أنتوني شديد.. لاحق الأخبار حتى أصبح خبرا

وفاة الصحافي اللبناني ـ الأميركي صدمت قراءه.. وتركت فراغا صعب ملؤه

أنتوني شديد يعمل على كومبيوتره المحمول تحت ضوء القمر على سطح أحد المنازل في مدينة النجف العراقية خلال تغطيته للأحداث هناك عام 2003 لصحيفة «واشنطن بوست» (أ.ف.ب)
TT

غاب هذا الأسبوع أبرز صحافي يستطيع أن يجسد أحداث منطقة الشرق الأوسط التاريخية من خلال أصوات وقصص أهالي هذه المنطقة المبتلاة بالحروب والنزاعات والمصاعب التي لا تكاد تفارق دول المنطقة. فبينما القصف مستمر في سوريا والغموض يحوم حول مستقبل مصر وليبيا، ما زالت تعاني من جراح الديكتاتورية والفوضى، فقدت الساحة الصحافية الصحافي اللبناني - الأميركي أنتوني شديد، مراسل صحيفة «نيويورك تايمز» الذي توفي الأسبوع الماضي بسبب نوبة ربو خطفته وهو في قمة عطائه، عن عمر يناهز 43 عاما ويتطلع إلى المستقبل، بعد أن بدأ يستقر في لبنان بعد طول تجوال بين مدن الشرق الأوسط.

وتوفي أنتوني شديد يوم 16 فبراير (شباط) الحالي وهو برفقة مصوره تيلور هيكس، بعد أن أمضى فترة في سوريا يغطي الأزمة فيها. وكان شديد يحاول عبور الحدود السورية إلى تركيا ولكنه أصيب بنوبة ربو سببها الحصان الذي ركبه مع هيكس للخروج من سوريا التي دخلها من دون إذن الحكومة السورية. ونقلت صحيفة «نيويورك تايمز» عن هيكس شرحه للحادث، الذي قال إنه حاول أن يساعد شديد على التنفس ولكن نوبة الربو كانت قوية وانقطعت أنفاسه. وحمل هيكس جثة شديد عبر الحدود إلى تركيا، ومنها عاد إلى لبنان حيث دفن. قصة شديد، من خلفيته العربية - الأميركية إلى موهبته الفريدة إلى حبه للحياة وصداقاته الواسعة، جعلته قصة فريدة وخبرا اهتمت به دوائر إعلامية وغير إعلامية.. وكان الشعور بالخسارة فادحا.

وغصت صفحات الصحف العالمية ومواقع الإنترنت بالإشادة بشديد، الذي برز خلال تغطيته لنزاعات عصفت بالمنطقة مثل حرب 2003 في العراق وحرب إسرائيل على لبنان عام 2006 والصراع العربي - الإسرائيلي، بينما لمع خلال العام الماضي ناقلا الثورات والاحتجاجات العربية وتبعاتها على شعوب الدول العربية إلى القارئ الأميركي. فبات المهتم بشؤون الشرق الأوسط في الولايات المتحدة، من المسؤولين في البيت الأبيض إلى الطلاب في الجامعات، يحرص على قراءة ما يكتبه شديد من المنطقة لفهمها.

وحتى العرب أنفسهم، باتوا ينظرون إلى مراسل «نيويورك تايمز» الأميركية لمعرفة قصصهم. وبينما نشرت «الشرق الأوسط» القصص الاستثنائية من شديد على صفحاتها طوال السنوات الماضية، فكان هناك موعد لإجراء مقابلة معه هذه الأيام حول تغطيته الصحافية وتجربته الفريدة. وبينما تسلم الأسئلة عبر البريد الإلكتروني وبعث الصور للحوار، لم يشأ القدر أن يتم الحوار.

وهذه القصة البسيطة كغيرها من قصص لمن عرف شديد وتعامل معه، الوقت داهم الجميع ووفاته جاءت صدمة غير متوقعة. فهناك قصص عالقة، من بيت جده الذي رممه للتو وحلم بزيارة ابنته ليلى له، إلى القصص التي لن يكتبها عن نتيجة الثورات العربية، وستبقى عالقة.

