فرنسا: إصلاح التلفزيون الحكومي يحرم قنواته من مداخيل الإعلانات ويتسبب بتسريح 650 موظفا

ساركوزي نجح في الإصلاح رغم المعارضة الشديدة والمفاوضات الصعبة طوال 3 سنوات

TT

«الإصلاحات التي أرادها الرئيس نيكولا ساركوزي لقطاع التلفزيون الحكومي سائرة على قدم وساق لكن ببطء وصعوبة».. هذه كانت خلاصة التقرير الأخير الذي صدر عن ديوان المحاسبة الفرنسي المكلف بمراقبة سير الإصلاحات التي قررتها الحكومة الفرنسية منذ ثلاث سنوات.

وقد كان الرئيس الفرنسي قد أعلن فور توليه مهامه عن إصلاح شامل يشمل التلفزيون العمومي بغرض «تخليصه من سيطرة مقاييس المشاهدة، وتمكينه من تقديم برامج خلاقة وهادفة أشبه بالنموذج الناجح لـ(بي بي سي) البريطانية»، لكنه لقي معارضة شديدة من قبل نقابات العمال التي خاضت مفاوضات طويلة لتجنب الآثار السلبية لهذا الإصلاح المفروض بالقوة.

القانون الذي صوتت عليه الأغلبية التابعة للحزب الحاكم منذ مارس (آذار) 2009 بعد جدل برلماني دام 80 ساعة يقضي أولا بتغيير الوضع القانوني لـ«فرانس تلفزيون» إلى شركة واحدة كبيرة تحت إشراف إدارة موحدة بميزانية وخطة تسيير واحدة بعد أن كانت مكونة من 5 قنوات مستقلة بعضها عن بعض («فرانس 2» و«فرانس 3» و«فرانس 4» و«فرانس 5» و«فرانس أو» وأكثر من 40 شركة إنتاج وتوزيع تابعة لها).

الخطة الجديدة تقضي أيضا بتغيير صيغة تعيين المدير العام الذي كان سابقا من صلاحيات المجلس الأعلى للسمعي البصري، وهي الهيئة المستقلة تماما عن الحكومة، ليتم تعيينه من الآن فصاعدا بأمر من رئيس الجمهورية.

وهو ما تم فعلا، حيث عين ريمي فليملان كأول مدير عام لقطاع التلفزيون الجديد في مارس 2010 بقرار رئاسي. وهو القرار الذي انتقده بشدة أعضاء منتدى صحافيي القطاع العام لقناتي «فرانس2 و3»، الذين نددوا بعد هذا التغيير الخطير بـ«تراجع حيوية القطاع الإعلامي وحريات التعبير».

الشكوك التي صاحبت وصول المدير الجديد المعروف بقربه من الإليزيه أصبحت أكثر قوة بعد سلسلة من التسريحات التي استهدفت صحافيين ومسؤولين مباشرة بعد تعيينه، منها: طرد أرليت شابو، مديرة الأخبار في قناة «فرانس 2»، وهي التي كانت محط انتقاد الرئيس ساركوزي بسبب إدارتها لقسم الأخبار، وطرد المذيع الساخر ستيفان غيون، المعروف بنقده اللاذع لسياسة الرئيس الفرنسي أيضا، في المقابل تم تجديد عقد الصحافي إيريك زمور، القريب من الحزب الحاكم على الرغم من عدة شكاوى قدمتها ضده جمعيات مثل «إس أو إس راسيزم»، المعادية للعنصرية بسبب تحريضه على الكراهية العرقية.

لكن الأهم في سياسة الإصلاح الجديدة يبقى البند الخاص بإلغاء الدعاية والإعلانات من القنوات العامة، وهو الإجراء الذي شرع في تطبيقه فعلا منذ أكثر من سنة، حيث غابت كل الإعلانات من شاشات القنوات العامة ابتداء من السنة الماضية بشكل جزئي (من الساعة الثامنة ونصف مساء إلى السادسة صباحا) في انتظار إلغائها تماما وطيلة فترة البث ابتداء من سنة 2014.

