بريطانيا: الصحافة البرلمانية أصل السلطة الرابعة

انتخبت المجموعة لجنتها الإدارية كتقليد بدأ في القرن الـ19

TT

انتخبت المجموعة الصحافية البرلمانية «press gallery reporters» لجنتها الإدارية هذا الأسبوع كتقليد بدأ في القرن الـ19 منذ خصصت لهم مكاتب دائمة في قصر وستمنستر، حيث يوجد مجلسا العموم واللوردات.

ومثل النواب، يحمل الصحافيون بطاقات ممغنطة برقم سري يتيح لهم الدخول من 11 بابا أوتوماتيكيا، بخلاف المداخل الأربعة المخصصة للزوار بأجهزة أشعة «إكس» مثل المطارات بعد تشديد الأمن عقب إرهاب السنوات الأخيرة.

وهناك أكثر من 280 بطاقة مرور صحافية تتيح لحامليها استخدام مرافق البرلمان ومراقبة سير الجلسات شرط وجود مقاعد لا يشغلها أي من الصحافيين المائة المقيمين. لكل من المائة المقيمين مكتب بكومبيوتر متصل بإنترنت البرلمان وتليفون يدفع اشتراكه جهة عمل الصحافي.

ينتخب المقيمون المائة سنويا لجنة إدارية من عشرة، يترأسها لعام 2012 المحرر السياسي لـ«الديلي ميل» الذي خلف صحافية من الـ«بي بي سي»، دخلت التاريخ كأول سيدة تشغل المنصب في تاريخ 209 أعوام من إقامة الصحافيين في البرلمان.

من بين المائة توجد مجموعة أخرى من 30 صحافيا تعرف بـ«Lobby» والاسم الإنجليزي مشتق من المكان كلوبي الفندق أي ردهة المدخل، وليس من الفعل كالكلمة الأميركية «اللوبي»، وهي مجموعة ضغط من أجل مصالح سياسية أو اقتصادية.

في برلمان وستمنستر هناك لوبيان لتصويت النواب (واحد بـ«نعم» وآخر بـ«لا»، حيث تخلى القاعة قبل التصويت) ولوبي النواب المفضي إلى القاعة. ومجموعة الـ30 صحافيا تحمل بطاقاتهم حرف «L» كامتياز لوجودهم في لوبي النواب.

وهو تقليد بدأ 1870، والبطاقة نفسها يتعرف عليها كومبيوتر مباني الحكومة للمرور إلى الوزارات ومقر الحكومة في داوننغ ستريت، حيث يلتقون بالسكرتير الصحافي لرئيسها مرتين يوميا (3 مرات الأربعاء) كما يصطحبون رئيس الوزراء في كل سفرياته (وصحفهم تدفع ثمن السفر والإقامة كاملة لاستقلالية الصحافة). مجموعة اللوبي لها أيضا مجلس إدارة ورئيس منتخب (هذا العام مراسل «الغارديان»، وفي يناير «كانون الثاني» ينتخب رئيس جديد).

ومثل الصحافيين الدائمين، يقتصر تقليد صحافيي اللوبي على وستمنستر وبلدان الكومنولث ككندا ونيوزيلندا وأستراليا، ويصعب على الصحافيين الأميركيين فهم التقليد (لاختلاف مدلول الكلمة) وتزدوج الصعوبة عند صحافيين عرب لم يختبروا التجارب البرلمانية من ناحية بينما ترتبط كلمة اللوبي في أذهانهم بـ«اللوبي اليهودي» من الناحية الأخرى. المجموعة بمثابة صداع مستمر للحكومة لأنها تراقب أداء رئيس الحكومة ومجلس الوزراء من الداخل بشكل يومي، وتقاليد الديمقراطية تضع الصحافيين خارج أي وسيلة ضغط للحكومة رغم وجودهم داخل أروقتها.

سكرتير «داوننغ ستريت» ومساعدوه يناقشون تفاصيل النشاط اليومي للحكومة ورئيسها في لقاء اللوبي الصباحي، وما تم إنجازه في لقاء المساء. ولا ننشر أسماءهم لأنهم «خدم للتاج» أي موظفو دولة مستقلون عن الحكومة، فالتقاليد تسمح فقط بنشر أسماء الساسة المنتخبين لمحاسبتهم، اتجاه الاسالة، خاصة في لقاء المساء ينبه الحكومة لما يشغل بال ممثلي الرأي العام وتصبح السلطة الرابعة أداة ضغط دون قصد.

