التشويش على الفضائيات.. لغم سياسي في حقل الإعلام

«نايل سات» تتهم دولا مجاورة بالتسبب في انقطاع البث عن 60 قناة

TT

أصبح التشويش على الأقمار الصناعية العربية بمثابة شبح يطارد القنوات الفضائية، ويعكر مزاج مشاهديها العرب من المحيط إلى الخليج. فعلى مدار الأشهر الماضية، قفز التشويش على ترددات البث الفضائي إلى سطح مشهد الإعلام العربي بقوة، مثيرا الاتهامات بين الدول والشركات صاحبة الأقمار أو التي تديرها تارة، أو بين دول وأخرى تارة أخرى.

كان آخر فقرات هذا المشهد قبل أيام مع اتهام الشركة المصرية للأقمار الصناعية «نايل سات» دولا مجاورة لمصر - لم تسمها - بالتشويش على أقمار الشركة، وذلك بعد أن أعنت الشركة أن أقمارها تعرضت خلال الفترة الماضية لعمليات تشويش مستمرة على 5 ترددات قمرية، الأمر الذي تسبب في انقطاع الخدمة عن أكثر من 60 قناة تلفزيونية يبثها القمر.

وفي مطلع شهر فبراير (شباط) الماضي، كانت الأزمة بين إيران والقناة الفارسية لـ«BBC»، حيث قام المسؤولون في إيران بالتشويش على القناة من أجل منع المواطنين الإيرانيين من متابعة برامجها، بحجة أن برامجها معادية للنظام الحاكم في إيران، وهو ما دعا مارك تامبسون، رئيس هيئة الإذاعة البريطانية، بمهاجمة المسؤولين في إيران قائلا: إنهم «يسعون دائما إلى منعنا من ممارسة عملنا الصحافي بالتشويش على بث قنواتنا الفضائية»، مطالبا إياهم بـ«إعادة النظر في هذه الممارسات المخزية»، على حد قوله.

وقبل أشهر، ومع ثورة الشعب الليبي ضد رئيسه الراحل معمر القذافي؛ تعرضت الكثير من القنوات الإخبارية على قمر «نايل سات» للتشويش، الذي اتضح أن مصدره يوجد في جنوب العاصمة الليبية، طرابلس، وتحديدا من مبنى إداري فني تابع لجهاز مخابرات يترأسه ضابط برتبة عميد. وكان قبل اكتشاف المصدر أن قام مسؤولون ليبيون باتهام شركة «نايل سات» أنها من تقوم بتنفيذ عمليات تشويش ضد القنوات الليبية، بينما نفت الشركة ذلك وأكدت تعرض «نايل سات» وأقمار عربية وأوروبية أخرى لعمليات تشويش خارجي مستمرة منذ بداية الأحداث الليبية في فبراير 2011، وأن جميع القنوات الليبية التي تبث من القمر المصري لم تتعرض لأي عمليات تشويش بخلاف قناة ليبية واحدة موجودة على نفس تردد القناتين «الأولى» و«الفضائية المصرية»، مما يؤكد استحالة قيام «نايل سات» بالتشويش على قنواته المصرية.

وفي السياق نفسه، اتهمت وقتها إدارة قناة «المحور» الفضائية القذافي وأجهزته الأمنية بالتشويش على إرسالها، وقالت إن التشويش أعاق مشاهديها من متابعة القناة وبرامجها، ولذلك قررت إدارة القناة نقل البث على تردد آخر، كما اتهمت الولايات المتحدة الحكومة الليبية بالتشويش على بث برامج المحطات التلفزيونية الإخبارية الأجنبية، وبخاصة قناة «الحرة»، واتهمت قناة «الجزيرة» ليبيا بالتشويش على تردداتها في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.

ومن قبل ذلك، كان ما حدث لقناة «الجزيرة» على القمر نفسه مع أيام الثورة المصرية، عندما تم التشويش عليها أولا ثم قررت إدارة القمر المصري قطع بثها بضغط من النظام المصري. وأيضا تعرضت القناة العربية لـ«BBC» لتشويش متعمد على ترددها بعد ادعاءات الحكومة المصرية حول تحيز القناة في تغطيتها للانتخابات البرلمانية نهاية العام الماضي، وصدور بيان شديد اللهجة ضدها من جانب الحزب الوطني (الحاكم) في ذلك الوقت.

