الانتخابات المصرية تسلط الضوء على فن إدارة المناظرات السياسية

غياب المعلومات التي تساعد الناخب على اتخاذ قراره في التصويت أبرز السلبيات

منقبة تدلي بصوتها لانتخاب الرئيس المصري الجديد في أول انتخابات رئاسية بعد الاطاحة بالرئيس السابق (إ.ب.أ)
TT

المناظرات بين مرشحي الرئاسة المصريين التي تم بثها تلفزيونيا أثارت انتباه وتعليقات قطاعات واسعة من المشاركين والساسة والمراقبين، بوصفها ظاهرة غير مسبوقة في مصر وأفريقيا والبلدان العربية.

الظاهرة نفسها كانت جديدة على بريطانيا حيث وجدت صحافتها المتلفزة نفسها في عام 2010 مثل نظيرتها المصرية في 2012 من حيث تناولها مناظرة بين زعيمين بالنمط الرئاسي الأميركي؛ وهو تقليد لم تعرفه بريطانيا رغم وجوده في أميركا منذ قرابة أربعة عقود.

فلماذا لم تلق المناظرات في بريطانيا الانتقادات نفسها التي تلقتها مناظرات مصر؟ ولماذا اعتبر المراقبون مناظرات بريطانيا ناجحة ومناظرات مصر غير ناجحة (مهنيا لا شعبيا أو بوصفها ظاهرة تاريخية) رغم أن البلدين شهدا الظاهرة للمرة الأولى في تاريخيهما؟

لعل أهم الأسباب ما غاب عن مناظرات مصر من معلومات تساعد الناخب على اتخاذ قراره بالتصويت لمرشح استنتج أن برنامجه هو الأقرب لتوفير الخدمات، أو آخر سيؤدي برنامجه لخلق وظائف، أو ثالث يحتمل نجاحه في تخفيض الضرائب.. وهو ما ذكره كثير من المنتقدين.

طبعا هناك مسافة كبيرة بين مفهوم الصحافة في مجتمعات اقتصادات السوق التجارية الحرة لدى مقدمي برامج المناظرات ومعديها في بريطانيا ونظرائهم المصريين. استفساراتي أشارت إلى افتقاد البرامج المصرية لفريق باحثين متخصصين في التاريخ المهني وممارسات المرشحين بسبب عدم اهتمام المشرفين على البرنامج بإعداد هذه الفريق وتدريبه أصلا.

في برامج بريطانيا، كان هناك فريق كبير ضم العشرات لإعداد ملف متكامل عن المواقف السياسية السابقة والحالية لكل مرشح ورؤيته الاقتصادية للمستقبل، وتزويد مقدمي البرامج بها. وبينما اقتصرت المناظرات المصرية على الشعارات، اشتملت المناظرات البريطانية على حقائق وأرقام وتفاصيل رغم عدم ملائمة الصحافة اللحظية (التلفزيون والإذاعة) لخصوصية الديمقراطية البريطانية. فهي ديمقراطية مباشرة؛ برلمانية عريقة قوامها مرشح الدائرة حيث الصحافة المحلية في القرية لها دور يفوق تأثير الصحافة القومية، والذي يحدد رئيس الحكومة هو مجموع الدوائر التي يفوز فيها الحزب وتترجم لأغلبية مقاعد برلمانية. أما النظام الرئاسي، فتلعب فيه الشعارات الغوغائية دورا أكبر، ولذا يعرف بالديمقراطية غير المباشرة، أو غير الناضجة. لكن تدريب الصحافي البريطاني يشمل سرعة التأقلم وتعلم المحيط الجديد عندما يجد نفسه أمام ظاهرة لم يختبرها أو غير مسبوقة. ولذا طورت الصحافة البريطانية أسلوب الموضة الجديدة التي جاءت من أميركا ودخل فيها زعماء الأحزاب الكبرى في مناظرة تشبه الرئاسة الأميركية في بلد يسخر معلقوه ومؤرخوه من النظام الرئاسي أصلا بوصفه ظاهرة معبرة عن ديمقراطية غير ناضجة.

وكانت نتيجة المناظرات التلفزيونية صعودا مفاجئا في شعبية زعيم حزب الأحرار بنحو 27 في المائة (تراوحت شعبية الحزب دائما بين 12 و15 في المائة).. برلمان معلق.

تقليديا، الإذاعة والتلفزيون في موسم الانتخابات تتبع تقليد إتاحة وقت متساو لجميع الأحزاب؛ حيث تخصص كل محطة تلفزيون أو إذاعة، سواء «بي بي سي» المدعومة من مساهمة كل بيت برخصة تلفزيون، أو التجارية الخاصة، مدة 10 دقائق لكل حزب لعرض برنامجه الانتخابي دون مقاطعة أو معارضة.