وبعد أن كان شديد يلاحق الخبر أينما أخذه، ولكن الخبر الذي كان يلاحقه ليس تصريحا لمسؤول أو قمة كبيرة، بل خبر الإنسان البسيط الذي يصبح عالقا بين أحداث تاريخية وقوى عالمية وحياته تنهار حوله. فعندما تم تفجير شارع المتنبي في بغداد في مارس (آذار) 2007، أهم المعالم في العاصمة العراقية ورمزا للثقافة والحياة فيها، لم يكتب شديد عن شارع المتنبي كحادث أمني يدل على التردي في الأوضاع السياسية والأمنية في العراق، بل كتب عن بائع الكتب محمد حياوي، رجل أصلع طويل القامة صادق شديد، الذي تعرف عليه عام 2002، قبل الحرب على العراق وعاد ليزوره مرات عدة في مكتبته التي حملت اسم «مكتبة النهضة».

إلا أن تفجير شارع المتنبي أدى إلى مقتل حياوي وإلى تدمير جزء جديد من بغداد والصورة المعروفة عنها. وشرح شديد في مقاله المطول حول حياوي والذي حمل عنوان «قصة بائع الكتب، انتهت مبكرا جدا»، سبب رواية قصته، وقال: «على عكس الجنود الأميركيين الذين يموتون في هذا النزاع، أسماء غالبية الضحايا العراقيين لن تنشر وستبقى مرتبطة بالحالة المجهولة التي صار يجلبها الموت في العاصمة العراقية هذه الأيام».

وأضاف: «حياوي لم يكن سياسيا أو قائد حرب، أقلية خارج شارع المتنبي حتى يعرفون اسمه، ولكن حياته الهادئة تستحق أكثر من إشارة بسيطة، علينا أن نتذكر رجلا احتضن ما كانت بغداد تمثله وحاول أن يفهم دولة لم يعد من الممكن فهمها». وأضاف: «ذهبت معه اللحظات الصغيرة من الحياة، اللحظات الهادئة لأنها عادية، ضاعت الآن في الركام المنتشر على الشارع الذي تغير إلى الأبد».

قصة حياوي قصة إنسانية كررها شديد في الصحف التي عمل وبرز فيها، أولا «بوسطن غلوب» وبعدها «واشنطن بوست» قبل أن ينتقل إلى «نيويورك تايمز» في ديسمبر (كانون الأول) 2009. ولكن بدأ شديد عمله في وكالة «أسوشييتد بريس» عام 1990، ملتزما منذ البداية بتغطية الشرق الأوسط، إذ كان من صغره يعلم أنه يريد أن يكون مراسلا في المنطقة.

وكانت اللغة العربية مفتاح شديد للتعامل مع العرب في دول مختلفة وجعل من يقابلهم يرتاحون له وهو يتحدث إليهم بحرارة الصديق. كان يطلب من الذين يتعرفون عليه أن ينادوه بـ«أبو ليلى»، كاسرا الحواجز بين الصحافي والمشاهد.

واعترف نظراء شديد بموهبته الفريدة، إذ حصل مرتين على جائزة «بوليتزر» المرموقة، الأولى عام 2004 والثانية 2010، وفي المرتين لتغطيته أحداث العراق. وكانت هذه الجوائز دليلا على التقدير لعمله لكنها جعلته أكثر حماسا على إعطاء المزيد لقرائه.

ويؤكد أصدقاء شديد والمقربون منه أنه لم يكن يبحث عن الإثارة أو عن الحروب، بل كان يريد نقل قصص البسطاء ويشعر بأن واجبه الأول توصيل صوت من ليس لديه صوت إلى العالم. وهذه الرغبة عرضت حياته للخطر مرات عدة. فبينما كان يغطي محاصرة الرئيس الفلسطيني السابق ياسر عرفات في مجمعه في رام الله في 2002، أصيب بطلقة في ظهره ولكنه أصر على مواصلة عمله.

وفي بداية العام الماضي، كان شديد من بين أربعة صحافيين أجانب احتجزتهم قوات الزعيم الليبي السابق معمر القذافي لمدة أسبوع. وتحدث شديد عن المعاناة التي تعرض لها هو وزملاؤه ولكن في الوقت نفسه لم يكن يريد أن يظهر بأنه بطل. همه كان الكتابة. وتقول مدرسته في الثانوية «هيريتدج هول» المعلمة لين رولر إن «أنتوني كان شخصا استثنائيا، وأعتبر من الشرف أنني كنت مدرسته وصديقته». وأضافت: «من خلال كتاباته ومن خلال عيشه لحياته، علمنا التواضع والرحمة والمسؤولية والطيبة والحب والاحترام، يمكننا أن نحيي ذكراه من خلال الطموح إلى هذه الميزات وخلق عالم خال من العنف والإرهاب».

