باكستان.. الشهرة الإعلامية من خندق المعارضة

شعبية جماهيرية لبرنامج «اليوم مع كامران خان» بسبب كشفه الفساد في المناصب الحكومية

متابعة لكبريات الصحف اليومية
TT

يعتبر اتخاذ اتجاه سياسي أو آيديولوجي رمزا للمكانة الرفيعة في مجتمع الإعلام الباكستاني. فأنت إما أن تكون ضد الحكومة وإما معها. قد تكون يساريا أو تنتمي إلى اليمين المتشدد. وإذا لم ينطبق عليك أي من هذه المسميات فسيعمل النظام بشكل تلقائي من أجل الزج بك إلى غياهب النسيان.

غير أن هناك استثناءات، فطلعت حسين شخصية بارزة في مجتمع الإعلام الباكستاني، وهو ينتمي إلى تقليد في الصحافة الباكستانية يؤيد بشدة الاحتفاظ بالحيادية التامة في اللعبة السياسية التي تمسك بأطرافها مجموعات سياسية متنافسة داخل المجتمع الباكستاني. وعلى الرغم من ذلك فإن طلعت حسين في عام 2007 عارض بشكل فعلي الحكومة العسكرية التي يرأسها الجنرال مشرف، وفي ذلك الوقت وصلت شعبيته إلى أوجها. قد يكون طلعت حسين استثناء، لكن نموذجه يثبت أنك إذا أردت أن تحقق شهرة في مجال الإعلام الباكستاني فعليك اتخاذ مواقف قوية في قضايا سياسية.

«التوجه الأساسي في وسائل الإعلام الباكستانية سياسي، والسياسات المحلية هي محور التركيز الرئيسي للمؤسسات الإعلامية الباكستانية، ولهذا يتعين على كل فرد هنا اتخاذ موقف قوي في كل قضية سياسية»، هذا ما يقوله سهيل عبد الناصر، مراسل سياسي بارز في صحيفة «أوردو ديلي» التي توزع على نطاق واسع. «حقيقة، تركز وسائل الإعلام الباكستانية بشكل مبالغ فيه على الأخبار السياسية»، هذا ما قالته المذيعة التلفزيونية البارزة سناء بوتشا أثناء حديثها إلى «الشرق الأوسط».

ومن المثير للاهتمام أن هذه الحقيقة المميزة لوسائل الإعلام الباكستانية تلقي بتأثيراتها أيضا على النظام الذي يحكمها، فقد أوضح خبير إعلامي باكستاني بارز لـ«الشرق الأوسط» أن مجتمع الإعلام الباكستاني شبه هرمي في نظامه. ويعتبر الصحافيون الذين يغطون الموضوعات السياسية والأمنية نخبة المجتمع الباكستاني، بينما يحتل الصحافيون الذين يغطون الموضوعات الاجتماعية والثقافية والإنسانية أدنى مرتبة داخل المؤسسات الإعلامية. أو بعبارة أخرى، يغطي الموضوعات السياسية أكبر الصحافيين وأكثرهم تأثيرا، في حين توكل مهمة تغطية الموضوعات الإنسانية والثقافية إلى من انضموا حديثا إلى مؤسسة الأخبار.

«هذا النظام الهرمي يعكس في حقيقته الأولوية التي توليها المؤسسات الإعلامية الباكستانية لموضوعات السياسات المحلية والإقليمية والدولية، مقارنة بالموضوعات الإنسانية التي تحتل المرتبة الثانية بعد أي موضوع يتناول قضية تتعلق بالدولة»، هكذا يقول خبير إعلامي.

ويشير محللون سياسيون وخبراء إعلاميون إلى أن مجتمع الإعلام الباكستاني قد ورث في حقيقة الأمر اتجاه النشاط السياسي منذ وقت طويل. وهم يقولون إن تاريخ الإعلام الباكستاني يزخر بالشخصيات البارزة التي كانت في حقيقة الأمر ممثلة في نشطاء سياسيين وصحافيين في الوقت نفسه.

وقد عارض معظم الصحافيين البارزين في الماضي الحكومات العسكرية، التي قد تولت زمام الحكم في باكستان لأكثر من 30 عاما. وقد وضعت هذه الشخصيات الإعلامية في الماضي أسس مفهوم الصحافة النشطة سياسيا.

