«خطابات إلى المحرر».. تقليد إنجليزي يمتد لثلاثة قرون

تتعلق بإضافة جديد إلى معلومة نشرت أو تصحيح بعضها أو نشر مرادف معلوماتي

TT

صفحة «إلى المحرر Letters to the Editor» في الصحف البريطانية الأسبوع الماضي تضمنت حملة خطابات من أطباء الأسنان. بعضها بعدة توقيعات والآخر من فرد كممثل المجلس العام لأطباء الأسنان، أو مندوب الكلية الملكية لجراحي الفم والأسنان (كلية college هنا بمعنى جمع الزملاء من المفرد زميل colleague وليس من معنى المعهد الدراسي).

مضمون الخطابات تحذير للمسؤولين من إضاعة وقت وجهد أطباء الأسنان ووقت مفوضية التفتيش على مستوى الرعاية (والمقصود الرعاية الطبية، بكل فروعها للمواطنين؛ والرعاية الصحية والاجتماعية للمسنين، وأطفال المدارس).

أطباء الأسنان يحتجون على إصدار المفوضية للائحة معقدة بالإجراءات تتبع في العيادات بينما يرى جراحو الفم أنها لا تتعلق بطب الأسنان، وإنما بالعيادات الطبية الباطنية وغرف عمليات الجراحة.

الملاحظ هو توقيت نشر الخطابات، حيث في اليوم التالي لنشر تقرير لجنة الحسابات والمالية العامة في مجلس العموم، منتقدا ممارسات مفوضي تفتيش الرعاية باعتبارها تكرار جهود الجمعيات والاتحادات المهنية.

فأهم ملامح خطابات القراء المنشورة تزامنها مع الأحداث الجارية والأخبار والمواضيع الراهنة.

وتقليد خطابات إلى المحرر قديم يعود إلى أكثر من ثلاثة قرون، ودائما يتعلق بإضافة الجديد إلى معلومة نشرت، أو تصحيح لبعضها، أو نشر مرادف معلوماتي والصفحة من أهم ركائز الصحافة المكتوبة، وإن كان اليوم يأخذ أشكالا أخرى، سواء في التعليق الحي المتبادل على الإنترنت ما يعرف بالبلوج blog ومقابلها بالعربية المدونة والجمع مدونات، وهذا ليس موضوع هذا المقال.

الملاحظ أن اسم الصفحة خطابات letters بالجمع وليس بالمفرد، في حين أن الصفحة نفسها في الصحافة الأميركية تعنون باسم خطاب letter وليس خطابات.

الاسم لم يتغير لأكثر من قرنين، ومئات الصحف المحلية في بريطانيا، والمجلات، والصحف القومية الـ13 كلها تستخدم العنوان نفسه للصفحة مهما كانت المنافسة بين بعضها البعض، ولا تتفلسف أو تخترع تسميات كـ«صرخة القراء» أو «شكرا لساعي البريد» أو «من حقيبة البوسطجي» وغيرها من تفنن الصحافيين في خفة الدم، رغم أن مدرسة الصحافة الإنجليزية هي أكثر مدارس صحافة العالم خفة دم وتسلية وبراعة في اختيار عناوين المقالات ومانشيتات الصفحة الأولى بالتلاعب بالألفاظ، أو تغيير كلمة في عنوان أغنية أو فيلم، واختيار كلمات العناوين لتبدأ بالحرف نفسه من اسم بطل الخبر أو بطلته.

السبب في ثبات التسمية أن الصفحة - التي تنتمي في العمل التحريري لمجموعة صفحات الرأي والتعليق - هي باب ثابت في كل الصحف بلا استثناء. وقراءة يومية مثلا لعدة صحف بريطانية تعتبر مقياسا دقيقا للرأي العام ورد فعل الشعب لأخبار هي في معظمها انطباع عن المشهد القومي بأبعاده السياسية والاقتصادية والاجتماعية. ومن الحماقة أن تستفز صحيفة مشاعر قرائها المواظبين، فيهجروها لنشر خطاباتهم في صحيفة أخرى.

الصفحة لها تقاليدها وممارساتها المهنية الخاصة.

مثلا تمتلئ صفحة خطابات القراء في «الأهرام»، أقدم وأشهر صحف منطقة الشمال الأفريقي والشرق الأوسط، بشكاوى المواطنين من الحكومة والمسؤولين وأصحاب العمل (بسبب قدم البيروقراطية المصرية وأبوية الدولة في تعاملها مع المواطن كطفل مسؤولة عن إطعامه وإيوائه وتعليمه) لكنك لا تجد أيا من هذه الشكاوى في صفحة «خطابات إلى المحرر» في الصحافة القومية البريطانية.