وفي منتصف عام 2010 كان الحدث الشهير عندما تعرضت باقة قنوات «الجزيرة الرياضية» لتشويش كبير أثناء بثها مباريات كأس العالم 2010 بجنوب أفريقيا، واعتبرت القناة وقتها التشويش عملا تخريبيا، واتجهت الأقوال إلى أن من يقف وراء ذلك مصر أو السعودية، وثبت في ما بعد أن مصدر التشويش جاء من إحدى ضواحي الأردن.

ويؤدي التشويش على الفضائيات إلى عدة مشكلات في البث، مثل تجمد الصورة أو اختلاط الصوت أو غياب الصورة والصوت عن الشاشة غيابا كاملا، مما يجعل هذه القنوات تلجأ إلى ترددات بديلة لكي تضمن استمرار وصول الصورة والصوت لمشاهديها.

وبحسب المهندس صلاح حمزة، العضو المنتدب للشؤون الفنية في الشركة المصرية للأقمار الصناعية «نايل سات» فإن التشويش ظاهرة موجودة في العالم، وفي أغلب الأحيان لا يكون التشويش مقصودا، فهناك قنوات تكون جديدة، ومع قيامها بضبط إشاراتها يحدث التشويش؛ ولكن سرعان ما تتراجع القناة بعد تنبيهها بالخطأ الذي حدث، أما ما تشهده منطقتنا من تشويش فهو في الغالب يكون تشويش مقصود، ويكون بغرض سياسي في المقام الأول، حيث يكون مصدره من جهة لا يروق لها محتوى ومضمون ما تقدمه قناة ما، فتقوم بالتشويش عليها لمنعها من تأدية وظيفتها الإعلامية.

وحول اتهام «نايل سات» الأخير لدول مجاورة لمصر بالتشويش على أقمار الشركة، يقول لـ«الشرق الأوسط»: «نتعرض لعمليات تشويش مستمرة، كان آخرها ما تسببت في انقطاع الخدمة عن أكثر من 60 قناة تلفزيونية على القمر، وذلك من بعض الدول المجاورة، ونحن حاليا بصدد اتخاذ إجراءات ضد تلك الدول؛ ولكن في إطار تقاليد (نايل سات)، فليس من سياساتنا تنفيذ عمليات التشويش التي لا تتفق مع القوانين والأعراف الدولية، حيث تسعى الشركة من خلال المحافل الدولية إلى وضع حد لعمليات التشويش تلك التي تضر ضررا بالغا بأعمالها».

ويشرح حمزة كيفية حدوث التشويش بقوله: «يمكن ببساطة شرح ما يحدث بالمثال التالي، فعند جلوس شخصين يتحاوران في غرفة واحدة، ثم أحدث شخص ثالث في الشارع صوت مزعج، فالنتيجة أن الشخصين لن يستطيعا التفاهم، كون الثالث شوش على حديثهما.. وبنفس الطريقة؛ فإن القمر الصناعي لا يستطيع التمييز بين الإشارة المرسلة إليه من المحطات التابعة لنا، ومن الإشارة المرسلة إليه من الجهة التي تشوش، والتي تكون على نفس التردد».

وحول إمكانية الحد من التشويش يبين حمزة، إنه من الممكن معرفة مصدر التشويش هندسيا مع توافر بعض الشروط، موضحا أن هناك إجراءات تقنية تفيد في ذلك؛ ولكنها محدودة، ففي بعض الأحيان تقوم الشركة بتقوية الإشارة الصاعدة من المحطات إلى القمر الصناعي، بحيث تكون أكبر من إشارة التشويش؛ ولكن هذا يتم أيضا بدرجة ما حتى لا يحرق القمر، فهي مجرد إجراءات يستعان بها للحد من التشويش ولكنها لا تنجح كل مرة.

