بعد 40 عاما من فضيحة «ووترغيت».. الصحافة الاستقصائية في خطر

بطلا القصة تعرضا للتشكيك من قبل وسائل الإعلام الإخبارية وتعرضا لانتقادات كبيرة من إدارة نيكسون

بوب وودوورد وكارل برينستين بعد أول مقالاتهما عن اقتحام مقر اللجنة الوطنية الديمقراطية في مبنى ووترغيت بالعاصمة واشنطن (واشنطن بوست)
TT

لم تكن فضيحة «ووترغيت» بداية مولد الصحافة الاستقصائية في الولايات المتحدة، لكن هذا الفرع من الصحافة ضرب بجذوره في الصحافة الأميركية، ولا يزال ينتشر بشكل مضطرد حول العالم بسبب «ووترغيت».

لكن الصحافة الاستقصائية تدخل في الوقت الراهن، بعد 40 عاما من كتابة بوب وودوورد وكارل برينستين أول مقالاتهما عن اقتحام مقر اللجنة الوطنية الديمقراطية في مبنى «ووترغيت» في العاصمة واشنطن، منعطفا خطيرا نتيجة إعادة الهيكلة الرقمية الفوضوية للصحافة في الولايات المتحدة، وتحول الصحافة الاستقصائية التي تستخدم الموارد بكثافة إلى عبء على الصحف التي تعاني من انخفاض نسبة توزيعها والتي تجاهد لاستعادة مكانتها السابقة والنجاة من المأزق الذي تعيشه حاليا. في الوقت ذاته، تعاني المؤسسات غير الربحية الساعية إلى ملء هذه الفجوة من هشاشة مالية، والشكوك حول قدرتها على الاستمرار.

وقد شهدت الصحافة الاستقصائية على مدى تاريخها حالات من المد والجزر، تطورت من حقبة موزعي النشرات الثورية الذين تعرضوا لاعتداءات من قبل البريطانيين والآباء المؤسسين، إلى كاشفي الفضائح في بداية القرن العشرين، الذين كانت صحفهم ومجلاتهم وكتبهم تقوم بفضح عمليات الاحتكار التي تقوم بها بعض الشركات والفساد الحكومي، وساعدها في ذلك قانون خرق الثقة الذي أقره تيدي روزفلت وإنشاء إدارة الغذاء والدواء الأميركية والانتخاب الشعبي لمجلس الشيوخ.

دخلت الصحافة الاستقصائية فترة سبات خلال الحرب العالمية الثانية، والكساد العظيم، وقمع المعارضين في حقبة مكارثي.. لكنها عاودت الظهور مرة أخرى في بداية الستينات، وسط الغضب العام بشأن الحقوق المدنية والانشقاق الثقافي والحركات المعارضة لحرب فيتنام.

وقد كنت أحد أفراد مجموعة صغيرة، لكنها آخذة في التزايد، من الصحافيين الاستقصائيين في الصحف الأميركية في ذلك الوقت. وقد لعبت السلسلة التي نشرتها عام 1966 في صحيفة «واشنطن بوست» بشأن القضاة غير الأكفاء، والمحامين الجشعين، وأحياء الفقراء في العاصمة، ومحكمة الجلسات العامة، دورا في إلغاء واستبدال المحكمة العليا في واشنطن العاصمة.

أنشأ مجلس إدارة جائزة «بوليتزر» جائزة سنوية للتحقيقات الاستقصائية عام 1964. وبسطت الشبكات التلفزيونية الثلاث في تلك الحقبة نشراتها المسائية من 15 إلى 30 دقيقة بدءا من عام 1963 وبدأت في إذاعة الأفلام الوثائقية الاستقصائية في فترة الذروة. وجعل قرار المحكمة العليا الذي أصدرته عام 1964 لصالح «نيويورك تايمز» ضد «سوليفان» من الصعوبة بمكان على الموظفين العموميين الذين يتعرضون لانتقادات مقاضاة الصحف بسبب التشهير، وساعد قانون حرية المعلومات، الذي أقره الكونغرس في عام 1966، الصحافيين على الوصول بسهولة إلى المعلومات الضرورية.

