رئيس تحرير «لوموند دبلوماتيك»: تجربتنا العربية ناجحة.. وتوزيعنا 800 ألف نسخة

سمير العيطة قال لـ «الشرق الأوسط» إن الإعلام مهنة غريبة لأنه يبيع ما لا ينتجه

سمير العيطة («الشرق الأوسط»)
TT

يعتقد الإعلامي سمير العيطة رئيس تحرير صحيفة «لوموند دبلوماتيك» (النسخة العربية) أن «الإعلام مهنة غريبة وغرابتها تأتي من كونها تبيع ما لا تنتجه». وقال سمير العيطة في حواره مع «الشرق الأوسط» من فاس على هامش الدورة الثامنة لمنتدى فاس العالمي حول الشباب وتحديات العولمة، إن «التمويل مشكلة الإعلام»، وتساءل من أين يأتي ولماذا؟».. وأضاف أن التمويل «يطرح سؤالا آخر يتعلّق بموضوعيّة وسيلة الإعلام».

ويلاحظ العيطة أن الحكومات احتكرت في الماضي القطاع لنشر وجهة نظرها فقط، في حين تحتكر اليوم شركات ومجموعات كبرى وسائل الإعلام.

وفي معرض حديثه عن أوضاع الصحافة العربية، قدم العيطة مثالا بما حدث في سوريا وقال في هذا الصدد: «في أوائل القرن العشرين كان هناك نحو مائة صحيفة تصدر في دمشق، أمّا في عهد الاستبداد، فلم تبق سوى ثلاث صحف حكومية، والوضع ليس أحسن في البلدان العربيّة التي تهيمن عليها رأسمالية الاحتكارات». وعن تداعيات الربيع العربي في سوريا قال: «إذا نجح الربيع السوري بقيمٍ إنسانيّة، سيتمكّن السوريّون من بناء دولة المواطنة للجميع، ودولة الحريّات والعدالة والكرامة للجميع، بما في ذلك حريّة الفكر والمعتقد، وإذا فشل فسيأتي الخريف على الجميع». وفيما يلي تفاصيل الحوار:

* دعنا نبدأ بسؤال افتراضي: هل يمكن أن تقرأ الأجيال المقبلة صحافة ورقية؟

- قبل الحديث عن موضوع تطوّر وسائل الإعلام، هناك ملاحظة أساسيّة يجب قولها، وهي أن الإعلام مهنة غريبة وغرابتها تأتي من كونها تبيع ما لا تنتجه، تبيع إعلانا، في حين تنتج مقالات وتحقيقات وتقارير وأخبارا. مهنة الإعلام ليست مثل الصناعات العادية التي تبيع ما تنتج. فهي تنتج مادة إعلامية، وبحجّة هذه المادة تبيع إعلانات.. وهذا وضع غريب، لأن من يمسك بالإعلانات يمكن أن يتحكّم بطريقة أو بأخرى في ما تنتجه من مادة إعلامية.

* كيف ذلك؟

- التمويل مشكلة الإعلام، من أين يأتي ولماذا؟ والتمويل يطرح سؤالا آخر يتعلّق بموضوعيّة وسيلة الإعلام، إذا افترضنا أنّ دورها هو إيصال معلومة إلى الناس. في الماضي القريب، احتكرت الحكومات هذه الوسيلة لنقل وجهة نظرها فقط، أمّا اليوم فشركات ومجموعات كبرى هي التي تحتكر. والمثال الصارخ على ذلك هو مجموعة مردوخ. الرابط بين الوسيلة والدولة ورأس المال تطوّر إذن مع التطوّرات الاقتصادية والتقنيّة.

وهذا وضع مختلف تماما عن البدايات، حتّى في العالم العربي. ففي أوائل القرن العشرين كان هناك نحو مائة صحيفة تصدر في دمشق. أمّا في عهد الاستبداد ورأسماليّة الدولة، فلم يبق سوى ثلاث صحف حكومية. والوضع ليس أفضل في البلدان العربيّة التي تهيمن عليها رأسمالية الاحتكارات حيث لا توجد سوى حفنة من الصحف.