وعلى الرغم من سفره حول العالم، بقي شديد مرتبطا بمدينة أوكلاهوما الأميركية التي ولد فيها لعائلة لبنانية هاجرت إلى الولايات المتحدة في بداية القرن الـ20، ولكن ما زال ارتباطها بلبنان قويا. ووالده بادي ووالدته روندا شديد ما زالا على قيد الحياة، بينما لديه شقيق يدعى ديمون وشقيقة تدعى شانون. ودرس في جامعة «ويسكونسون - ماديسون» وحصل على شهادة البكالوريوس فيها. وحصل بعد سنوات على شهادة دكتوراه فخرية من الجامعة الأميركية في بيروت.

وكان قد تزوج قبل عامين من ندى بكري، زميلته في صحيفة «نيويورك تايمز»، إذ رزقا بولد. وكان قد رزق بابنة سماها ليلى من زواج سابق انهار قبل بضع سنوات.

وكتبت زوجته، ندى بكري، على موقع «تويتر» بعد يومين من وفاته لتعبر عن امتنانها لكل التعازي التي تسلمتها وعائلته. وقالت: «أحب وأقدر كل رسائلكم، إنها عزائي. كان لديه الكثير من العطاء، فقط لو كان لديه الوقت الكافي». وعادت بعد يومين من ذلك لتجيب على الآلاف من الرسائل الموجهة لها حول زوجها، قائلة: «شكرا مرة أخرى، قراء وأصدقاء وزملاء ومعجبين لدعمكم ومشاعركم، سيبقى أنتوني معنا دائما. معي أنا».

ومن مفارقات الحياة، أن شديد توفي قبل أسابيع من نشر كتاب جديدا أشبه بالسيرة الذاتية، يحمل اسم «بيت من الحجر: مذكرات بيت وعائلة وشرق أوسط مفقود». فبينما كان من المتوقع نشر الكتاب الشهر المقبل، أعلنت دار النشر «هوتون ميفلين هاركورت» أول من أمس أن موعد النشر تقدم إلى 28 من الشهر الحالي. وسيكون هذا الكتاب، وهو الثالث لشديد، آخر عمل يقدمه شديد لقرائه وللعالم للتعبير عن مفاهيم الحب والوطن والهوية.

وبعد أن غطى شديد الحروب والنزاعات لسنوات عدة، بات يحن إلى الشعور بالطمأنينة وهذا ما وجده في بلدة أجداده مرجعيون. فبعد أن غطى الحرب الإسرائيلية على لبنان، بدأ شديد يفكر بجدية بالانتقال بشكل دائم إلى مرجعيون.

ونشرت صحيفة «وول ستريت جورنال» وصف شديد لعودته إلى بلدة أجداده والكتابة عنها، قائلا: «كانت دائما فكرة في ذهني أن أفعل شيئا حول منزل عائلتنا في بلدة مرجعيون، فحتى بعد الحروب والهجرة، كانت منطقة فاخرة، والفكرة التي شدتني كانت أن نعيد إحياء أمر غاب.. وبعد أن انتهى النزاع الذي وضع حزب الله ضد إسرائيل.. توجهت إلى منزل جدتي في المدينة.. وتوجهت إلى شجرة تاريخية، وبينما جلست إلى جوارها سقطت حبة زيتون بجواري.. وكانت هذه لحظة في غاية الأهمية حتى بعد سنوات. فبعد إراقة الدماء والخسارات كنت أخيرا أشاهد مشهدا ساكنا.. وشعرت بأنني هنا أردت أن أكون». وأضاف: «بعد عام، كنت أعيد بناء البيت».

وقصة هذا البيت هي قصة أنتوني شديد، الذي مثل السكينة والمنطق وسط القنابل والقتل والغموض والخوف، وكان دائما يبحث عما يثير التفاؤل والنظر إلى المستقبل مع معرفة أهمية الماضي ووقعه على الحاضر.

* قالوا عن أنتوني شديد

*نائب الرئيس الأميركي جوزيف بايدن: «لقد قضيت جزءا كبيرا من حياتي المهنية أعمل على السياسة الأميركية حول الشرق الأوسط، وخاصة العراق. كغيري من الملايين من القراء حول العالم، لقد أثرت تغطية أنتوني شديد معرفتي لهذه المنطقة المعقدة، تماشيا مع التقليد الأفضل لصحافة الشؤون الخارجية، شديد لم يكن راضيا أبدا بإعطاء الآراء من بعيد.. إنه ذهب أينما أخذته القصة، من سقوط (الرئيس العراقي السابق) صدام حسين إلى ساحات معارك جنوب لبنان إلى التغييرات المهمة التي جلبها الربيع العربي، عادة بمخاطر شخصية استثنائية. القليل من المراسلين من جيله، أو من أجيال أخرى، استطاعوا أن يضاهوا براعته في فهم لغة وثقافات المنطقة التي غطاها. إنه استخدم هذه المواهب للتواصل مع هؤلاء البعيدين من أروقة السلطة، ليعطي صوتا لعراقيين ولبنانيين ومصريين وآخرين. قد لم نستمع إليه لو لم يفعل ذلك».

