مردوخ.. الرجل الذي يجري الحبر في عروقه

خالف الاتجاه السائد في بريطانيا وأصدر صحيفة ورقية جديدة

روبرت مردوخ يحمل الطبعة الأولى من صحيفة «صن أون صنداي» (أ.ب)
TT

في السابع عشر من فبراير (شباط) الحالي، أعلن روبرت مردوخ عن عزمه تدشين أول صحيفة قومية في المملكة المتحدة منذ سنوات. وفي الوقت الذي يمثل فيه العدد الأول من الصحيفة للطبع، يتساءل المهتمون بالشأن الإعلامي عما يعنيه هذا الحدث بالنسبة لمردوخ ولشارع الصحافة ومستقبل الصحافة الورقية.

وأخذت سيارة «رانغ روفر» الفارهة تشق حي وابينغ، حيث مقر الصحيفة، وهي تحمل أشهر قطب إعلام، مخلفة وراءها مجموعة كبيرة من المصورين الصحافيين. وخرج المليونير الشهير الثمانيني، روبرت مردوخ، من سياراته وسط الجموع. وبعد ثمانية أشهر ساخنة اضطر خلالها إلى إغلاق صحيفته الشهيرة «نيوز أوف ذا وورلد»، التي تأسست منذ 168 عاما، وقبول استقالة بعض أهم معاونيه الذين يحظون بثقته وتقديم أدلة خلال استجواب أمام البرلمان بشأن ممارسات الصحيفة وتعرضه لهجوم بفطيرة الرغوة من قبل رجل، عليه الآن مواجهة مجموعة عدوانية من الصحافيين ورؤساء التحرير.

شعر طاقم عمل صحيفة «ذا صن» بالقلق من الاعتقالات الأخيرة التي حدثت لزملائهم بعد تسريب «نيوز كوربوريشن»، الشركة الأم لصحيفة «ذا صن»، معلومات عن عملهم ومصادرهم إلى الشرطة، مما جعلهم يشعرون بأنهم على خط النار ولا يتمتعون بحماية مردوخ وفريق عمله ويخشون على مستقبلهم.

وكثرت التكهنات بأن مردوخ ضحى بهم في سبيل حماية مصالحه في أميركا. وصرح أندرو نيل، الخبير الإعلامي، لمحطة «سي إن إن» قائلا: «يبدو أنه مستعد للتضحية بالصحافيين والصحافة في لندن حتى يتنصل من أي أعمال مشبوهة من أجل وضع أفضل في الولايات المتحدة». وعدل مردوخ من وضع قبعته السوداء وطوى نسخة من صحيفة «صن أون صنداي» تحت إبطه ودخل المبنى.

وفي غضون أقل من ساعتين، بدأت الأخبار تتسرب من الداخل في البداية كقطرات مطر، ثم كالسيل. وبعيدا عن محاولته أن ينأى بنفسه عن صحيفة «ذا صن»، اتخذ مردوخ خطوة جريئة في مجال الإعلام بإعلانه عن تدشين صحيفة جديدة هي «صن أون صنداي». ولا يقتصر الأمر على ذلك، حيث سمح بعودة صحافيي «ذا صن» إلى العمل بعد فترة وقفهم عن العمل على خلفية اعتقالهم. وسيظل مردوخ في لندن خلال الأسابيع القليلة المقبلة للمساعدة في تدشين الصحيفة الجديدة والتضامن مع العاملين بالصحيفة. وأخبر الصحافيين المبتهجين في رسالة داخلية بالبريد الإلكتروني بقوله: «واجبنا أن نحقق توسعا في واحدة من أكثر الصحف انتشارا في العالم والوصول إلى عدد أكبر من القراء. إن تقديم صحيفة ناجحة هو أبلغ رد على منتقدينا».

وتبين فيما بعد إصدار عدد تجريبي من الصحيفة من ثلاثة ملايين نسخة وهو ما يعد بمثابة تعهد طموح من قبل مردوخ. بوجه عام كانت ردود فعل وسائل الإعلام البريطانية تجاه تدشين الصحيفة الجديدة إيجابية، عادة ما يكون أي شخص يدشن صحيفة جديدة، خاصة في سوق يتوقع فيها نهاية الصحافة الورقية، محل ترحيب واحتفاء شارع الصحافة خاصة إذا كان من أكثر الشخصيات خبرة في هذا المجال.

