النجاح.. العسل المر لمذيعي الخدمة الكرواتية في «صوت أميركا»

بدأت منذ 19 عاما منبثقة عن الخدمة اليوغوسلافية

فريق عمل «صوت أميركا» باللغة الكرواتية بعد 19 عاما من النجاح («نيويورك تايمز»)
TT

أدخل رجل طويل أنيق لديه لحية قصيرة ويتحدث بلكنة أوروبية شرقية الضيف إلى غرفة مكتب تنتشر على طاولة فيها شطائر اللحم وفطيرة التفاح والنبيذ الأحمر. قال زورز سرماريتش: «لدينا حفل الآن نحتفي فيه بنهايتنا».

كان حفلا جنائزيا للقسم الكرواتي في إذاعة «صوت أميركا»، الذي كان سرماريتش رئيسا له حتى يوم الأربعاء قبل الماضي. في الأسبوع الماضي أغلق القسم، الذي تأسس في عام 1992 وقت اندلاع الحرب العرقية الدموية التي أطاحت بيوغوسلافيا سابقا، في الوقت الذي تستعد فيه كرواتيا عضو حلف الناتو من أجل الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي.

بالنسبة لهؤلاء الذين أمضوا العقدين الماضيين في نقل محتوى إذاعي ومرئي وإلكتروني إلى دولتهم المطلة على البحر الأدرياتيكي، يأتي هذا الحدث المهم كخبر سار وسيئ في وقت واحد. من جانب، سيعني انتهاء الخدمة أن مهمتهم انتهت، ولكن كان نجاحهم يعني نهاية عملهم.

يقول دامير بيبيتش، المذيع في البرنامج منذ عام 1997: «كنا نعمل من أجل تحقيق هدف واحد، وعندما حصلنا عليه فقدنا وظائفنا!».

على مدار 70 عاما، تبث إذاعة «صوت أميركا» الممولة من الحكومة الأميركية الأخبار إلى الدول التي لا تنعم بحرية تداول المعلومات. ويقتضي ميثاق المؤسسة بأن تكون التغطية موضوعية وشاملة مع عرض سياسة الولايات المتحدة على بقية أنحاء العالم. وبعد أن بدأت في صورة إذاعة على الموجة القصيرة، أصبح لها أقسام من البث التلفزيوني والإنترنت والهواتف الجوالة.

أحيانا ما كان البث يتعرض لتشويش من حكومات الدول التي يصل إليها الإرسال. وطوال عقود، كانت دول الكتلة السوفياتية هدفا رئيسيا للبث. وفي الوقت الحالي، تحاول حكومات دول مثل إيران وكوريا الشمالية وقف بث «صوت أميركا».

ويعني إنهاء الخدمة أن أهدافها قد تحققت بدرجة كبيرة. ولكنها أيضا تعكس الضغوط الاقتصادية التي تتعرض لها الحكومة الأميركية. وقد بلغت نفقات القسم الكرواتي 944.000 دولار في العام الماضي.

في الحفل، الذي حضره أصدقاء من أقسام اللغات الأخرى في «صوت أميركا» البالغ عددها 43، قال البعض إنهم يخشون من أن تعتبر أقسام أخرى غير ضرورية أيضا في الوقت الذي تصرف فيه المؤسسة نظرها عن دول الاتحاد السوفياتي السابق.

تقول كاتارينا رادوفيتش، الصحافية في الخدمة الصربية، التي بدأت أيضا منذ 19 عاما منبثقة عن الخدمة اليوغوسلافية: «إنه يوم حزين للغاية لنا جميعا نحن المؤمنين برسالة (صوت أميركا). سنفقد هؤلاء الزملاء الذين عملنا معهم لفترة طويلة، كما أننا سنكون جميعا أقل أهمية وأكثر عرضة للخطر من الآن فصاعدا».

وطمأن مدير «صوت أميركا» ديفيد إنسور، المجتمعين بأن «الخدمات الأخرى (في منطقة البلقان) ستستمر لفترة مقبلة. فهي مهمة وسأدافع عنها بأقصى ما أستطيع. كما أنها تحظى بعدد كبير من المستمعين. ولكن في الحقيقة أحرزت الخدمة الكرواتية نجاحا كبيرا إلى درجة أنها لم تعد ضرورية كما كانت في بدايتها».

قال إنسور فيما بعد إنه في ذلك الوقت لم تكن كرواتيا تملك وسائل إعلام مستقلة، مضيفا أن «صوت أميركا» دربت صحافيين كرواتيين، وانتشر بثها الإذاعي في كرواتيا وكانت نموذجا يحتذي به الإعلام الناشئ.

وقال إنسور إن غلق أقسام مثل اللغة الكرواتية يجعل «من الممكن لـ(صوت أميركا) أن تتوسع في برامجها في مناطق أكثر إلحاحا في العالم»، مضيفا أن «هذه الفترة عصيبة على مؤسسة تحصل على تمويل فيدرالي».