وللخطابات ديسك كامل بصحافييه وسكرتارية ورئيس للديسك ومطبخ للتحرير (في الصحافة العربية سكرتارية التحرير وهي sub - editing أو التحرير القاعدي في بريطانيا). وأذكر عند بدء عملي الصحافي قبل أربعين عاما في التلغراف، كان على دسك الخطابات ثمانية أشخاص، هم اليوم نصف هذا العدد بسبب وصول الخطابات بالبريد الإلكتروني، وسرعة تحرك سلسلة التحرير حتى الوصول للمطبعة.

ولنشر خطاب شروط وتقاليد؛ أهمها وجود اسم وعنوان ورقم تليفون المرسل، ويتأكد الديسك من حقيقة صاحبه بمطابقة الكود البريدي للخرائط في الأرشيف وللاسم والرقم في دليل التليفونات أو جداول الانتخابات المحلية. وفي حالة عدم المطابقة يتصل الديسك بمرسل الخطاب للتأكد من شخصيته.

خطاب بلا رقم تليفون وعنوان مصيره سلة المهملات حتى ولو نافست صياغته الأدبية إلياذة هومير.

الشرط الثاني هو الاختصار والتركيز والالتزام بالأخلاقيات وعدم توريط الصحيفة قانونيا (لا سب أو جرح مشاعر أو إهانات أو اتهامات أو قذف).

محرر ديسك الخطابات يحضر اجتماع التحرير الصباحي، ويعرض ما عنده من قائمة من المواضيع التي تناولتها الخطابات، أو ما علق عليه أو صححه مرسلو الخطابات من الأخبار التي نشرتها الصحيفة ذلك الصباح، ويكون هناك اتفاق عام على ما ستركز عليه صفحة الخطابات من موضوع رئيسي وصورة مختارة تنشر. فمثلا التلغراف اليوم (الثلاثاء) تشمل صفحة الخطابات ثمانية مواضيع جمعت خطابات كل موضوع تحت عنوان، وأحدها بصورة جذابة، والمجموع 21 خطابا.

قواعد اختيار رئيس ديسك الخطابات لما ينشر، تخضع لتقاليد تراعي التمثيل الكامل تعبيرا عن اتجاهات القراء بالنسبة العددية. فمثلا عنوان عن ظهور فجوة بين الطبقات العاملة والحكومة الحالية، ضم خمسة خطابات، لأن العدد الأكبر من خطابات القراء، تناول هذه المسألة، وأيضا مغالاة شركات البترول في أسعار بنزين السيارات تضمن خمسة خطابات أيضا. قضايا كاختفاء الطيور البرية (والصورة لطائر نقار الخشب أرسلها قارئ)، وسوء الخدمة في المقاهي، خطاب واحد لكل موضوع.

وإلى جانب التمثيل الكمي للعينات المختارة للنشر من الخطابات يراعي تمثيلها النوعي لمزاج كاتبيها. فمثلا إذا كان نصف عدد الخطابات عن البنزين يعزي سبب ارتفاع أسعاره لزيادة الضرائب والثلث يتهم شركات البترول بالطمع و10 في المائة ترجع السبب إلى ارتفاع أسعار النقل، ونسبة مماثلة تتهم الأوبك، فإن هذا التقسيم ينعكس في النشر، حيث تجد خطابين يلومان سياسة الحكومة الضرائبية، وخطابا واحدا طويلا نسبيا يلوم الشركات وخطابين قصيرين، أحدهما يلوم شركات النقل، والآخر يلوم الأوبك. من ثم فالمتصفح لخطابات القراء لا يدرك اهتمامات القراء فحسب، بل مدى انتشار كل مسألة محل الاهتمام بين قراء هذه الصحيفة، وأيضا نسب التراوح بين التيارات التحتية لكل قضية محل اهتمام القراء.

وكما لا تجد خطابا واحدا خارج سياق الأحداث الجارية وأخبارها وما نشر، فلن تجد أيضا خطابا واحدا باسم حركي أو مستعار، أو باسم وهمي، ولا يمكن أن تتعلل الصحيفة بأنها غير مسؤولة عما احتواه خطاب قارئ، بل تعتبر نفسها مسؤولة عن كل كلمة، حتى في خطابات القراء، مع العلم أنه لا توجد قوانين تنظم عمل الصحافة في بريطانيا؛ فقط بالتقاليد المهنية المتوارثة.