ومن خلال سيرهم على نهج أسلافهم لم يبتعد صحافيو اليوم كثيرا عن المثل التي ارتكزت عليها الدولة في الماضي، مع الفارق الوحيد الذي يكمن في زيادة نطاق انتشار وتأثير ما يقوله صحافيو اليوم ويكتبونه بشكل سريع. تحدث إيجاز شافي جيلاني، رئيس مؤسسة استطلاعات الرأي الخاصة الوحيدة الموثوق فيها، «غالوب إنترناشيونال»، إلى «الشرق الأوسط» قائلا إن عدد المعجبين بمذيعين تلفزيونيين مشاهير أمثال شهيد مسعود وكمران خان يصل إلى الملايين. وكلاهما، إلى جانب الكثير من مقدمي البرامج الحوارية الشهيرة الآخرين، نتاج لثورة الإعلام في باكستان، التي قد تخطت كل المحظورات الاجتماعية والسياسية، والتي كانت القوة الأساسية التي أدت إلى الإطاحة بحكومة الرئيس السابق برويز مشرف وتدعم شكلا جديدا من أشكال الأخلاقيات السياسية. ومؤخرا أصبح من الممكن النظر إلى هذه الثورة الإعلامية باعتبارها القوة الرئيسية الكامنة وراء تشكيل إجماع في الرأي في المجتمع الباكستاني لمعارضة التطرف الديني والعنف.

وبدأت ثورة الإعلام في التسلل إلى المجتمع الباكستاني في السنوات الأولى من حكم الرئيس السابق برويز مشرف. ويشير مسؤولون سابقون في حكومة الجنرال مشرف إلى أنها كانت خطوة مقصودة من جانب الحكومة العسكرية من أجل سن قوانين جديدة وليبرالية لخلق مساحة عمل للقنوات الإخبارية الخاصة.

ومن المؤكد أنه لم تكن تخطر على بال القائد العسكري السابق الجنرال مشرف مطلقا فكرة أن قوى حرية الإعلام الجديدة التي كان يطلق العنان لها في المجتمع الباكستاني ستنقلب ضده وستسفر في نهاية المطاف عن الإطاحة به من الحكومة.

وقال مسؤول متقاعد كان على صلة بالحكومة السابقة إن الجنرال مشرف كان مع الرأي القائل إن القنوات الإخبارية الباكستانية ستجذب الرأي العام الباكستاني بعيدا عن مشاهدة القنوات الإخبارية الهندية، «وهي عادة كانت تضر بالمصالح القومية للدولة بشكل كبير». كان اتجاه الحكومة لتحرير قوانين الإعلام في باكستان قد أشعلت جذوته حملة عسكرية نظمت في عام 1999، حينما كان الجنرال مشرف يعمل رئيسا لأركان الجيش، ولم يكن قد شن انقلابا عسكريا بعد.

وفي مايو (أيار) 1999 شن برويز مشرف غارة على كارجيل، منطقة جبلية بكشمير الهندية. هنا، وقعت مواجهة بين الجيشين الباكستاني والهندي على مسافة 1800 قدم. وفي ربيع عام 1999 تسللت قوات مشرف خلسة مبكرا وتمكنت من السيطرة على المواقع الهندية الشاغرة من دون قتال. وشهدت الحرب التالية هزيمة باكستان وانسحابها تحت ضغط الولايات المتحدة.

وفي ذلك الوقت كان التلفزيون الباكستاني «بي تي في» هو المصدر الوحيد للأخبار التلفزيونية. ومن المفارقة أن درجة مصداقية التلفزيون الباكستاني بين عامة الشعب الباكستانيين كانت متدنية جدا، إلى حد أنهم تحولوا إلى القنوات الإخبارية الهندية بحثا عن آخر الأخبار المتعلقة بأزمة كارجيل العسكرية.

وفي تلك الفترة ارتفعت أسعار أطباق الأقمار الصناعية غير القانونية، حيث إنها كانت المصدر الوحيد لبث القنوات الإخبارية الهندية. وقال مسؤول رفيع المستوى بحكومة مشرف: «بينما كان الجيش الباكستاني يحارب الهنود في جبال كشمير، كان الشعب الباكستاني أكثر اهتماما بسماع الأخبار التي تبثها القنوات الإخبارية الهندية».

وقال المسؤول الحكومي المتقاعد: «كانت تلك هي المرة التي وضع فيها الجنرال مشرف خططا لإدخال قنوات إخبارية خاصة في باكستان». وسرعان ما منحه القدر الفرصة حينما أصبح رئيسا لباكستان بعد قيامه بانقلاب عسكري في أكتوبر (تشرين الأول) 1999. وتحققت أمنية الجنرال مشرف، حينما اتضح أن وسائل الإعلام الإخبارية الباكستانية ذات طابع قومي بدرجة كبيرة في اتجاهها العام، غير أنه كانت هناك بعض العواقب غير المرغوب فيها.

ويقول سهيل ناصر، محلل سياسي ومعلق تلفزيوني: «على المستوى الثقافي، تعتبر وسائل الإعلام الباكستانية مؤيدة للديمقراطية بشكل كبير ومعارضة بشدة للتدخل العسكري في السياسات».