وعلى مدى عدة أشهر من حادثة السطو التي تعرض لها «ووترغيت» عام 1972، كان وودوورد وبرينستين وزملاؤهما من العاملين في الصحافة المحلية في «واشنطن بوست» الوحيدين الذين تعرضوا لهذه القضية. وقد تعرضنا للتجاهل والتشكيك من قبل وسائل الإعلام الإخبارية الأخرى وغالبية الشعب الأميركي، وتعرضنا لانتقادات كبيرة من إدارة نيكسون ومؤيديها. كانت تلك فترة من التوتر بالنسبة لنا نحن العاملين مع بوب وكارل، بشأن مصداقيتنا وكان مستقبل الصحف على المحك.. كنا قلقين بشأن كل كلمة ننشرها في الصحف.

في النهاية، بدأت صحيفتا «لوس أنجليس تايمز» و«نيويورك تايمز»، وقناة «سي بي إس نيوز»، قبل نهاية العام، الدخول في منافسة كانت موضع ترحيب، فقبل أحد عشر يوما من قرار الرئيس ريتشارد نيكسون في نوفمبر (تشرين الثاني) عام 1972، خصص والتر كرونكيت 15 دقيقة من برنامجه «سي بي إس إيفنينغ نيوز»، في واقعة غير مسبوقة، للحديث عن «ووترغيت»، عارضا فيها ما نشرته صحيفة «بوست». ووصف قضية «ووترغيت»، بأنها حملة تخريب وتجسس سياسي رفيع المستوى غير مسبوقة في التاريخ الأميركي.

ومع استقالة نيكسون عام 1974، لعب قاض فيدرالي ومحققون فيدراليون وممثلو الادعاء العام والكونغرس أدوارا مهمة في مثوله وإدارته في البيت الأبيض للمحاسبة على جرائم «ووترغيت». لكن، حتى بعد عقود من انتقادات الآخرين للتفاصيل والألغاز ومعاني «ووترغيت»، لا يزال دور وودوورد وبرينستين جوهريا في القضية.

وقد كان لما نشروه من قصص «ووترغيت» و«كل رجال الرئيس» (الكتاب والفيلم) تأثير دائم، في مجال الصحافة. ودخلت أجيال من شباب الصحافيين، مستلهمين «ووترغيت»، المهنة طمعا في أن يدخلوا مجال الصحافة الاستقصائية. وشكلت الصحف والشبكات والقنوات التلفزيونية فرقا استقصائية وعرضت عملها. ونشرت المجلات الوطنية تحقيقات استقصائية طويلة. وعرضت البرامج الإخبارية التلفزيونية يقودها في ذلك برنامج «60 دقيقة» تحقيقاتها الاستقصائية التي شاركت فيها على مدى سنوات.

وبالعودة إلى نمط الفضائح الأصلي، توسع الصحافيون، بمن في ذلك وودوورد، في الكتابة وانتقلوا إلى إصدار كتب استقصائية لقضايا؛ تنوعت من الأخطار البيئية، إلى مخالفات «وول ستريت»، وحروب الولايات المتحدة؛ من فيتنام إلى العراق.

وفي فترة لاحقة انضم المواطنون الصحافيون إلى المجال عبر شبكة الإنترنت والشبكات الاجتماعية الأخرى مثل المدونات وإسهامات الجماهير والتغريدات التي تصبح في بعض الأوقات الطرف الرائد في القصة الاستقصائية التالية.

وقد شملت الصحافة الاستقصائية كل جوانب المجتمع الأميركي؛ بدءا من السياسات الحكومية، إلى التجارة، والتمويل، إلى التعليم، والرفاهية الاجتماعية، والثقافة والرياضات.. وحصلت على نصيب الأسد من الجوائز الصحافية كل عام. وبغض النظر عن مدى عدم الشعبية التي يمكن أن تحظى بها وسائل الإعلام في بعض الأوقات، كانت هناك توقعات، منذ فضيحة «ووترغيت»، بأن الصحافة ستخضع لمحاسبة الأفراد ذوي النفوذ والتأثير. وكما كتب جون مارشال العام الماضي في «إرث ووترغيت والصحافة»، فإن «(ووترغيت) شكلت الطريقة التي يمكن من خلالها فهم الصحافة الاستقصائية وكيفية ممارستها وكيفية رد المسؤولين السياسيين والعامين على الصحافيين».