الحكومة قررت تعويض التلفزيون عن الضرر الذي سيلحقه من جراء حرمانه من إيرادات الإعلانات بمساعدة مادية تصل لـ450 مليون يورو، وإقرار ضريبة على القنوات الخاصة وشركات الاتصالات بنسبة تتراوح ما بين 0.9 و3 في المائة، إضافة للضريبة التي يدفعها كل مستقبلي القنوات التلفزيونية.

غير أن هذه المبالغ تبقى غير كافية بحسب نقابة العمال والصحافيين التي اتهمت الحكومة بالترويج لمشروع «مبني على الرمال»، حيث ينقص قطاع التلفزيون اليوم أكثر من 200 مليون يورو لاستكمال ميزانيته.

خسارة كبيرة بالنسبة للتلفزيون العام الذي سيترك حصته في سوق الإعلانات التي تمثل أكثر من 30 في المائة للقنوات الخاصة مثل «تي إف 1» التي تبقى المستفيد الأول من هذه الإصلاحات.

الخسارة ستنعكس خاصة على مردود القنوات العامة التي تتجه الآن لمزيد من التقشف على حساب تشجيع الإبداع والبرامج الثقافية والفنية، وهو ما أكده المذيع المعروف ميشال دروكر الذي صرح لمجلة الـ«إكسبرس»، «كيف لنا أن ننتج برامج جيدة وجذابة وننافس القنوات الخاصة، إذا كنا لا نعرف حتى الآن كيف سنمولها؟ الوضعية أصبحت أكثر صعوبة من ذي قبل ولا أعتقد أن قطاع التلفزيون العام سيخرج منها منتصرا..».

غياب مداخيل الإشهار ستعطل أيضا المشاريع التي بدأتها «فرانس تلفزيون»، وبالأخص ما يتعلق بإدخال التقنيات الرقمية الجديدة، فهي لم تلتحق حتى الآن بركب القنوات التي تملك تطبيقات على الـ«سمارت فون» والـ«آي بود»، أو خدمة البلوز أو الأخبار المستمرة بسبب نقص التمويل.

نقابات عمال مجموعة «فرانس تلفزيون» تساءلت عن الأسباب الخفية وراء تمسك الرئيس الفرنسي بإصلاح قطاع التلفزيون وحرمانه من إيرادات الإعلانات التجارية رغم معارضة عدة أطراف، خاصة أن هذا الأخير معروف بصداقته القديمة مع مارتين بويغ المساهم الرئيسي لمجموعة «بويغ» والمدير العام لقناة «تي إف 1» الذي يعتبر أقرب مقربيه منذ فترة طويلة، وقد كان الشاهد على زواجه الثاني وعراب ابنه لويس.

الإصلاحات السائرة في طريق التطبيق لاقت الكثير من المعارضة بين أوساط العاملين في قطاع التلفزيون، لا سيما أنها ترافقت بخطة للاستغناء عن أكثر من 650 منصب عمل، وقد تم لغاية الآن تسريح أكثر من 470 شخصا، معظمهم على شكل تقاعد مبكر، علما بأن قطاع التلفزيون الفرنسي يوظف نحو 10 آلاف عامل، منهم 2950 صحافيا و7350 إداريا، والبقية يتوزعون بين المهن التقنية المختلفة والتسيير.

ورغم المعارضة الشديدة التي لقيها مشروع إصلاح قطاع التلفزيون الفرنسي والانتقادات التي وجهت له بخصوص تخفيض الميزانية وغياب الاستقلالية وحريات التعبير بسبب تبعيته الجديدة للحكومة فإن الرئيس ساركوزي الذي فرضه بقوة قد نجح في تمريره، حيث بات من المتوقع إنهاء تطبيقه كليا في نهاية عام 2012.