وبسؤاله عن وجود إجراءات احترازية عند تصنيع الأقمار الصناعية، يقول: «الأقمار الموجودة حاليا لم يكن لأحد أن يتخيل أن تتعرض لهذا النوع من التشويش المتعمد، لذا ففي الأقمار التي سوف تطلق مستقبلا أو التي سوف تحل محل الموجودة حاليا بعد انتهاء عمرها الافتراضي الذي يكون 15 سنة، سيراعى ذلك الأمر بأن يكون بها احتياطات ضد التشويش، وهناك تخطط أن لا تستقبل الأقمار إشاراتها إلا من خلال نقاط معينة، والدول ترسل إشاراتها من هذه النقاط».

ويتمنى حمزة بعد أن ينقضي «الربيع العربي» أن تجلس الدول مع بعضها البعض للوصول لحلول لمشكلة التشويش، وبرأيه أن تعاقب الدول التي تشوش على الأقمار الصناعية بعقوبات فاعلة، مثل المقاطعة الاقتصادية لها، أو حرمانها من تبادل الأقمار، وأن يتم ذلك من خلال تعاون مشغلي الأقمار الصناعية مع الاتحاد الدولي للاتصالات والأمم المتحدة، لافتا في نهاية حديثه إلى أن من يلجأ إلى التشويش المقصود ليس هو الحل المثالي لمن يرغب في إسكات صوت ما، فهو في هذه الحالة مثل من يحرق نسخ الجريدة لأنها لا تروق له. بينما يشبه حاتم السعدني، مهندس اتصالات في اتحاد الإذاعة والتلفزيون المصري، التشويش بما يفعله «الهاكرز» على شبكة الإنترنت، قائلا: «هو عملية صعبة ومعقدة للغاية وتحتاج إلى مهارة، خصوصا نتيجة للتطور التقني لأجهزة الإرسال والاستقبال، إلى جانب مهارة تشغيل الأجهزة الحديثة والمعرفة بالترددات المختلفة».

ويشرح السعدني آلية التشويش بقوله: «التشويش لا يضر بالقمر الصناعي نفسه، وإنما على التردد الذي يحمله القمر، فالتشويش عبارة عن إشارة يتم بثها على إشارة أخرى، حيث يقوم المشوش بالتعرف على الـ(uplink) الخاص بقناة معينة، وينشئ محطة إرسال على نفس التردد؛ ولكن بقدرة إرسال أكبر، وتوجه الأطباق نحو القمر الصناعي ويتم إرسال البيانات، وهنا يكون القمر الصناعي مستقبلا لإشارتين؛ هما: إشارة مركز بث القناة وإشارة المشوش، وبالتالي يحدث خلط، ويختار القمر في هذه الحالة الإشارة ذات الطاقة أو القدرة الأكبر، التي هي إشارة المشوش ثم يعيد إرسالها، وتكون النتيجة في جهاز الاستقبال أن تختفي القناة الأصلية وتظهر إشارة التشويش».

أما أمين بسيوني، الرئيس السابق للجنة الدائمة للإعلام بجامعة الدول العربية، فيبين لـ«الشرق الأوسط» أنه من خلال اللجنة تم إقرار مبادئ تنظيم البث الفضائي لعام 2005، التي وقع عليها من جميع الدول العربية؛ لكن دراسة الآلية التي يحتكم إليها عند إقدام دولة ما على التشويش المقصود، كان أمرا ناقصا في التشريع القانوني، وبالتالي لا توجد مساءلة قانونية تجاه التشويش، لافتا إلى أهمية إقرار عقاب ضد الجهات التي تقف وراء التشويش.

ويأمل بسيوني أن تتحد الدول العربية للعمل على وضع حد فوري لإيقاف التشويش من ناحية، ومن ناحية أخرى أن يكون هناك تحاور بين القنوات الفضائية ومشغلي الأقمار الصناعية، لإيجاد لائحة من القيم والآداب العامة التي يمكنها أن تحكم العلاقة بين الفضائيات والأقمار الصناعية، على أن توقع عليها كل الدول العربية وتلتزم بنصوصها وتراعي تفعيلها.

