ماري كولفين.. نجت بأعجوبة من الحرب الأهلية في سريلانكا لتقتل في سوريا

عرفت بقوة شخصيتها وشجاعتها.. وجالت العالم بحثا عن قصص إنسانية وسط الموت

ماري كولفين لدى اجتماعها مع سيف الاسلام نجل الزعيم الليبي معمر القذافي في طرابلس مارس 2011 (رويترز)
TT

كانت الصدمة ظاهرة صباح أمس على وجوه الصحافيين البريطانيين المجتمعين لحضور ندوة في لندن حول الأوضاع في المنطقة العربية، إذ كان خبر مقتل زميلتهم ماري كولفين قد وصل للتو.

الخبر كان مثل الصاعقة.. كولفين قتلت في حمص عندما كانت في منزل أصبح مركزا للنشاط الإعلامي في حمص التي تتعرض لقصف قوات النظام السوري والقتال. سرعان ما تبادل صحافيون في لندن ذكرياتهم حول العمل مع كولفين، التي جالت ساحات القتال خلال السنوات الماضية لتقدمها كل أسبوع في صحيفة «صنداي تايمز» الواسعة الانتشار كل يوم أحد في بريطانيا، والتي يقرأها الملايين عبر الإنترنت. كولفين، المعروفة بشجاعتها وقوة شخصيتها، كانت من بين المراسلين النادرين القادرين على رؤية الحياة وسط الموت، تخاطر بحياتها من جهة، وبينما تحترم قدسية حياة الآخرين.

وخبر وفاة كولفين، بعد أسبوع من وفاة الصحافي الأميركي اللبناني الأصل أنتوني شديد في سوريا أيضا، ولكن هذه المرة بسبب نوبة ربو، جاء في وقت يشعر الصحافيون، وخصوصا المختصون في تغطية الشرق الأوسط، بحالة ضعف محددة، إذ بات الصحافيون مستهدفين من أطراف مختلفة.

وكانت كولفين قد عبرت الحدود اللبنانية - السورية يوم 14 فبراير (شباط) مستعينة بمهربين بعد أن فشلت في الحصول على تأشيرة دخول (فيزا) رسمية من وزارة الخارجية السورية، فقررت، ومعها مصورها البريطاني، بول كونروي، الاستعانة بمهربين لإدخالها حمص، وحي بابا عمرو تحديدا، حيث يصعب الحصول على معلومات محددة عما يجري فيها. ووصفت في عدد «صنداي تايمز» الأسبوع الماضي الأوضاع في حمص، مركزة على الأرامل ومعاناتهن في المدينة. ومن حمص، كانت تقوم بمقابلات مع وسائل إعلام أجنبية لتنقل ما تراه على أرض الواقع.

وكان وزير الثقافة الفرنسي، فريدريك ميتران، قد أعلن أن صحافيين اثنين قتلا في حمص، وهما كولفين والمصور الفرنسي ريمي أوشليك. وقال الوزير للصحافيين لدى خروجه من مجلس الوزراء: «قتل 106 صحافيين هذا العام، والآن أميركية تدعي ماري كولفين، وريمي أوشليك الذي قتل في حمص وهو يؤدي عمله كمصور صحافي.. هذا شيء محزن جدا». ويذكر أن كونروي أصيب أيضا، ولكن لم تعرف على الفور مدى إصابته أو إذا كان بالإمكان إخراجه من حمص.

ولكن مقربين منها يصفون شعورها بالخوف والخشية مما يحدث في سوريا، ناقلين اعترافها بضبابية الأوضاع هناك ومخاطر الدخول من دون إذن في حمص التي باتت منقطعة عن غيرها من مدن سوريا.

«أريد فقط أن أدخل، وأن أنهي الأمر، وأن أخرج».. هكذا وصفت كولفين قلقها من الدخول إلى حمص للصحافي نيال ماكفاهرر من صحيفة «نيويورك تايمز» عندما التقيا في بيروت عشية سفرها إلى سوريا.

وتصف صحيفة «صنداي تايمز» الصحافية الراحلة بأنها «أميركية أصبحت من أكثر صحافيي الحرب احتراما في فليت ستريت»، في إشارة إلى اسم الشارع الذي - تاريخيا - كان مقرا للصحف البريطانية.

وأبلغ رئيس التحرير لصحيفة «صنداي تايمز»، جون ويثرو، موظفيه صباح أمس بخبر وفاة كولفين، قائلا إن «ماري كانت شخصية استثنائية في حياة (صنداي تايمز)، مدفوعة بشغف لتغطية الحروب، مؤمنة بأن ما تقوم به أمر مهم».

