صحف أميركية شهيرة تقلل عدد أيام الصدور وتستغني عن بعض موظفيها

لمواجهة ارتفاع التكاليف في ظل تراجع توزيعها بنسب كبيرة

انخفض توزيع صحيفة «تايمز بيكايون» من 261 ألف نسخة قبل إعصار كاترينا في عام 2005 إلى 132 ألفا هذا العام (نيويورك تايمز)
TT

انحنى ظهر صحيفة «تايمز بيكايون» الشهيرة، التي تصدر في مدينة نيو أورليانز الأميركية منذ 175 عاما، وتعد رمزا لصمود المدينة الباسل أمام إعصار كاترينا وآثاره المدمرة، تحت وطأة الضغوط التي تتعرض لها في سوق الصحف الحديثة. فقد أعلنت شركة «أدفانس بابليكيشنز»، التي تمتلكها عائلة نيوهاوس، الخميس الماضي أنها ستقصر الإصدار الورقي من الصحيفة على ثلاثة أيام فقط في الأسبوع، كما ستخفض عدد العاملين بها في محاولة لتقليل النفقات، إضافة إلى تحويل اهتمامها نحو التوسع في التغطية على الإنترنت.

وبهذا القرار، تصبح مدينة نيو أورليانز أبرز المدن الأميركية التي ليست لها صحيفة مطبوعة تصدر يوميا، لكنه يعكس أيضا تراجع بريق الصحيفة كمنتج مطبوع، حيث كان توزيع الصحيفة في عام 2005، قبل إعصار كاترينا، يبلغ 261 ألف نسخة يوميا، بينما بلغ التوزيع في مارس (آذار) من العام الحالي 132 ألف نسخة.

وتعد هذه التطورات أحدث إجراء إعادة تنظيم يتم اتخاذه، في صناعة تشهد تغييرات سريعة، وما زالت تجاهد في ظل تراجع إيرادات الإعلانات وإقبال القراء على المنافذ الإخبارية الموجودة على الإنترنت. وقد أظهرت البيانات التي أعلنها «مكتب متابعة توزيع الصحف» في الولايات المتحدة أن الصحف التي توزع 25 ألف نسخة أو أكثر شهدت تراجعا بنسبة 21 في المائة في حجم توزيعها ما بين عامي 2007 و2012.

ولمواجهة ذلك، قامت الصحف بخفض التكاليف وتقليص عدد الموظفين وتقليل مساحة التغطية، بل وجرب بعضها تقليل عدد الأيام التي تطبع فيها، مثل صحيفة «آن آربور نيوز» التي تصدر في ميتشغان، والتي يمتلكها آل نيوهاوس أيضا، حيث قررت الصحيفة في عام 2009 قصر صدورها على يومي الخميس والأحد فقط، واستعانت بجزء من موظفيها السابقين لتشغيل موقعها الإلكتروني «AnnArbor.com». كما أصبحت صحيفة «ديترويت نيوز»، بداية من عام 2010، توصل النسخ إلى المشتركين يومي الخميس والجمعة فقط، وإن كانت مستمرة في الطبع بشكل يومي.

ويقول المسؤولون في شركة «أدفانس» إن الصحيفة وموقعها الإلكتروني «NOLA.com» سوف تعاد هيكلتهما في شركة جديدة، باسم «إن أو إل إيه ميديا غروب»، كوسيلة للتكيف مع الطرق الجديدة التي يتم بها بث الأخبار وتناولها، في عصر يتجه رويدا رويدا نحو الصحافة الرقمية. وتم توزيع منشور داخلي على الموظفين يخبرهم بنية الشركة الاستغناء عن بعض أفراد هيئة التحرير، لكنه لم يحدد العدد.

ويقول كين دكتور، خبير استشاري في مجال الصحف «هذا زحف إجباري نحو الصحافة الرقمية، يفرضه تراجع الإعلانات هذا العام بدرجة أكبر بكثير مما كان متوقعا في هذه الصناعة. والجميع يعلمون أن الإصدارات المطبوعة سوف تلقى نفس مصير المحرك البخاري، لكنني أتشكك في ما إذا كان لديهم الاستعداد للقيام بهذه النقلة بمثل هذه العجلة».

وبعد تجربة خفض عدد مرات الصدور في صحيفة «آن آربور» وسلسلة من الصحف اليومية الصغيرة في ولاية ميتشغان، قررت الشركة أن هذا هو الطريق الأفضل، وربما الوحيد، لضمان استمرارية صحيفتها في مدينة نيو أورليانز على المدى البعيد. وبداية من الخريف القادم، سوف تصدر صحيفة «تايمز بيكايون» إصدارات ورقية أيام الأربعاء والجمعة والأحد. ويوضح ريكي ماتيوس، الذي أصبح رئيس «إن أو إل إيه ميديا غروب»، أن من أسباب اختيار هذه الأيام بالذات أنها الأعلى قيمة بالنسبة للمعلنين.

وقد صرح ستيفن نيوهاوس، رئيس موقع «Advance.net»، الذراع الإلكترونية التجارية لشركة «أدفانس بابليكيشنز»، في مقابلة هاتفية «لم نجر هذه التغييرات بدافع اليأس - فنحن نتمتع بنشاط قوي للغاية في مدينة نيو أورليانز - لكننا نواجه تحديات هائلة في ما يتعلق بالإيرادات، وكذلك بدورة الأخبار على مدار 24 ساعة. كان لا بد أن نضع خطة على المدى البعيد، وألا نجلس ساكنين وسط دوامة من الخسائر والتخفيضات».