*المحررة التنفيذية لصحيفة «نيويورك تايمز» جيل إبرامسون وهي تبلغ زملاء شديد بوفاته: «لدي أخبار تفطر القلب، لقد توفي أنتوني شديد، زميلنا الرائع والمحبوب، بسبب نوبة ربو خلال تغطيته داخل سوريا.. أنتوني مات مثل ما عاش مصرا على شهادة التحول الذي يعم الشرق الأوسط ومصرا على أن يشهد معاناة الناس العالقين بين قمع الحكومات والقوات المعارضة».

*الصحافي الأميركي لدى «فورن بولسي» راجيف تشاندراسيكارن: «وفاة أنتوني شديد حرمت الصحافة الأميركية من الصحافي المختص بالشؤون الخارجية الأكثر موهبة في جيله، تغطيته للشرق الأوسط، من العراق ولبنان وليبيا وغيرها، كانت ببساطة الأفضل. إنه وضع المعيار الأفضل، إذا كنت تهتم بالمنطقة وتريد أن تفهم حقا ما يحدث، كنت تقرأ (ما يكتبه) أنتوني».

*شهادة لجنة «بوليتزر» بعد منحه الجائزة في عام 2004: «الجائزة منحت لأنتوني شديد من صحيفة (واشنطن بوست) لقدرته الاستثنائية على اقتباس أصوات ومشاعر العراقيين، بينما تم غزو بلدهم وتم إسقاط رئيسهم وطريقة حياتهم قلبت، معرضا نفسه للخطر».

*الصحافي الأميركي مايكل هاستينغز: «إنها خسارة لا تحتم. الصحافي الأقرب إلى الأسطورة، رجل لديه زوجة وعائلة، كرس حياته لتغطية العقد الماضي للحرب، قد رحل.. حول الكتابة الصحافية إلى أمر أشبه بالفن، كان من النوادر من الفنانين الملتزمين بالمواعيد النهائية للنشر، قصصه اليومية والأسبوعية كانت أقرب إلى النثر من مقالات محدودة بعمود».

*الصحافي بوبي غوش من مجلة «تايم»: «كانت موهبة توني الأعظم فضوله الذي لم يكن له حدود، وتعاطفه العميق لأناس عاديين في أوضاع غير عادية. كانت صحافته مليئة بهذه الميزة وثرية بسببها. نعم إنه قابل رؤساء دول وشخصيات معروفة، ولكن معرفته بحياة العراقيين واللبنانيين والمصريين والليبيين والسوريين جعلته الصحافي الأفضل الذي يغطي الشرق الأوسط».

*الصحافي كريتسوفر ديكي من مجلة «نيوزويك»: «وفاة الصوت العاقل الأفضل في الشرق الأوسط.. أنتوني كان هادئا ومفكرا وكريما جدا.. لم يكن يسعى وراء الإثارة ولم يكن يحب الحروب، كان حريصا حول المخاطر التي أخذها. ولكن من أجل رؤية القصص بشكل مباشر، بينما آخرون يسمعون بها فقط، كان عليه النجاة من الكثير: رصاصة في الظهر في الأراضي الفلسطينية، الضرب والخوف من الإعدام في ليبيا، والكثير من اللحظات القريبة إلى المواقف التي تأتي مع تغطية الحروب ولكن التي لا تنشر أو حتى تدخل في أحاديثه.. الكثيرون يتحدثون عن شجاعته، وهذا أمر مستحق. ولكن الرمز الأبرز لشجاعته كان التزامه بالعقل والمنطق. هناك قلائل من الذين يتحدثون أو يكتبون أو حتى يفكرون بالعقل والمنطق حول الشرق الأوسط، والآن خسرنا من أفضلهم، وربما الأفضل».

*شقيقه ديمون شديد: «عندما كان أطفالا كان يحب الاستكشاف.. أدعوكم لإعادة قراءة بعض أعماله وأن تروها في أعين ذلك الطفل الذي عشق التجول والاستكشاف».