لعبة القط والفأر في إعلان نتائج الانتخابات الرئاسية الفرنسية

النيابة العامة تدعي على وسائل إعلامية محلية وأجنبية بتهمة مخالفة القانون

TT

«البلاد المنخفضة تهزم المجر».. هذا النوع من الرسائل المشفرة كثر استعمالها في فرنسا ابتداء من بعد ظهر الأحد، يوم الجولة الانتخابية الرئاسية الأولى، وحتى الساعة الثامنة مساء بتوقيت باريس، موعد البدء بإعلان النتائج «غير الرسمية» الصادرة عن مؤسسات استطلاع الرأي استنادا إلى التحقيقات التي تجريها طيلة يوم الاقتراع وفي العديد من المراكز الانتخابية.

وبرز على موقع «تويتر» اسم «راديو لندن» في إشارة إلى النداء الذي أطلقه الجنرال ديغول لمواطنيه للاستمرار في مقاومة الغزو النازي الألماني لبلاده. وعلى هذا الموقع توافد الآلاف لنشر ما يملكونه من معلومات حول نتيجة الاستفتاء.

وتفيد الرسالة المشفرة الأولى أن المرشح الاشتراكي فرنسوا هولاند (البلاد المنخفضة هو الاسم الثاني لهولندا) متقدم على منافسه اليميني نيكولا ساركوزي (والد ساركوزي مجري الأصل). ومثل هذه الرسالة تكاثر على شبكات التواصل الاجتماعي والإنترنت لغرض واحد هو الالتفاف على القانون الفرنسي الذي يمنع نشر أي نتائج قبل الثامنة مساء موعد إغلاق آخر مركز انتخابي علما أن عملية الاقتراع تبدأ في الثامنة وتنتهي في القرى والمناطق الريفية في السادسة وفي المدن المتوسطة في السابعة وفي الثامنة في العاصمة والمدن الكبرى وبعض ضواحيها.

واستبقت اللجنة الوطنية للانتخابات والهيئة المشرفة على استطلاعات الرأي والنيابة العامة في باريس يوم الانتخاب بإصدار بيانات تحذر فيها من إفشاء النتائج قبل الموعد الرسمي تحت طائلة الملاحقة القانونية ودفع غرامة تصل إلى 75 ألف يورو. ولم تكتف الهيئات الرسمية المكلفة بالرقابة بإصدار بيانات تحذيرية بل قرنت القول بالفعل وقامت باستقدام برمج معلوماتية تتيح لها مراقبة ما يجري على الشبكة العنكبوتية وعلى شبكات التواصل الاجتماعي وذهبت إلى حد تهديد الوسائل الإعلامية الفرنسية وأيضا تلك الكائنة خارج الحدود الفرنسية.

وتعود هذه القاعدة التي عدلت لآخر مرة قبل عشر سنوات إلى اعتبار مفاده أن الكشف عن النتائج قبل انتهاء العملية الانتخابية بالكامل يعني المخاطرة بالتأثير على الناخب وبالتالي على النتائج مما يسمح للمرشحين بالتقدم بطعون لدى المجلس الدستوري من أجل إلغاء الانتخابات.

وفي كل انتخابات رئاسية كان الفرنسيون المتعجلون للتعرف على النتائج ينظرون إلى ما وراء الحدود وتحديدا إلى سويسرا وبلجيكا، البلدين الفرنكوفونيين جزئيا حيث الوسائل الإعلامية غير ملزمة باحترام القانون الفرنسي. وككل مرة، كانت مواقع الإنترنت للصحف والمجلات المهتمة بمتابعة الانتخابات الفرنسية تصاب بالشلل بفعل تكاثر الساعين للدخول إلى مواقعها. ولذا فقد أعلن معهد الاستطلاع «تي إن إس سوفريس» أنه «لن يكشف عن أي نتيجة للانتخابات إلى أي وسيلة إعلامية أجنبية» قبل الموعد الرسمي.

واعتبرت رئيسة تحرير قسم الأخبار بالتلفزيون البلجيكي الفرنسي جوانا مونتاي أنه «يتعين إذاعة أي معلومات مؤكدة عبر كافة الوسائل حال توفرها» وأن الهيئة التي تعمل فيها ستعمد إلى ذلك. والتزم التلفزيون السويسري موقفا مشابها.

