حتى باغت بروخوروف زعيم حزب القضية العادلة بالكشف عن حقيقة تدخل الكرملين في الحياة السياسية وما وراء تشكيل حزبه، وإن صب جام غضبه على كاردينال الكرملين فلاديسلاف سوركوف النائب الأول لرئيس ديوان الرئاسة الذي نجح في إقصائه من زعامة الحزب وإيكال مهمة القيادة واختيار نواب قائمة الحزب إلى آخرين. وكشف صراحة عن الضغوط التي تعرض لها لدى تشكيل ذلك الحزب والاتصالات التليفونية اليومية التي كانت تستهدف ضم أو حذف أسماء بعينها إلى قوائم الحزب وتحدد المهام المنوطة بكل منهم. وقال إن سوركوف النائب الأول لرئيس ديوان الكرملين والمسؤول عن قطاع السياسة الداخلية «خصخص» الحياة السياسية، بينما توعده بالعمل من أجل إقالته، مؤكدا أنه ما دامت توجد شخصيات على غرار سوركوف فلن تستقيم في روسيا أية حياة حزبية أو سياسية.

وجمع بروخوروف مناصريه ليؤكد لهم عزمه على مفاتحة الرئيس ميدفيديف ورئيس حكومته بوتين بحقيقة ما يدور، مشيرا إلى تعمد سوركوف إخفاء الكثير من الحقائق عنهما. ومن جانبه أماط أحد مناصريه، وهو الإعلامي المعروف ألكسندر لوبيموف، اللثام عن آليات تحكم المحافظين في وسائل الإعلام المحلية، ومنعهم صدور أي صحيفة دون أن تتضمن أخبارا طيبة عن بوتين وجبهته الشعبية التي قام بتشكيلها استعدادا لخوض الانتخابات البرلمانية ثم الرئاسية. وقال إن التعليمات صدرت أيضا بضرورة تشويه صورة بروخوروف الذي ظهر من يهدده بفتح الملفات، وهو الذي يعتبر اليوم أثرى أثرياء روسيا برأسمال يتجاوز 16 مليار دولار.

ومع ذلك تظل المناظرات الانتخابية والتغطيات الصحافية وبحكم المشاهدة والمتابعة وبكل ما تتسم به من إثارة مفتعلة وغياب الكثيرين من رموز المعارضة «غير التابعة للسلطة»، بعيدة عن تناول أكثر قضايا الساحة السياسية أهمية، وهي مسألة تداول السلطة في روسيا وقصرها على بوتين وميدفيديف الذي ورغم إعلانه عن رغبته في خوض الانتخابات الرئاسية المرتقبة للفوز بولاية ثانية فإنه يبدو أقرب إلى التسليم بضرورة الرحيل وإعادة مقاليد الحكم إلى فلاديمير بوتين إعلانا عن حقبة جديدة يبدو أنها سوف تتواصل لمدة 12 عاما آخرين.. طبعا إذا استمر الحال كما هو عليه وإن لم تجرِ في نهر موسكو مياه جديدة.