لكن حينما بدأ الجنرال مشرف يفقد سيطرته على مقاليد السلطة في عام 2007، باتت وسائل الإعلام الباكستانية أكثر صراحة في إظهار الطبيعة القمعية لسياسته في الموقف السياسي المحلي.

وبدأت بعض المنافذ الإعلامية الباكستانية البارزة، التي كانت قد دعمت مشرف بشكل واضح في حملته ضد التطرف والعنف، في توجيه انتقادات لاذعة للجنرال بسبب الإجراءات القمعية التي انتهجها ضد جماعات سياسية معروفة مثل حزب الشعب الباكستاني والرابطة الباكستانية الإسلامية (نواز شريف).

إن الدور الحيوي الذي لعبته وسائل الإعلام صاحبة التأثير في باكستان في الإطاحة بحكومة الرئيس السابق مشرف قد منح هذه القنوات الإخبارية الثقة الكافية في إمكانية الوقوف ضد أي حكومة تواتيها الجرأة لتحديها والتشكيك في دورها كمنفذ حر لنشر المعلومات والأفكار داخل المجتمع.

ويقول الدكتور وسيم أحمد، المحلل السياسي البارز وأستاذ العلوم السياسية بجامعة القائد عزام في إسلام آباد: «إن وسائل الإعلام الباكستانية تظهر كوسيلة فعالة لكبح جماح الحكومة، ليس إلى درجة تشكيل حكومة أو القضاء على أخرى، إنما بمقدور وسائل الإعلام تشويه سمعة الحكومة، مثلما فعلت خلال العامين الماضيين».

وبدافع وصول عدد مشاهديهم إلى الملايين قطع الكثير من المذيعين البارزين في القنوات الباكستانية عهدا على أنفسهم بتشويه سمعة حكومة حزب الشعب الباكستاني «بي بي بي» بسبب تورطها في فضائح فساد، ويقول الدكتور وسيم: «لم تنجح وسائل الإعلام الباكستانية في الحط من قدر الحكومة وتشويه سمعتها».

وحظي أحد هذه البرامج الحوارية، وهو «اليوم مع كامران خان»، بشعبية خاصة بين الطبقات المتوسطة المدنية بسبب كشفه الفساد في المناصب الحكومية. ومقدمه كامران خان هو مراسل تحقيقات ذائع الصيت، وقد كشف كامران خان في برنامجه عن الفساد الحكومي الممثل في منح عقود بشروط مريحة لفئات بعينها والقيام بتعيينات غير قانونية وتورط شخصيات حكومية بارزة في قضايا استيلاء على أراضٍ.

وتشير استطلاعات الرأي إلى أن مثل هذه البرامج الحوارية يحظى بشهرة كبيرة بين أوساط الطبقة المتوسطة الباكستانية. وعلى الرغم من ذلك فإن المحللين السياسيين يشيرون إلى الجانب الآخر للموقف، فيقول وسيم أحمد: «الآن اعتاد الناس على تلقي أخبار الفضائح، وأصبحت الأخبار التي تنقلها وسائل الإعلام عن فساد الحكومة تقابل بقدر كبير من الشك. وسائل الإعلام في حالة من النشاط المفرط، والأخبار التي تكشف النقاب عنها باتت مثار شكوك».

ومع أن تمتع الصحافيين الذين يتبنون مواقف قوية ضد الحكومة الرسمية بشهرة كبيرة داخل المجتمع الباكستاني يعد حقيقة متفقا عليها بشكل عام، فإن النقاد يرون أن الإعلام الباكستاني ربما بدأ يفقد سمة الحيادية السياسية التي طالما امتاز بها منذ أمد طويل. فلم تعد وسائل الإعلام حيادية، مثلما يتوقع بشكل عام من أي صحافي مستقل. غير أن الإعلاميين البارزين في باكستان لديهم رد على هذا الاتهام. يقول طلعت حسين: «المبادئ العامة تنص على أنك بحاجة إلى أن تكون محايدا، كما أنك يجب أن تكون موضوعيا في الحقائق التي تعرضها. وأي شخص يتخذ موقفا قويا حيال أمر ما لا يكون بمقدوره التزام الحيادية في عرض الحقائق والمعلومات. وحينما أتى الدور على الجنرال مشرف تعين على الصحافيين الابتعاد عن النموذج الكلاسيكي للحيادية، كي يصبحوا جزءا من لحظة هامة جدا في التاريخ التشريعي لباكستان».

لا يوجد نقص في عدد الصحافيين في باكستان الذين يمكنهم في الوقت الذي يعارضون فيه حزب الشعب الباكستاني اعتقاد أن تلك اللحظة المهمة في تاريخ باكستان قد أتت مجددا.