غير أن جديد هذه الحملة أن صحيفة رئيسية مثل «ليبراسيون» يسارية الهوى قالت صراحة إنها ستكشف عن النتائج الأولية منذ السادسة والنصف. وفي فرنسا أربعة معاهد رئيسية لاستطلاعات الرأي التي تتعاقد مع الوسائل الإعلامية الأهم لمتابعة النتائج وهي بالتالي مضطرة لكشف ما توصلت إليه منذ بعد الظهر لمساعدة الوسائل الإعلامية على تنظيم تغطيتها للحدث مما يساعد على تسريب النتائج إلى الخارج. وبهذه الطريقة استطاع الفرنسيون أن يعرفوا منذ الساعة الأولى بعد الظهر أن ساركوزي لن يحقق طموحه في الحلول في المرتبة الأولى وأن مارين لوبن متفوقة كثيرا على مرشح اليسار الراديكالي جان لوك ميلونشون.

لكن الضغوط كانت قوية على «ليبراسيون» التي أعلنت على موقعها يوم الأحد أنها لن تنشر النتائج. والمفاجأة جاءت من وكالة الصحافة الفرنسية التي عمدت للمرة الأولى إلى بث ما تملكه من تقديرات للنتائج الأولى على موقعها في الساعة السادسة أي قبل ساعتين من الموعد الرسمي. وجاء في الخبر «الطارئ» أن فرنسوا هولاند حقق تقدما واسعا (28 -29 في المائة) على ساركوزي (25 - 26 في المائة).

وخيرت الوكالة زبائنها بأنه يعود إليهم نشر التقديرات أو الامتناع عن نشرها. والغريب في الأمر أن الوكالة رسمية وتمولها الدولة الفرنسية التي لها مقعد في مجلس إدارتها.

وأول من أمس، أعلنت النيابة العامة في باريس أنها فتحت تحقيقا يستهدف وكالة الصحافة الفرنسية وصحيفتين بلجيكيتين ووسيلة إعلامية سويسرية وموقع إنترنت قائما في نيوزيلندا وصحافيا بلجيكيا. وردا على الحجة القائلة إن وسائل الإعلام الأجنبية مهما يكن نوعها لا تخضع للقوانين الفرنسية إذا كانت قائمة خارج الحدود، قالت لجنة الإشراف على استطلاعات الرأي إن الوسيلة الإعلامية تعد مخطئة كل مرة يقوم شخص موجود على الأراضي الفرنسية بها بالاطلاع على ما تنشره. لكن قانونيين أكدوا أن القوانين الأوروبية «تضمن» حرية الإعلام وبالتالي يمكن اللجوء إليها في حال الملاحقة القضائية.

وانقسم المرشحون حول هذه المسألة. وفيما أعلن ساركوزي أنه من الوهم «بناء خط ماجينو جديد» أو إقامة «حدود رقمية». وبالعكس، فقد رأى منافسه الاشتراكي فرنسوا هولاند أنه يتعين الالتزام بنص القوانين.

ويعترف القانونيون أنه حان الوقت لإعادة النظر في هذا القانون بسبب تطور وسائل الاتصال. ويشير غالبيتهم إلى التجربة الأميركية حيث يستمر الناخبون في الذهاب إلى صناديق الاقتراع في الولايات الواقعة في الغرب الأميركي بينما نتائج الولايات المطلة على الأطلسي تكون قد عرفت.

والمشكلة أن هذا الجدل لا يطفو على سطح الأحداث إلا مع الانتخابات وبعدها يقع في النسيان. ولا شك أن مؤسسات الرقابة والنيابة العامة ستكون معبأة يوم الأحد في السادس من مايو (أيار) لحرمان الفرنسيين من التعرف مبكرا على هوية رئيسهم الجديد (أو القديم) وأن هؤلاء سيعمدون، كما فعلوا الأحد الماضي، إلى الالتفاف على القانون بزيارة وسائل إعلام الجيران أو الأسهل من ذلك، متابعة ما تبثه وكالة الصحافة الفرنسية.