يعلق نائب مدير البرامج جون لينون، قائلا إنه في عام 1992، عندما كانت يوغوسلافيا تنهار، «لم يكن هناك شك في الحاجة إلى خدمة (صوت أميركا). ولكن تركز الإذاعة في الوقت الحالي بصورة أكبر على أفريقيا والشرق الأوسط وشرق آسيا. وكان آخر الأقسام الذي أغلق مؤخرا القسم الهندي في عام 2010».

لم تكن الأخبار مفاجئة لموظفي القسم الكرواتي. للعام السادس على التوالي، وفي كل مرة كانت تخضع فيها الميزانية للدراسة، كان يقال لهم بأن البرنامج قد يلغى.

ولكن فوجئ محبو الإذاعة في كرواتيا بما نشر يوم الثلاثاء على الموقع الإلكتروني بأن البرامج التي ستبث في اليوم التالي ستكون الأخيرة.

وكتب أحدهم في رسالة إلكترونية: «لا أصدق ما أقرأه».

وكتب آخر: «منذ أعوام، كان أول شيء أسمعه في الصباح هو الأخبار التي تذيعونها».

ووصف أحدهم «صوت أميركا» بأنها «الضوء الوحيد وسط الظلام».

وقال موظفو القسم إنهم قلقون من ترك مستمعيهم تحت رحمة مصادر إخبارية محلية.

وقال زدنكونوفاتشاي، وهو مذيع في القسم منذ نشأته: «يقولون إننا حققنا إعلاما حرا تماما. ولكن بالفعل إنها فوضى. ولا يوجد أي نوع من المحاسبة!».

وتشبه أندريا والش التي تعمل مذيعة منذ 15 عاما، الصحافة في بلادها بأنها مثل «ناشونال إنكويرر». وتضيف قائلة: «كنا نعبر عن صوت العقل وتنقل الأخبار عنا كذلك، لأنها كانت موزونة ولا تحمل وجهات نظر».

أغلقت خدمات عشر لغات أخرى تنتمي إلى الكتلة الشرقية، من بينها البولندية والمجرية والتشيكية والأستونية في عام 2004، بعد خمسة أو ستة عقود من العمل. وفي الوقت ذاته، تم افتتاح أقسام أخرى مثل: الخدمة الكردية في عام 1992، والبوسنية في 1996، والمقدونية في 1999، والصومالية في 1992، ومرة أخرى في 2007. وفي عام 2006، بدأت إذاعة «صوت أميركا» في بث محطة إذاعية باللغة البشتونية في المنطقة الخاضعة للحكم الفيدرالي على الحدود الواقعة بين أفغانستان وباكستان.

كانت الخدمة اليوغوسلافية، التي أطلقت في أوائل الأربعينات، قد انقسمت في عام 1992. وعندما ازدادت سخونة الحرب في الداخل، كان عمل المراسلين في الأقسام المختلفة يشبه «راشومون»، على حد قول سرماريتش، مشيرا إلى ذلك الفيلم الياباني الذي تروي فيه الشخصيات حدثا واحدا من وجهات نظر متعددة.. «كان مراسلو الخدمات المختلفة في منطقة البلقان يذهبون إلى الحدث ذاته ولكنهم يفسرونه بطرق مختلفة».

وكان كثير منهم لديه أسر في مناطق الصراع، وكانت التوترات كبيرة.

ويذكر نوفاتشاي قائلا: «ربما كان الناس يتجنبون بعضهم البعض، ولا يتواصلون بصورة جيدة».

ولكن يوم الثلاثاء، لم تكن هناك إشارة إلى وجود مشاكل قديمة. بل كانت هناك صداقة حميمة بين الزملاء الذين تجاوزوا فترة عصيبة وأصبحوا مترابطين في النهاية.

تقول دزيلانا بيكانين، رئيسة قسم البوسنة: «عندما كانت الحرب مستعرة في البوسنة لم تكن هناك خدمة بوسنية لأنه لم تكن هناك دولة البوسنة. وكان زملاؤنا في الخدمة الكرواتية يمنحوننا فترة بث مباشر وأجهزة كومبيوتر وكل وسائل المساعدة على العمل في هذه المهمة».

وتضيف أنه في الوقت الحالي، أرسل أحد القراء رسالة على صفحة الخدمة البوسنية على موقع «فيس بوك» معربا فيها عن «أسفه العميق لغلق الخدمة الكرواتية».

في البرنامج الختامي للإذاعة، قدم مذيعو الخدمة الخمسة أخبار اليوم، ثم تبادلوا الحديث حول مواقف تعرضوا لها أثناء العمل في الإذاعة.

وقالت والش للمستمعين: «طيلة الأيام الماضية غلبتني دموعي عدة مرات. ولكنها لم تكن دموع حزن، بل دموع فرح، تشبه تلك التي تغلبنا عندما نترك أطفالنا يعتمدون على أنفسهم عندما يكبرون».

* خدمة «نيويورك تايمز»