ولأن المناظرات التلفزيونية مسألة جديدة على بريطانيا، فقد ابتكر معدو البرامج قواعد جديدة للالتزام بها، اقتباسا من البرامج الأسبوعية للحوار السياسي، وهي برامج مستمرة سواء كانت هناك انتخابات أم لا، وتشمل حوارا بين ممثلي الأحزاب والجمهور ومتخصصين في قضايا تناولتها الصحافة.

عندما ظهرت موضة المناظرة التلفزيونية، لم تكن بين متنافسين؛ بل شارك فيها زعماء الأحزاب الثلاثة؛ «العمال»، وكان وقتها زعيمه هو رئيس الوزارة، وزعيم حزب المحافظين الذي تسميه الصحافة «زعيم معارضة جلالة الملكة»، وزعيم حزب الديمقراطيين الأحرار الأصغر شأنا. ابتكر معدو سلسلة برامج المناظرات من شبكة «سكاي» التجارية (لم تتحمس لها «بي بي سي» المدعومة مباشرة من الشعب في البداية) لائحة إرشادية ارتجالية اهتدوا فيها بتقاليد عقود من برامج الأسئلة الحوارية.

إلى جانب بديهية توجيه مقدم البرنامج (وهو المحرر السياسي للشبكة) إلى العدل في إتاحة الوقت لكل مشارك، فإن معد البرنامج كلف فريق الباحثين بإعداد ملف عن كل ما صرح به كل زعيم منذ بدأ اشتغاله بالعمل السياسي بغرض البحث في تاريخه عن تناقضات. كما شمل الملف أيضا أداء حزب كل واحد منهم عندما كان في الحكم، مع إعداد ملف كامل عن مناقشات نواب الحزب في البرلمان في كل القضايا التي تهم الناخب. باختصار، كان بين يدي فريق الباحثين في برنامج المناظرة السياسية معلومات وأرقام كاملة عن كل شؤون الحياة والميزانية ومصادر تمويلها إلى جانب التاريخ السياسي المهني للمتناظرين.

شكل المناظرة بدأ بمنح فرصة خمس دقائق لكل زعيم لطرح برنامجه، ثم تعليق الآخرين عليه، ومناظرة مفتوحة بين الثلاثة يديرها مقدم البرنامج. ولمعلومات القارئ، فإن المحررين السياسيين لأي صحيفة أو محطة تلفزيون مقر عملهم الدائم هو مبنى البرلمان حيث مكاتب دائمة للصحافيين. أي إن المحرر السياسي على علم تام بدائرة العمل السياسي لكل حزب والعمل غير المعلن لنوابه وما يعدونه من مشاريع قوانين.. أسئلة من الجمهور شهدتها برامج المناظرات الثانية والثالثة.

وبينما اقتصرت المناظرات المصرية على الشعارات، اشتملت المناظرات البريطانية على حقائق وأرقام وتفاصيل. السبب تدخل مقدم البرنامج ومقاطعته المرشح الذي يبالغ أو يعد بما لا يمكن تحقيقيه. عبارات مثل: «أرقام الميزانية التي قدمها حزبك لا يمكن أن تستقيم مع وعدك بتخفيض الضرائب بنسبة اثنين في المائة»، وهو ما غاب عن المناظرات المصرية.

مقدمو البرامج في مصر لم يسألوا المرشح الذي يعد بإصلاح التعليم عن مصدر التمويل، ولم يناقشوا آخر عن موقفه من مكافحة الإرهاب خاصة بعد أن شاهد الملايين فيديو على «يوتيوب» وهو يبرر إرهاب تنظيم القاعدة. ولم يناقش مقدمو البرامج مرشحا يعلن التزامه بالديمقراطية وأهداف الثورة بينما يوجد في الأرشيف ما يثبت بالصوت والصورة دعمه وتأييده صدام حسين وهو ينكل بشعبه.

الصحافة المصرية بدأت التقليد غير المسبوق في أفريقيا والشرق الأوسط، ومن المتوقع أن تتبعها البلدان السائرة نحو الديمقراطية مثل ليبيا واليمن، وسوريا بعد سقوط بشار الأسد، وما يتبعها من بلدان أخرى. ولكي تكون المناظرات مفيدة حقيقة لمتفرجين تنتشر بينهم الأمية أو لا يهتمون بالقراءة، وبدلا من أن تصبح ظاهرة صوتية أخرى ونموذجا آخر من صياح مرشح في اتجاه معاكس للمناظر الآخر، فلا بد أن يضعوا قواعد جديدة؛ أهمها البحث وتوفير المعلومات لمقدم برنامج لبق متيقظ يتحدى ادعاءات المرشحين ويبين التناقضات بين الادعاء والواقع.