لم تكن الوسائل التي انتهجها وودوورد وبرينستين مبتكرة، لكن نشر كتاب «كل رجال الرئيس» جعلهما شخصيتين محوريتين في الصحافة الاستقصائية، وتحولا إلى خبيرين في هذا المجال، فكانا يقومان بزيارات للحديث إلى المصادر بشكل شخصي، وحماية سرية المصادر عند الضرورة، وعدم الاعتماد على المصادر الأحادية، ومحاولة الحصول على الوثائق ومتابعة المال وترتيب المعلومات التي تم الحصول عليها بشق الأنفس بعضها مع بعض حتى تكتمل أركان القضية. وقبل عدة سنوات، استخدمت دانا بريست من صحيفة «واشنطن بوست» طرقا مماثلة للكشف عن سجون وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية السرية في الخارج والتي يتم فيها استجواب المشتبه فيهم بالتورط في أعمال إرهابية وعنف.

لقد أحدثت «ووترغيت» تحولا لدى بعض الصحافيين الاستقصائيين وعلى رأسهم وودوورد، وجعلت منهم أسماء لامعة، حيث ظهروا على شاشات التلفاز وفازوا بعقود كتب ومجلات مربحة وبدأوا يحصلون على المال مقابل خطاباتهم. وأخذ كثيرون يندفعون لفترة من الزمن بحثا عن فضيحة «ووترغيت» أخرى، وارتكبوا أخطاء واضحة وكانوا يضيفون مقطع «غيت» إلى كل فضيحة جديدة تقريبا مهما بلغت تفاهتها. وكانت الحكومات والمسؤولون في الدولة والمؤسسات والمسؤولون التنفيذيون والمحاكم يردون بحملات علاقات عامة ودعاوى قضائية والقبض على بعض الصحافيين وتسريب تحقيقات مشكوك في مصادرها.

أصبحت التقارير الصحافية الاستقصائية أكثر تطورا بفضل أجهزة الكومبيوتر، والإنترنت والتدريب، ومصادر الصحافيين الاستقصائيين والمحررين الذين ساعدت في العثور عليهم عام 1975. واكتسبت الصحافة عمقا أكبر وباتت تقدم تفسيرات مع ما تقدمه من اكتشافات، وكذا تطرح حلولا تنويرية في بعض الأحيان جنبا إلى جنب ما تكشفه من مشكلات. وساعدت التقارير الصحافية الاستقصائية على صفحات «واشنطن بوست» في الحد من حالات إطلاق النيران من قبل الشرطة في واشنطن العاصمة، وإصلاح علاج الموظفين الحكوميين المحتاجين، وتغيير ممارسات «يونايتد واي» و«ناتشر كونسيرفانسي» و«سميثسونيان»، وكشف فساد الكونغرس، وتحسين برامج إعادة التأهيل وظروف معيشة قدامى المحاربين العاجزين في المركز الطبي «والتر ريد آرمي». ربما أكثر ما يدل على بقاء وأهمية إرث التغطية الصحافية لـ«ووترغيت» هو التساؤل عما إذا كان على الصحف أن تكشف بشراسة وسرعة عن أسباب الأزمات القومية المعاصرة أم لا. هل كان من الممكن تمحيص المنطق وراء غزو العراق والخطط العسكرية المتعلقة به بشكل أكبر مما حدث خلال فترة الاستعداد لشن الحرب؟ هل تم القيام بما يكفي لمعرفة مقامرات «وول ستريت» قبل الأزمة المالية عام 2008؟

