البرامج الإخبارية الفرنسية.. مسابقات جمال من نوع جديد

حديث عن دوافع مادية تقف وراء اختيار العناصر الشابة

لورانس فيراري
TT

هل أصبح جمال الوجه والمظهر الجذاب هما أهم مقاييس اختيار مذيعي القنوات الإخبارية؟

السؤال قد يبدو غريبا، فالمظهر الخارجي للمقدمين لم يكن يوما شرطا ثانويا، بل إنه مهم، والمذيع الناجح هو أيضا إعلامي جذاب وأنيق، ولكن ماذا يحدث لو وُضع المظهر الخارجي قبل اعتبارات أخرى أكثر أهمية كالكفاءة والمهنية؟ الموضوع كان محل جدل في الأوساط الإعلامية الفرنسية بعد تسجيلها لدخول موجة جديدة من الإعلاميين ميزتهم الأولى الجمال والجاذبية.

الظاهرة بدأت بالشيوع منذ الـ10 سنوات الأخيرة، وقد كانت الصحافة الفرنسية قد خصصت في أواخر تسعينات القرن الماضي عدة أغلفة أولى لثنائي كثيرا ما جسد هذه الموجة من الصحافيين: الثنائي لورانس فيراري (مقدمة نشرة قناة «تي إف1»)، وزوجها السابق توماس هوغ، اللذان روجا لنموذج المذيع «الأشقر الجذاب» حتى استحقا لقب «كان وباربي» الوسط الإعلامي الفرنسي.

شعبية هذا الثنائي مهدت الطريق أمام مسؤولي القنوات الإخبارية لتوظيف جيل جديد من الإعلاميين أكثر شبابا وأناقة وجمالا من الجيل السابق، غالبية كبيرة منه مكونة من العنصر النسوي الذي لا يتعدى بدايات العقد الثالث، أطلقت عليهن مجلة «جي كو» المختصة تسمية «نيو بابز» أي الفاتنات الجذابات، كدليل على هيمنة النموذج الأميركي للإعلام.

حصة الأسد تعود للقناة الإخبارية «إي تيلي» المنتمية لمجموعة «كنال بلوس» التي وظفت أكثر من 10 مذيعات يتمتعن بقدر كبير من الجمال والجاذبية، من بينهن: لوران دونيه مقدمة برنامج «كور سي أوتوب» التي اختارها المخرج البريطاني غيي ريتشي لتشارك كريستيانو رولاندو بطولة الحملة الإعلامية الأخيرة للمصمم «أرماني» في زي خادمة جميلة، وآن سولان هات مقدمة برنامج «جي تي ديكالي» ذات الأنوثة الطاغية التي سبق وجربت حظها في التمثيل من خلال مسلسلين تلفزيونين، ومايا لوكي الشقراء الرشيقة المشهورة بعينيها الواسعتين.

والقائمة لا تنتهي عند هذا الحد. قناة «إم 6» هي الأخرى اختارت لنشراتها الإخبارية مذيعات فاتنات مثل: ميليسا توريو زوجة الممثل الكوميدي جمال دبوز، وعايدة طويهري مقدمة برنامج «66 دقيقة» ذات الأصول الجزائرية.

مسؤولو القنوات الإخبارية أنفسهم يبررون هذا المنحنى الجديد باعتبار الجمال والجاذبية الوصفة الجديدة للمذيع الناجح، وهو رأي المدير السابق لقناة «إل سي إي» الإخبارية، جان كلود داسيي، الذي لخص نظريته حول الإعلامية الناجحة بقوله: «كمياء النجاح لا تتم إلا إذا توفرت 3 شروط أساسية: جمال الوجه، ونظرة ساحرة وأنوثة طاغية، وحبذا لو انبعث منها أيضا عطر الخزامي منذ ساعات الصباح الأولى (يضيف المسؤول السابق بنبرة مرحة)».

هذه النظرة المحدودة أثارت حفيظة ميشيل رايزر، عضو المجلس الأعلى السمعي البصري، ورئيسة لجنة «نساء في الإعلام» التي صرحت في الصحافة بأن «القنوات الإخبارية تسهم باختيارها لنموذج ثابت من المذيعات في تشييد صورة خاطئة عن المرأة الفرنسية، فهي ليست دائما شقراء وجذابة ورشيقة، والأخطر من هذا هو أن السياسة الجديدة لهذه القنوات تنقل رسالة واضحة مفادها (كوني جميلة تصلي إلى أعلى المراتب المهنية).. فأين قيم العمل والكفاءة المهنية التي نزرعها في أطفالنا منذ الصغر؟».