* هل يعني هذا أنّ الاستبداد هو الذي هيأ ظروف زحف الربيع العربي الحالي إلى سوريا؟

- بشكلٍ عام، يمكن أن نعتبر أنّ الربيع السوري بخصائصه هو مفترق طرق الربيع العربي.

* كيف أنه مفترق الطرق؟

- إذا نجح الربيع السوري بقيمٍ إنسانيّة، سيتمكّن السوريّون من بناء دولة المواطنة للجميع، ودولة الحريّات والعدالة والكرامة للجميع، بما في ذلك حريّة الفكر والمعتقد، وإذا فشل فسيأتي الخريف على الجميع.

* نعود للحديث عن وسائل الإعلام في العالم العربي.. كيف ترى أحوالها؟

- في بعض البلاد العربيّة هناك عدد أكبر من الصحف، لكنّها تتبع مجموعات مالية كبيرة، هي التي تموّلها مباشرة، لأنّ نموذجها الاقتصادي لا يسمح لها بتغطية نفقاتها، ومصدر هذه الإيرادات هو الذي يحدّد وجهة هذه الوسيلة ونهجها. هذا ينطبق على الصحف ولكن أيضا على الراديو أي المذياع، ثمّ التلفاز، وخاصّة التلفاز عبر الساتل، ثمّ الإنترنت. وقد فتح تطوّر تقنيات الاتصال والمعلومات باب التواصل بشكلٍ كبير وخلق منافسة كبيرة بين وسائل الإعلام المختلفة، إلاّ أنّه زاد من أهميّة الاحتكارات. والمثال على ذلك يوجد حتّى في الإنترنت، إذ تسيطر عليه اليوم مجموعات كبيرة مثل «غوغل»، و«فيس بوك»، وهي الأخرى تبيع ما لا تنتجه، أي تبيع إعلانات. لكنّ التطوّرات التقنيّة تخلق ظواهر جديدة لم تكن موجودة من قبل. خذ مثلا ظاهرة التلفاز عبر الساتل في البلدان العربية. لقد نشأت قنوات عديدة لا يمكن منعها حسّنت التواصل بين الشعوب العربية وفتحت الآفاق، ولكنّ وسائل الإعلام هذه ليست بشكلٍ أكيد شركات عادية، لأنها تمول من قبل إمّا دول، مثل قطر بالنسبة لقناة «الجزيرة» أو فرنسا بالنسبة لقناة «فرنسا 24»، أو من قبل مجموعات مالية كبيرة وهي تخدم من يموّلها، وبالضبط تخدم الأهداف السياسية لهذا المموّل. وهناك مشكلة حقيقيّة حينما ترى أنّ المموّل غير ديمقراطي في حين تتحدّث وسيلة إعلامه عن نشر الديمقراطية.

* ما تأثير الإنترنت على الصحافة الورقية؟

- عندما بدأ انتشار الإنترنت واجهت الصحف الورقية معضلة حقيقيّة بالنسبة لنموذجها الاقتصادي. كانت هذه الصحف تشكو أصلا من ضعف المردوديّة لأنّ أكثر من ثلثي سعر المبيع يذهب في تكاليف التوزيع وشراء الورق، وهكذا يصبح ما يأتي من المبيعات ضعيفا للغاية، وربما سلبيا إذا كانت مرتجعات الأعداد كبيرة. وقد عاشت الصحافة اللبنانيّة العريقة في القدم هذه المعضلة بشكلٍ قاسٍ، إذ إن أكبرها لا يوزّع أكثر من عشرة آلاف نسخة، وبهذه الكميّة لا يمكن الحديث عن نموذج اقتصادي للصحيفة. وعندما أتى الإنترنت، تردّد أصحاب هذه الصحف بداية في نشر الصحف مجّانا على الشبكة. ولكنّ ما حدث في النهاية، أنّ التوزيع عبر الإنترنت قد جلب لهذه الصحف شهرة أوسع بل حسّن قليلا من التوزيع الورقي ومن إيرادات الإعلانات. هذا لا يعني أنّ النموذج أصبح ذا مردوديّة اقتصادية، بل على العكس ازدادت التكلفة، إلاّ أنّ الشهرة أتت بمجموعات مالية ودولٍ استخدمت هذه الشهرة لأغراضها. على الرغم من ذلك، يجب أن نتذكر أنّ هناك نموذجا معيّنا من الصحافة الورقيّة المتخصّصة له مداخيل اقتصادية حقيقيّة. مثال ذلك المجلات المتخصّصة التي توزّع عن طريق الاشتراكات مثل بعض المجلات الاقتصادية أو التقنيّة أو العلميّة. أهل المهنة يرغبونها ويشتركون فيها، وغالبا ما تكون غالية الثمن، لكنّها ضرورية.