ويبدو توفير وظائف للصحافيين وتعزيز مكانة السلطة الرابعة نبأ سارا بالنسبة إلى أكثر الخبراء في هذا المجال، فهناك إجماع على أن ما قام به مردوخ أمر رائع. وقال روي غريسليد، بصفته معلق أخبار قديما، في صحيفة الـ«غارديان»: «بعدما لاحت هزيمة روبرت مردوخ، نهض المقامر العجوز وفاجأنا وأخرج ورقتي لعب، فبإعادة صحافيي (ذا صن) إلى العمل هدأ الثورة المشتعلة في صفوفهم، وبتعهده بتدشين صحيفة (صن أون صنداي) سيؤكد للعاملين بالصحيفة التزامه طويل الأجل تجاه الصحيفة وإمبراطوريته في المملكة المتحدة».

الأهم من ذلك من وجهة نظر مردوخ هو أن الشعور بأن «صن أون صنداي» سوف تمنح مؤسسة «نيوز إنترناشيونال» الفرصة للتأكيد على التزامها بالممارسات الصحافية النظيفة بعيدا عن الأساليب البغيضة الكريهة.

وكما قالت مجموعة «هاكد أوف» الدعائية «تمثل هذه الصحيفة فرصة لمؤسسة (نيوز إنترناشيونال) لتوضح أنها بدأت صفحة جديدة وسوف تلتزم بالقانون والمهنية».

يبدو مردوخ مثل أستاذ قديم ذي لفتات عظيمة، فمنذ رهانه الأول بشراء صحف أسترالية مما جعل منه واحدا من أكثر رجال الأعمال نفوذا في عالم الإعلام وهو لا يزال في الثلاثينات من العمر إلى استحواذه على «ذا صن» و«نيوز أوف ذا وورلد» والـ«تايمز» و«صنداي تايمز» ووصولا إلى معاركه مع اتحاد الصحف البريطانية في فترة الثمانينات، غالبا ما يخاطر سعيا وراء تحقيق أرباح هائلة. ولم تحقق كل المشاريع أرباحا مجزية في كل الأوقات، حيث اشترت مؤسسة «نيوز كوربوريشن» «ماي سبيس» مقابل 580 مليون دولار وهو ما كان يمثل خطوة جريئة للغاية باتجاه مجال مواقع التواصل الاجتماعي، لكن المشروع لم ينجح وبيع الموقع فيما بعد مقابل 35 مليون دولار. ولم تتضح بعض النتائج النهائية لقراره بعدم إتاحة محتوى صحيفة الـ«تايمز» بالكامل على الإنترنت وهو من المتوقع أن يخفض عدد قراء النسخة الإلكترونية من الصحيفة، لكنه سيزيد من مبيعات المحتوى.

التحديات التي تواجه أي شخص يدشن صحيفة تصدر يوم الأحد على مستوى العالم في المملكة المتحدة كبيرة. ويعود تدشين آخر صحيفة كبيرة إلى أبريل (نيسان) عام 1987، عندما دشنت مجموعة من التيار اليساري من بينهم نجوم في عالم الصحافة مثل جون بيلغر صحيفة «نيوز أون صنداي» صغيرة الحجم والتي حاولت الابتعاد عن الصحف الكبرى من هذا النوع. ولم تستطع الصحيفة الاستمرار لأكثر من سبعة أشهر. ويأتي تدشين مردوخ للصحيفة في وقت يتزايد فيه عدد الأشخاص الذين يفضلون قراءة النسخ الرقمية من الصحف، سواء كان ذلك على الإنترنت أو على أجهزة الـ«آي باد» والقارئات الإلكترونية، لذا يتقلص عدد الذين يستعدون لدفع المال مقابل نسخ ورقية يوما بعد يوم.

وفي عصر تقع فيه ممارسات الصحف داخل بؤرة الضوء، ربما يكون من الصعب تحقيق سبق صحافي يجذب الأنظار وأخبار مثيرة كانت تقع في نطاق تخصص صحف الإثارة التي تصدر يوم الأحد. إضافة إلى هذه التحديات، هناك تحد آخر من صنع مردوخ، فبمجرد أن تم الإعلان عن أن سعر صحيفة «صن أون صنداي» سيكون 50 بنسا، وهو ما أكده مردوخ على «تويتر»، بدأ الخبراء في هذا المجال يتحدثون عن حرب أسعار، حيث توجد صحف إثارة أخرى تصدر يوم الأحد بسعر أكبر من السعر المذكور بثلاثة أمثال. على سبيل المثال يبلغ سعر صحيفة «ميل أون صنداي» 1.50 جنيه إسترليني، وسعر صحيفة «بيبول» جنيه إسترليني، وسعر «صنداي إكسبريس» 1.20 جنيه إسترليني.