المعنيات بالأمر لا يرين الموضوع من هذه الزاوية، كلويي ماتياس من قناة «ديرت 8» تقول: «كفانا اعتقادا بأن المذيعة الجميلة الجذابة هي بالتأكيد إعلامية فاشلة لم تصل إلا بفضل مظهرها الخارجي. ففي الصحافة نساء يتمتعن بالجمال وأخريات بالذكاء ومنهن من تتمتع بالاثنين معا».

أما عايدة طويهري من قناة «إم 6» فتضيف: «قد يبدو الأمر غريبا، لكن أخبار الكوارث والحروب والمآسي التي يشهدها العالم قد تصبح أقل وطأة على المتفرج عندما تكون على لسان شخصية جذابة تكون طلتها على الشاشة عامل تهدئة واطمئنان».

على أن الوضع لم يكن كذلك دائما، فالمتابع للبرامج الإخبارية يتذكر إعلاميات في منتهى الكفاءة والمهنية، احتللن مناصب مرموقة كزملائهن الرجال، رغم أنهن بقين بعيدات عن مثل هذه المواصفات الجسدية، مثل: كريستين أوكرنت، المديرة السابقة لقناة «فرانس 24»، وأرليت شابو، مديرة قسم الأخبار في قناة «فرانس 2».

حتى بداية تسعينات القرن الماضي، تقول الصحافية فلونس دوشيه، مقدمة برنامج «ديمانش+» على قناة «كنال بلوس»: «كانت مقدمة البرامج الإخبارية تعتمد الحياد والحشمة في مظهرها الخارجي للحفاظ على مصداقيتها المهنية بالمقارنة مع زملائها الرجال، وكانت ملتزمة تبتعد عن إظهار مفاتنها الجسدية حتى لا يقال إنها تغطي نقص الكفاءة بالمظهر الخارجي.. ما يحدث الآن هو العكس، فطواقم مقدمات البرامج الإخبارية الآن هي كلها أجساد ساحرة جميلة وأنوثة طاغية، فهل تمت فعلا مراعاة شروط الكفاءة والمهنية في اختيار هؤلاء الإعلاميات، لا أستطيع الجزم..».

على أن صفة الجمال لم تعد مطلوبة عند الجنس الناعم فقط، بل أيضا عند الرجال، ومثلما عرفت القنوات الإخبارية موجة مقدمة النشرات الـ«باربي» ها هي الآن تشهد دخول نظيرها «كان» الذي يمتع بجاذبية ووسامة نجوم السينما وأناقة وجسد عارضي الأزياء.

الظاهرة أثارت جدل الوسط الإعلامي الفرنسي بعد أن أوكلت لمجموعة من الصحافيين الشباب مهمة تقديم نشرات وبرامج إخبارية. كالصحافي الشاب جوليان بروجيي، الذي وجد نفسه بين عشية وضحاها خليفة للمقدم المتمرس ديفيد بوجاداس على حساب زملاء أكثر كفاءة وخبرة، على الرغم من ربيعه الثامن والعشرين، وهذا بعد أن اختارته مجلة «تيتو» الرجالية الرجل الأكثر إغراء في المشهد الإعلامي الفرنسي، ومثله زميله الصحافي الوسيم لوران دولاهوس، الذي تسبب اختياره كمقدم نشرة أخبار «القناة الثانية» تذمر زملائه الذين ترشحوا لهذا المنصب منذ سنوات.

آراء كثيرة ترى أن السباحة على موجة صحافة الإثارة وتغليب الشكل على المضمون ليست الأسباب الوحيدة وراء انتشار هذا الجيل الجديد من المقدمين في القنوات الفرنسية، بل إن دوافع مادية تقف وراء اختيار مثل هذه العناصر الشابة التي غالبا ما تفتقر إلى الخبرة، فبينما يصل أجر مقدمة قديمة مثل كلير شازال إلى 45 ألف يورو شهريا، لا يتعدى أجر نظيراتها من موجة الشابات الحسناوات إلى أكثر من 4000 يورو، كذا الحال بالنسبة للرجال الذين سجلت عندهم الأجور انخفاضا ملحوظا ما بين 75 ألف يورو، الأجر الذي كان يتقاضاه المخضرم باتريك بوافر دارفور، إلى 4000 يورو، الأجر الذي يتقاضاه زميله الشاب جوليان بروجيي.

أما المستقبل فهو لا يبعث على التفاؤل، بحسب الباحث الفرنسي المختص في وسائل الإعلام، دومنيك فولتون، الذي يرى أن اللجوء لمثل هذه النوعية من الصحافيين قد يخلق نمطا إعلاميا متكررا رتيبا يخضع لمطرقة التسويق التجاري ورغبات المتفرجين، ولذا فإن انتشار مثل هذه القنوات التي تنقل عن بعضها البعض لا يخدم الإعلام الجاد الرصين، بل يضعفه ويفقره.