وأضاف: «إنها كانت تؤمن بشدة بأن التغطية تستطيع أن تقلل من فظائع الأنظمة البشعة وأن تجعل المجتمع الدولي ينتبه».

وكانت كولفين معروفة لأدائها الصحافي، ولكن أيضا لمظهرها المختلف عن باقي الصحافيين، إذ كانت ترتدي بقعة قماش تغطي عينها اليسرى التي فقدتها عندما أصيبت بشظايا خلال تغطيتها للحرب الأهلية في سريلانكا عام 2001. وعلى الرغم من إصابتها التي كانت خطيرة للغاية، استطاعت كولفين أن ترسل تقريرا من 3 آلاف كلمة لمحررها لينشر في عدد ذلك الأسبوع.

ومنذ تلك الحادثة، ارتدت كولفين البقعة السوداء لتغطي عينها، ولتكن أبرز دليل على مخاطرتها بحياتها وشجاعتها الاستثنائية. وكانت كولفين، وعمرها 56 عاما، تعتني بمظهرها دوما، ولكن تحرص على ارتداء الملابس الأنيقة والبسيطة، غير راغبة بجذب الانتباه لنفسها بل لقصصها.

ولكن لم تكن كولفين غربية على حالات النزاع والقتال والحرب؛ فقد قضت أكثر من 20 عاما تغطي النزاعات والحروب. ومن بين النزاعات التي غطتها كولفين ونقلتها إلى قراء في بريطانيا وحول العالم، النزاعات في الشيشان والبلقان وتيمور الشرقية وفلسطين والعراق وليبيا. وغطت كولفين أحداث مصر خلال الثورة وكتبت عنها كثيرا. وحصلت كولفين على جائزة «المراسلة الأجنبية للعام» في عام 2010، التي تمنحها لجنة «جوائز الصحافة البريطانية». وكانت قد حصلت على هذه الجائزة عام 2001.

وكانت كولفين تعي أهمية المراسلين في وقت تتصاعد فيه حدة النزاعات والقتال. وقالت في خطاب في نوفمبر (تشرين الثاني) 2010 في حفل إحياء ذكرى 49 صحافيا وإعلاميا قتلوا خلال تغطيتهم للنزاعات في العقد الأول من القرن الـ21. وقالت إنه على الرغم من التغييرات في التقنيات والتفاصيل، فإن «المشهد على الأرض بقي على نفس الحال منذ المئات من السنوات: الحفر، والبيوت المحروقة، والأجساد المشوهة، والنساء الباكيات على أطفالهن وأزواجهن، والرجال الباكون على زوجاتهم».

وأضافت: «مهمتنا نقل هذه المشاهد البشعة من الحرب بدقة ومن دون عنصرية.. علينا أن نسأل دائما إذا كان مستوى الخطر يضاهي أهمية القصة، ما هي الشجاعة وما هي ظواهر التبجح؟». وتابعت: «لم يكن الوضع أخطر بأن يكون المرء مراسلا حربيا، لأن الصحافي في ساحة القتال أصبح هدفا رئيسيا».

وقاد رئيس الوزراء البريطاني، ديفيد كاميرون، التعازي حول كولفين، قائلا: «إنه تذكير شديد الحزن للمخاطر التي على الصحافيين خوضها لتعريف العالم بما يحدث والأحداث الشنيعة في سوريا».

ووصفها روبرت مردوخ، رئيس شركة «نيوز كوربوريشن» العملاقة المالكة لصحيفة «صنداي تايمز» بأنها «من أبرز المراسلات في جيلها». وقال مردوخ في بيان أمس: «ماري غطت الحروب حول الشرق الأوسط وآسيا الجنوبية خلال 25 لصحيفة (صنداي تايمز)، إنها خاطرت بحياتها مرات عدة لأنها كانت مدفوعة بعزم بأن أخطاء المتسلطين ومعاناة الضحايا يجب أن يتم تغطيتها وتكشف».

ولكن التصريح الأكثر حزنا كان من والدتها روزماري كولفين، التي قالت إنها «أرادت أن تنجز قصة أخيرة» قبل أن تغادر. كان من المفترض أن تترك يوما قبل وفاتها، ولكن إصرارها على إكمال مهمتها أبقاها في حمص.

وتحدثت روزماري كولفين إلى الصحافيين من منزلها في نيويورك، حيث ولدت ماري، ونقلت وكالة «أسوشييتد بريس» عنها القول: «أتحدث إلى الصحافيين لأني لا أريد القول إنه ليس لدي تعليق. كانت هي تصر على التعليق».

وأضافت: «إرثها سيكون: اشعروا بالعاطفة والحماس وانخرطوا بحماس بما تقومون به بصدق ودقة وشجاعة».