* هناك نماذج أخرى للصحافة الورقية لم تؤثر عليها المواقع الإلكترونية؟

- هناك نموذج آخر لصحافة ورقيّة لها مردوديّة، مثل «باري ماتش» في فرنسا أو «صن» البريطانية، أو بعض المجلات التي تصور الحفلات الاجتماعية، لأن الناس تحب أن ترى نفسها في الحفلات، وهي لا تعنى بالإنترنت. وعموما هناك فرق بين ما ينشر على الإنترنت وما ينشر على الصحف الورقيّة. ما ينشر مثلا في «فيس بوك» أو «تويتر» أو «يوتيوب» من أخبار قد لا يكون أحد مسؤولا عن مصداقيّته، بل قد يكون أيضا غير صحيح، على عكس الصحيفة التي تخضع لقواعد مهنيّة وأخلاقيات ممارسة المهنة بالإضافة إلى ضوابط قانونيّة.

* كيف ترى العلاقة بين المال والسياسة والصحافة؟

- هناك علاقة قويّة بينها، وهي علاقة تأثير وسيطرة وتأثّر، سواء كانت هذه الصحافة مكتوبة أو قنوات تلفزيونية. في بعض الدول الاسكندنافية بل وحتّى في ألمانيا، يمنع القانون سيطرة مجموعات اقتصادية على الصحف ووسائل الإعلام، وفي المقابل تموّل الدولة جزئيّا وسائل الإعلام هذه بما يراعي مدى انتشارها، وتكون لها ميزانية مرصودة من قبل الحكومة، مما يشجّع على ظهور صحف صغيرة لا تطبع كميّات كبيرة. وفي حال كانت الدول ديمقراطيّة، يمكن اعتبار دعم وسائل الإعلام من قبل الدولة على أسس عادلة كحلّ لتحريرها من هيمنة السياسيين ورجال المال وإغراءات اللوبيات. لكن بشكلٍ عام، وبما أنّ الفكر المهيمن اليوم يقول إنّ السوق تنظّم نفسها، لا أحد يتساءل حقا في كثيرٍ من البلدان، والعربيّة منها بشكلٍ خاص، عن ضرورة تقنين العلاقة بين المال والسياسة ووسائل الإعلام. وهذا أمر صعب بسبب تخطّي وسائل الإعلام للحدود.

* ما أوضاع صحيفة «لوموند دبلوماتيك» التي ترأسها؟

- «لوموند دبلوماتيك»، في طبعتها العربية شيء صغير من حيث الإيرادات المالية لكنّ فعله كثير وكبير، هذه الطبعة العربية تأسست على نموذج اقتصادي يتعامل مع صعوبة إصدار الصحف في البلدان العربيّة ويحافظ على الاستقلاليّة. هكذا يستفيد النموذج الاقتصادي من وجود 22 دولة عربية، بدل أن يشكل ذلك عائقا، ففي كلّ بلد نتفق مع صحيفة من بين الصحف المحلية كي توزّعها على شكل ملحق، وبدورها تستفيد الصحيفة لأنّ ما تدفعه لـ«لوموند دبلوماتيك» أقلّ من تكلفة شرائها للمجموعة الكبيرة من المقالات لو أنّها كلّفت كتابا بها أو نقلتها من صحف أخرى. إذن الطرفان رابحان، الصحيفة الناشرة في البلد العربي و«لوموند دبلوماتيك» بالنظر إلى عدد الدول التي توزّع فيها. هكذا وصل توزيع «لوموند دبلوماتيك» في البلدان العربية إلى أكثر من 800 ألف نسخة، أي حتّى أكثر من الطبعة الفرنسية. لكنّها حالة خاصّة في وسائل الإعلام، لأن «لوموند دبلوماتيك» النشرة العربية تبيع فعلا ما تنتجه، أي مقالاتها.