ما زلنا نواجه أوقاتا خطيرة، مما يجعل الصحافة الاستقصائية عنصرا ضروريا لديمقراطيتنا كما كانت التغطية الإخبارية لفضيحة «ووترغيت». مع ذلك، قوض تأثير الوسائط الرقمية والتحولات الكبيرة في ما يتعلق بالمتلقي وعائدات الإعلانات، النموذج المالي الذي دعم الصحافة الاستقصائية خلال الثلث الأخير من القرن العشرين، الذي كان يعد العصر الذهبي للصحف. ويظل لهذا النوع من الصحافة أولوية في الكثير من الصحف التي تواجه مصاعب مالية، والتي لا تزال تقدم صحافة المساءلة التي يعنيها أمر مجتمعها، لكنها تعاني من نقص في العاملين والموارد. على الجانب الآخر، النصيب الأكبر للصحافة الاستقصائية يوجد في المحطات والشبكات التلفزيونية، التي تحاول جاهدة هي الأخرى الحفاظ على المشاهدين والعائدات، وتركز على قضايا تتعلق بحماية المستهلك والجرائم التي تزيد نسبة المشاهدة.

مع ذلك، هناك مؤسسات صحافية استقصائية محلية وإقليمية وقومية تتبنى نهجا مغايرا، حيث لا تهدف للربح وتعتمد على الإنترنت. وقد بدأ هذا التوجه صحافيون تركوا المحطات الإخبارية التجارية مثل «بروبابليكا» في نيويورك و«تكساس تريبيون» في أوستن و«كاليفورنيا واتش» التي لها مكاتب في أنحاء الولاية و«فويس أوف سان دييغو». وتحصل تلك المنابر على التمويل من المؤسسات الخيرية وفاعلي الخير ومتبرعين آخرين وبعض كليات الصحافة بالجامعات.

ولا يعمل في أكثر هذه المنابر سوى عدد محدود من الصحافيين، وميزانيتها محدودة، لكن حماسهم في أداء رسالتهم يذكرني بصحافيي ومحرري «واشنطن بوست» الذين لاحقوا قضية «ووترغيت» منذ أربعين عاما. لبعض هذه المنابر الصحافية تأثير كبير على المستوى المحلي والقومي. ورغم عدم تصفحها من قبل كثيرين، فإنها تمكنت من الوصول إلى عدد كبير من المشاهدين من خلال نشر موضوعاتها وتحقيقاتها في العديد من الصحف والمحطات التلفزيونية والإذاعية وكذلك عبر مواقعهم الإلكترونية. وبدأت المؤسسات الصحافية الاستقصائية التي لا تهدف للربح منذ فترة، لكن الكثير من المواقع الناشئة تصارع من أجل البقاء. ونادرا ما تهتم المؤسسات التي تقدم التمويل بمساعدة تلك المشروعات على الاستمرار.

هناك عوامل أخرى لازمة إلى جانب جمع التبرعات ورسوم العضوية. ومُنيت بعض المشروعات الناشئة في هذا المجال بالفشل، في حين اضطرت منابر أخرى إلى خفض نفقاتها وعدد العاملين بها من أجل البقاء.

ومن المؤكد أن ذكرى فضيحة «ووترغيت» سوف تكون مناسبة لنشر موضوعات عن أبطال الفضيحة، وتذكرنا بمن لا يزال بيننا حتى اليوم، والنظر مرة أخرى في ما حدث وأسبابه بعد مرور أربعين عاما. أكثر ما سيفيد الصحافة والشعب الأميركي هو أن تكون تلك الذكرى مناسبة للاعتراف بأهمية صحافة المساءلة في بلدنا الديمقراطي وضرورة ضمان بقائها وازدهارها في ظل ضجيج العصر الرقمي.

* ليونارد دوني أستاذ الصحافة بكلية الصحافة والإعلام «والتر كورنكايت» بجامعة أريزونا ونائب رئيس تحرير صحيفة «واشنطن بوست» الذي بدأ العمل بها منذ 44 عاما وشغل منصب مدير التحرير التنفيذي من عام 1991 إلى 2008

* تحدث بوب وودوورد وكارل برينستين مع شخصيات رئيسية أخرى في فضيحة «ووترغيت» بمنتدى «واشنطن بوست لايف» مساء الاثنين

* خدمة «واشنطن بوست» خاص بـ«الشرق الأوسط»