وفي اليوم الذي صدرت فيه صحيفة «صن أون صنداي»، خفضت صحيفة «بيبول» سعرها بمقدار النصف، حيث وصل سعرها إلى 50 بنسا، وربما تحذو الصحف الأخرى حذوها. وسيرغب مردوخ في استعادة قراء صحيفة «نيوز أوف ذا وورلد» التي عادت إلى «صنداي ميرور» و«ستار أون صنداي» أو ربما يمتنع عن شراء أي صحيفة تصدر يوم الأحد.

ومن جهتها، تتوقع راشيل لامب، وهي صحافية سابقة وأكاديمية حالية في وسائل الإعلام، أن إصدار صحيفة «صن أون صنداي» سيكون له تأثير كبير على الصحف الأخرى على المدى الطويل. وأضافت «ستكون هناك حرب أسعار ضخمة خلال الأيام المقبلة، وأعتقد أن هذا التأثير سوف يمتد إلى الصحف كبيرة الحجم (برودشيت)، وسينظر الجميع لما سيحدث في صحيفة (صن أون صنداي). يستهدف مردوخ مليوني قارئ للصحيفة الجديدة، وهو ما سيؤثر على الجميع بصورة كبيرة».

وتعتقد لامب أن إصدار صحيفة جديدة سيكون بمثابة شيء جيد للصحافة البريطانية بصفة عامة. وتضيف «أنا متحمسة للغاية لذلك، وأعتقد أن تحقيق ليفيسون في الممارسات الصحافية لم يقدم لصناعتنا أي معروف وأنه أثر على الصحافيين الجيدين في صحيفة (ذا صن) وصحيفة «نيوز أوف ذا وورلد» والذين يتمتعون بسمعة جيدة ويقومون بأداء جيد، كان لهذا التحقيق أثر كبير عليهم، وسيكون من الرائع حقا أن تتمتع الصحافة المطبوعة بمستقبل أكثر إشراقا بسبب إصدار هذه الصحيفة الجديدة».

ومن المؤكد أنه إذا كان هناك من مخلص للصحافة المطبوعة في المملكة المتحدة، فلن يكون هذا المخلص من الصحف كبيرة الحجم. ويقول روب شارب، وهو صحافي مستقل وموظف سابق بصحيفة «الإندبندنت»: «الصحف كبيرة الحجم في تدهور مستمر من حيث نوعية الأخبار التي تقدمها، وأعتقد أنها لا تملك الموارد اللازمة. وقد تنظر الصحف كبيرة الحجم للصحف المصغرة (تابلويد) نظرة احتقار وازدراء، ولكن الصحف المصغرة تحظى بشعبية كبيرة وتجذب قراء أكثر، وقد ينظر الصحافي الذي يعمل في الصحف المصغرة إلى صحيفة (الإندبندنت) على سبيل المثال، ويقول إن هذه الصحيفة لا تحظى بشعبية كبيرة».

والسؤال الآن هو: كيف كان العدد الأول من صحيفة «صن أون صنداي»؟ وفي الواقع، كان العدد الأول من الصحيفة عددا ضخما يضم 92 صفحة وملحقا من 28 صفحة عن كرة القدم وملحقا «رائعا» عن المجلات (وهو ما اعتادت صحيفة «نيوز أوف ذا وورلد» على تقديمه قبل إغلاقها). وضمت الصحيفة الرئيسية 12 صفحة كاملة من الإعلانات، علاوة على عدد كبير من الإعلانات المتفرقة. لقد حظيت الصحيفة بدعم تجاري كبير، وهو ما يعد إشارة جيدة بالنسبة لمردوخ. أما من وجهة النظر التحريرية، فتشعر بأن هناك نوعا من الارتباك، حيث إن الخبر الرئيسي لغلاف المجلة (الذي يمتد لأربع صفحات بالداخل، وسوف يتم نشر بقيته في اليوم التالي) هو عبارة عن مقابلة شخصية مع نجمة التلفزيون أماندا هولدن، وهو ما سيحظى باهتمام قليل من جانب هؤلاء الذين لا يحبون برنامج «اكتشاف المواهب».