قبل عام 1803 مارست الصحافة لعبة «الاستغماية» مع الساسة منذ بداية جلسات «مجالس التشاور» وهي إرهاصات مجلس العموم في القرن الـ13، حيث اتسمت بالسرية، إلى أن كشفتها الصحافة في القرن الـ17 بنشر أخبار معارضة نفت حكومة تشارلز الأول وجودها مما عجل باندلاع تمرد أوليفر كرومويل الذي أطاح برأسه في 1649 (تدارك الإنجليز الحماقة فنصبوا ابنه تشارلز الثاني ملكا في 1660 لأفضلية الملكية الدستورية على النظم الأخرى).

كلف بحماية المعلومات قائد الحرس المسلح لأمن البرلمان Searjant at Arms. الحرس أسسه الملك ريتشارد الأول بـ24 فارسا عادوا معه من الأراضي المقدسة في 1189 لحماية مجلس لندن المكون من النبلاء والفرسان والتجار والوجهاء الذي تطور إلى مجالس التشاور، فالبرلمان المنتخب.

قسم Searjant at Arms قسم كبير مسؤول عن حراسة قصر وستمنستر والأمن داخل القاعة (يحرم على الشرطة أو الجيش دخولها)، وقائد الحرس ونائباه فقط من يجوز لهم حمل السلاح (سيوفهم القصيرة rapiers تتدلى من حزام زي لم يتغير منذ قرون)؛ ويصدرون بطاقات الإقامة الدائمة للنواب والصحافيين، بعد إجراء المخابرات بحث كامل في تاريخ الشخص وأسرته.

ازداد عدد الصحف في القرن الـ17 فانفتحت شهية الشعب للشفافية ومعرفة كيف يصل الساسة لقراراتهم، وشدد البرلمان، لحساب القصر، الحراسة على الصحافيين الذين تفننوا في التحايل لتهريب ما دار في الجلسات. فمثلا صدر عام 1641 أمر لمكتب الحراس بإحراق كل الأوراق التي تخرج عن قاعة المناقشات حتى لا يعرف العامة بما ناقشه الساسة، وتكررت الصدامات بينهم وبين الصحافيين.

وفي عام 1771 استدعى البرلمان أصحاب المطابع والناشرين لتوبيخهم وطلب اعتذارهم عن نشر معلومات «مسروقة».

وانحازت قلة من النواب الديمقراطيين إلى الناشرين الذين رفضوا الاعتذار، قائلين إن واجبهم اطلاع الشعب على قرارات قد تؤثر على مستقبله. وصدر أمر اعتقال ناشرين ونواب متمردين لخرقهم قانون حماية الامتيازات (أي السرية) فتظاهر الناس ضد القصر والدولة. وبعد قرابة عقد من تضحيات الصحافيين وخرقهم للقانون وصدامهم مع الحراس، بدعم الشعب، تعب مكتب الأمن من السرية ومراقبة الصحافيين الذين انتظموا على حضور الجلسات في منصات العامة المطلة على قاعة مجلس العموم.

ومن أشهر صحافيي البرلمان من القرنين الـ17 و18 المؤرخ صمويل جونسون وكان يراسل مجلة «الجنتلمان»، والشاعر صمويل تايللور كولريدج، والروائي تشارلز ديكينز.

وفي مايو (أيار) 1803 أثناء مناقشة الحرب ضد نامليار بونابرت ازدحم العامة في المنصات فلم يجد الصحافيون مكانا للجلوس. وانتخبوا لجنة العشرة (التي أصبحت تقليدا مستمرا) والتقت اللجنة Speaker Charles Abbot و«السبيكر» أي المتحدث (يرأس الجلسات، وله وحده حق الحديث وإسكات الآخرين، ويحدد السياسة البرلمانية) تترجم خطا للعربية «كرئيس البرلمان».

وكان آبوت مؤمنا بالديمقراطية فقرر في 25 مايو 1803 تخصيص نصف منصة الجانب الشرقي (ناحية بيغ بن) «لكتاب الأخبار». وبمرسوم ملكي خصصت مكاتب دائمة للصحافيين وحق الوجود 24 ساعة في البرلمان وضمان حارس الأمن حمايتهم وعدم اعتراض أحد طريقهم.

وتقديرا لأهمية وجود الصحافيين في مجلس العموم ودورهم كمراقب لأداء الساسة وصفهم مؤرخ القرن الـ19 البريطاني اللورد توماس ماكوللي «بالحارس الأعظم للحريات العامة» وسمى الصحافة «السلطة الرابعة في المملكة» بجانب السلطات الثلاث التي تكونت منها دولة المملكة الدستورية وقتها: الكنيسة (المؤسسة الدينية)، والنبلاء، والبرلمان. والصحافة البرلمانية هي عيون وآذان الأمة في القرن الـ21. أما عملها اليومي وأداؤها المعقد فتلك قصة أخرى.