وعلى نطاق أوسع؛ يشير رئيس قسم البث في مؤسسة «دويتشه فيله» الألمانية، هورست شولتز، إلى أهمية تشديد القوانين الدولية لتعزيز فرص محاسبة المسؤولين عن التشويش، لأن الإطار القانوني هو الحل الوحيد الذي يمكن بواسطته حماية القنوات الفضائية من التشويش عليها في ظل الإمكانيات التي توفرها التقنيات الحديثة، وتتطلب هذه التقنيات في الوقت الحاضر أن تقوم القنوات الفضائية بتقسيم إشارات بثها عبر الكثير من الأقمار الصناعية، وتحتاج بالتالي إلى إمكانيات مالية ضخمة لن يكون بمقدور المؤسسات الإعلامية ذات الميزانيات المتواضعة توفيرها.

ومن جهته، يرى الخبير الإعلامي معتز صلاح الدين، أن المناخ السياسي الحالي في المنطقة العربية قد يدفع دولا إلى أن تبادر إلى التشويش على القنوات الفضائية، فثورات «الربيع العربي» مستهدفة من قوى خارجية وداخلية، وبالتالي يمكن لهذه الدول أن تتحد مصالحها لعرقلة هذه الثورات، وهو ما يحدث فعليا منذ بدأت موجات الثورات العربية.

ويرى صلاح الدين أن لجوء دول مجاورة لمصر لأسلوب التشويش على أقمار «نايل سات» مؤخرا، هو عمل يقصد به أن يكون سلاحا بديلا للرقابة عليها، أو إحداث انفلات إعلامي، يتزامن مع الانفلات الأمني الذي تشهده البلاد، وبرأيه أن هذه الانفلات الإعلامي أشد وأخطر لما يحدثه من فوضى وبلبلة.

ويلفت إلى أن التشويش عمل مرفوض، وهو بمثابة الاعتداء على الممتلكات الخاصة، وتلجأ إليه أجهزة المخابرات، مثلما حدث العام الماضي عندما اتضح أن مصدر التشويش على قنوات «نايل سات» كان مصدره جنوب العاصمة الليبية، طرابلس، وتحديدا من مبنى إداري فني تابع لجهاز المخابرات.

ومن موقعه كمستشار إعلامي في جامعة الدول العربية، يلفت صلاح الدين إلى أن مجلس وزراء الإعلام العرب لم يجتمع منذ فترة طويلة، وبالتالي لم تناقش ظاهرة التشويش، مشيرا إلى تعارض التشويش مع مبدأ حرية الإعلام وتداول المعلومات، وضد حق الفرد في الحصول على المعلومات، وهي حقوق أساسية لكل مجتمع يبحث عن الديمقراطية.

أما عن الخسائر التي تتعرض لها القنوات الفضائية نتيجة التشويش، فيوضح الدكتور عاطف عبد الرشيد، رئيس قناتي «الحافظ» و«الصحة والجمال» ومؤسس الكثير من القنوات الإسلامية على «نايل سات»، أن أصحاب الفضائيات يجدون أنفسهم في موقف لا يحسدون عليه أمام التشويش، فالقنوات التي تتعرض للتشويش تصيبها أضرار مهنية وفنية ومالية، والتي تتمثل في انصراف المشاهدين عن القناة وهم رأسمالها الحقيقي، الذي بناء على عددهم تأتي الإعلانات التجارية، وكذلك الرسائل القصيرة أسفل الشاشة الـ«sms»، وبالتالي يعمل التشويش على خسارة الجمهور والمعلنين وبالتالي تتأثر الدخول المالية سلبيا. ويطالب عبد الرشيد أن تبذل الجهات المسؤولة جهودا مكثفة لتحديد مصادر التشويش والتعاون مع الجهات الدولية المختصة لمواجهة تلك الظاهرة، واتخاذ كل الإجراءات القانونية الدولية تجاه الجهات المتسببة في هذه الأضرار، التي تقع على القنوات أو «نايل سات» على السواء.