وعقب ساعات من التغييرات التي أجرتها صحيفة «تايمز بيكايون»، تم إعلان مبادرة مماثلة من الصحف التي يملكها آل نيوهاوس في ولاية ألاباما - وهي صحف «برمنغهام نيوز» و«برس ريجستر أوف موبايل» و«هانتسفيل تايمز» - حيث لن تطبع هي الأخرى سوى ثلاثة أيام في الأسبوع، كما ستخفض عدد الموظفين بها.

ومن المؤكد أن عملية إعادة الهيكلة التي شهدتها صحيفة «تايمز بيكايون» سوف تغير من العلاقة التقليدية الحميمة التي كانت تربط أبناء مدينة نيو أورليانز بصحيفتهم - التي كانت، رغم تراجع التوزيع، جزءا ثابتا من أي مقهى أو صالون حلاقة (حيث كانت تتمتع بنسبة انتشار تبلغ 75.5 في المائة في مدينة يتراوح عدد سكانها حول 340 ألف نسمة).

ولم يرتبط شيء بالمدينة وبالصحيفة أكثر من فاجعة كاترينا، حين هبت عاصفة مدمرة في عام 2005 وتسببت في قطع الاتصالات عن جميع أنحاء نيو أورليانز لبضعة أيام، ولم تتمكن صحيفة «تايمز بيكايون» من نشر إصدارات مطبوعة لمدة ثلاثة أيام، لجأت خلالها إلى النشر على الإنترنت، حيث قامت بدور الرسول وناقل المعلومات الموثوق به في فترة فوضى ومحنة. وتقديرا لما قام به موظفوها من عمل، تم منحهم «جائزتي بوليتزر» في عام 2006 في الخدمة العامة وتغطية الأخبار العاجلة.

ويوم الخميس الماضي، انتشر بين الأهالي في جميع أنحاء المدينة سؤال عما إذا كانت الصحيفة قادرة على الاحتفاظ بدورها الرقابي في منطقة لطالما تطلبت فيها أمور الحكم والإدارة رقابة مشددة ومتابعة محكمة. لكن حتى الساسة أعلنوا دعمهم لصحيفة استمرت في تقديم تقارير إخبارية طموحة ومتعمقة، حيث قال العمدة ميتش لاندريو، وهو نفسه كان يعمل بائعا للصحف في صغره «أتوقع أن تكون هناك محاولات ضارية وشديدة للغاية من أجل إشعار الملاك بمدى أهمية هذه الصحيفة بالنسبة لمدينة نيو أورليانز».

ومساء يوم الخميس الماضي، تجمع عدد من زعماء المجتمع المدني وعالم المال والأعمال في منزل آن ميلينغ، العضو في مجلس إدارة الصحيفة والناشطة في شؤون المواطنين، لدراسة خيارات مثل محاولة إقناع نيوهاوس بإعادة النظر أو بتكوين فريق من المستثمرين لشراء الصحيفة بالكامل.

لكن نيوهاوس رد بأن الصحيفة ليست للبيع، مؤكدا «نحن متفائلون جدا بالنسبة لمستقبلنا في نيو أورليانز». وهو يتوقع، من خلال تقديم منتجات ورقية أفضل ثلاثة أيام في الأسبوع، أن يحافظ على قدرة فريق التحرير على تقديم خدمة صحافية عالية الجودة، مع الاستعانة بالإنترنت من أجل المنافسة وسط التغير الذي تشهده دورة الأخبار.

وقد أخذت مدينة نيو أورليانز في التعافي بصورة مطردة، وإن كانت غير متكافئة، من السيول التي أعقبت إعصار كاترينا، كما تمكنت، بفضل مليارات الدولارات التي قدمتها السلطات الفيدرالية إلى المدينة كي تنهض على قدميها مجددا، من تحمل الأزمة المالية بصورة أفضل من مناطق أخرى كثيرة. إلا أن المدينة أصبحت أصغر حجما مما كانت عليه قبل 7 سنوات.

وتفسر جانيت سبيرر، أستاذة الاقتصاد في جامعة نيو أورليانز، ذلك قائلة «الحقيقة أنه أصبح لدينا عدد أقل من السكان ومن الأسر». وسوف يستمر المحرر جيم أموس مع الشركة بصفته نائب الرئيس لشؤون المحتوى، وقد اعتاد أموس دوما على الاجتماع مع الموظفين بصورة دورية. وهو يقول «لا بد أن تخف صدمة ذلك الخبر، وسوف يتطلب الأمر بعض الحديث والتفكير بشأنه، فمن الصعب أن يتقبل ذهنك هذا الخبر وأن تتعايش معه. إنهم صحافيون موهوبون، وهم يدركون التوجهات السائدة في المجال، فأنا لا أخبرهم بشيء غريب بالنسبة لهم».

وقد كان المراسلون متحمسين لسماع ما سيقوله أموس، لكنهم تعجبوا لماذا أصبحت صحيفتهم فجأة مثل الأرنب الرومي، الأكبر حتى الآن، في التحول إلى الصحافة الرقمية.

وطبقا لتقرير صدر عن «مؤسسة كيسر» عام 2010، فإن 36 في المائة من أهالي مدينة نيو أورليانز ما زالوا لا يملكون اتصالا بالإنترنت في منازلهم. ويقول أحد المراسلين «دائما ما يطلب مرؤوسيّ وأيضا جيراني نسخة مطبوعة من أعمالي». ويضيف «من مفاتن نيو أورليانز أننا متأخرون 10 سنوات في كل شيء، وهذا يشمل شبكة الويب».

* أجرى الحوارات: كامبل روبرتسون

* خدمة «نيويورك تايمز»