وعلاوة على ذلك، لم يحتو العدد على كثير من الأخبار المثيرة أو الانفرادات الصحافية، وكان أفضل ما نشرته الصحيفة هو الخطة البريطانية للحرب على إيران، والتي كتبها المحرر السياسي. وفي الواقع، كان التعليق على الأحداث فقيرا بعض الشيء، كما تم تخصيص صفحة كاملة لعارضة الأزياء المثيرة للجدل كاتي برايس. وكتب جون سينتامو، وهو رئيس أساقفة نيويورك، بعض الكلمات التي ترحب بقراء العدد الأول من الصحيفة. ومع ذلك، ضم العدد محتوى محترما ورائعا عن المشاهير، وبعض الأخبار التي تثير حالة من «الغضب» مثل (ادفع مليون جنيه إسترليني لكي نبقي أبو قتادة الشرير في المملكة المتحدة)، وهناك عمود رائع للكاتب توبي يونغ، علاوة على تغطية رائعة لنمط الحياة والأخبار الرياضية.

في الواقع، كان العدد الأول جيدا، على الرغم من أنه يعد عددا تجريبيا للصحيفة، ولكن ما هي الاستراتيجية التي يتعين على صحيفة «صن أون صنداي» اتباعها خلال السنوات المقبلة؟ وعن ذلك تقول لامب «أعتقد أن الجميع سيركز على الجانب الأخلاقي للصحيفة. ومن الواضح أنه يتعين على الصحيفة البحث عن الأخبار الكبيرة والمثيرة والانفرادات لكي تزيد من مبيعاتها، ولكن في نفس الوقت يجب عليها أن تثبت أنها قادرة على القيام بذلك من دون التنصت على هواتف الناس ومن دون أن تخدعهم. وتملك الصحيفة فرصة رائعة لتثبت ذلك، وسوف أكون مهتما للغاية لأرى مدى حسن النية التي سيتمتع بها قراء صحيفة (نيوز أوف ذا وورلد)».

وأضافت لامب «تقدم الصحف كبيرة الحجم التي يتم إصدارها يوم الأحد تعليقا على الأحداث التي شهدها الأسبوع، علاوة على بعض التحليلات. ولكن ليس بالضرورة أن تقوم تلك الصحف بالحديث عما يريده سائقو الشاحنات البيضاء مثلا، والذين لا يريدون شيئا سوى الحديث عن المشاهير والأسرار الشخصية والإشاعات. وأعتقد أنه ستكون هناك خطورة كبيرة لو انزلقت الجريدة إلى طريق التحقيقات في قضية صحيفة (نيوز أوف ذا وورلد)، وأعتقد أنه يتعين على الصحيفة الجديدة أن تنأى بنفسها عن ذلك. ولو كنت رئيس تحرير الجريدة، كنت سأجعل الصحيفة تهتم بالقضايا الاجتماعية وأتحدث عن أمور تهدف إلى (توقف جرائم القتل مثلا)».

وبغض النظر عن الخط التحريري الذي ستتبناه الجريدة، فمن الواضح أن مردوخ قد دخل في مراهنة عالية المخاطر. ولو نجحت الصحيفة وحققت الأرباح وجذبت الكثير من القراء، فسوف تزيد بالطبع من أرباح «نيوز إنترناشيونال» وتقلل من الضغط الملقى على عاتق مردوخ في مؤسسة «نيوز كورب».

وسوف يساعد ذلك على عودة هيبة واحترام مردوخ في وسائل الإعلام. يعد هذا مهما من الناحية الشخصية لمردوخ الذي يوصف بأنه «الرجل الذي يجري الحبر في عروقه». وسوف يساعد ذلك أيضا على صرف الانتباه عن الاتهامات التي تطال صحافيي صحيفة «صن أون صنداي». وعلاوة على ذلك، سوف تساعد الصحيفة على عودة النفوذ السياسي الكبير الذي كان يحظى به مردوخ في المملكة المتحدة حتى وقت قصير. وربما يرى الكثير من السياسيين - بمن في ذلك زعيم حزب العمال البريطاني إد ميليباند - أنه ما كان يتعين عليهم انتقاد مردوخ صراحة بسبب فضيحة التنصت على الهواتف. وعلى الرغم من أن هذا ربما لا يكون خبرا جيدا بالنسبة للديمقراطية في بريطانيا، فإنه خبر رائع بكل تأكيد لمردوخ وعائلته.

ومع ذلك، لو فشلت صحيفة «صن أون صنداي» في أن تأسر خيال الجمهور البريطاني وفي أن تجذب عددا كبيرا من القراء، ولو استمر اعتقال الصحافيين في الصحيفة الشقيقة، ولو فشلت في منافسة المنتجات الرقمية، ولو أثارت حربا في الأسعار لن تمكنها من تحقيق أرباح، فمن المتوقع أن تكون آثار ذلك هائلة على مردوخ.

* صحافي مختص بشؤون الإعلام اعد خصيصا لـ «الشرق الأوسط»