انتقادات لاذعة لتغطية التلفزيون البريطاني لاحتفالات اليوبيل الماسي

فاض «تويتر» بشلال من انتقادات الصحافيين لتغطية «بي بي سي»

انتقادات حادة لتغطية «بي بي سي» لليوبيل الماسي للملكة إليزابيث الثانية (نيويورك تايمز)
TT

تغطية شبكات التلفزيون لليوبيل الماسي للملكة إليزابيث الثانية لقي انتقادا لاذعا، خاصة الـ«بي بي سي» التي كانت تغطيتها الأسوأ في نظر العامة والمتخصصين.

فاض الـ«تويتر» بشلال من انتقادات الصحافيين لتغطية الـ«بي بي سي»، وتحول معظمهم إلى تغطية شبكة «سكاي» لمتابعة الموكب النهري الأحد 3 يونيو (حزيران) بسبب تكرار محرر البث القطع بعيدا عن لقطات موكب الملكة النهري بسفنه الألف، إلى ثرثرة المذيعين والمذيعات في الاستوديو مع ضيوف من المشاهير. الحدث غير مسبوق؛ فآخر مرة شهد النهر موكبا ملكيا كان مع الملك تشارلز الثاني في ستينات القرن السابع عشر قبل اختراع التصوير.

ولأن اليوبيل الماسي نادر التكرر، فليس هناك سابقة منذ اختراع الراديو والتلفزيون، ولا قواعد وإرشادات مكتوبة، ولذا تطلب الأمر مهارة حس صحافي.

فالخبرة والتدريب تمكن الصحافي من تطوير تعامله مع الحدث موضع التغطية. الحس الصحافي (أو الأنف الذي يشم الخبر) يعني إدراك أهميته للمتلقي شرط أن تتمكن أصابع الصحافي من جس نبض المستهلك الإعلامي.

وبجانب الفطنة والإحساس المرهف للإلمام بمشاعر الناس (التي تتغير وتتبدل) فهناك مساعدة توفرها التكنولوجيا المعاصرة، كاستطلاعات الرأي ووسائل محيطات التواصل الاجتماعي اللحظي، وأهمها الـ«تويتر» الذي يعتبر مقياسا آنيا لردود الفعل.

بديهيا أن الملايين، بخلاف المليون ونصف المليون المتجمعين حول النهر، كان همهم مشاهدة حدث غير مسبوق ولن يتكرر ربما لقرن آخر، وهو موكب السفن والقوارب وردود فعل الملكة لتحيات رعاياها، حيث تنقل الكاميرات بالعدسات المقربة تعبيرات وجهها.

فقدت «بي بي سي» معظم المشاهدين لشبكة «سكاي» التي نشرت قرابة 50 كاميرا، على كل الكباري الـ14 التي مر بها الموكب النهري، وكاميرا مع معلق مخضرم في قارب في مؤخرة الموكب، وأخرى في قارب المقدمة، وكاميرا في هليكوبتر استأجرتها الشبكة، وعددا آخر من الكاميرات المتحركة على ضفة النهر، واستوديو مؤقتا قرب كوبري لندن.

توقعات المشاهد من خدمة الشبكة تعتمد على طبيعة العلاقة بينه وبينها، علاقة تحدد الأسلوب التحريري الذي يعده فريق الإخراج مقدما، وردود الفعل قد ينجم عنها صياغة دليل إرشاد للصحافي التلفزيوني في تغطية أحداث ضخمة لم يصادفهم مثلها من قبل.

الشبكات الأجنبية كالـ«سي إن إن» الأميركية، أو «روسيا اليوم»، أو «فرنسا 24» ينقسم متفرجوها إلى نوعين، المتفرج القومي (أميركي - روسي - فرنسي) والدولي، وبالتالي اتخذت التغطية طبيعة خبرية مع شرح موجز للمتفرج غير البريطاني.

««سكاي»» شبكة بريطانية لكنها أيضا تجارية. أولويتها المتفرج البريطاني ثم الأوروبي ثم الدولي. لكنها أصبحت منافسا خطيرا للـ«بي بي سي».

متفرج «سكاي» يدفع اشتراكا شهريا اختياريا، أو يشاهدها مجانا إذا كان لديه صحن لاقط، أو جهاز الاستقبال المرئي المجاني freeview المتصل بإريال التلفزيون، وثمنه أقل من أجرة التاكسي من محطة فيكتوريا إلى مبنى صحيفة «الشرق الأوسط».

صاحب شبكة «سكاي» روبرت مردوخ يفضل النظام الجمهوري وليس الملكي، لكنه كرجل أعمال ناجح، له حس يقيس نبض المتفرج، يفصل البضاعة الصحافية على مقاس مزاج الزبون المستهلك (التي تخالف قناعاته)، والغالبية الساحقة ملكيون، السيدة المفضلة الأولى لديهم هي الملكة، فجاءت تغطية «سكاي» مفضلة ومنحازة لمزاج الجمهور الملكي، بعكس الـ«بي بي سي» التي منحت وقتا طويلا للجمهوريين لانتقاد النظام الملكي بشكل لا يناسب حجمهم الضئيل في الشارع السياسي.

طوال ساعات البث الحي لم تقطع «سكاي» اللقطات بعيدا عن الموكب الملكي النهري ولو حتى 30 ثانية لبث إعلان تجاري، على الرغم من أن المعلن كان سيدفع أي ثمن للوصول إلى ملايين المشاهدين. وهنا ضحت إدارة «سكاي» بملايين الجنيهات من دخل الإعلان، وتغلب حس الصحافيين على إرادة قسم الحسابات (وهو أمر نادر الحدوث في الصحافة في السنوات العشرين الأخيرة).

أما الـ«بي بي سي»، فهي خدمة عامة جماهيرية public service دفع المتفرج ثمنها مقدما (اشتراك كل بيت في بريطانيا ملزم بدفع رخصة تلفزيون سنوية للـ«بي بي سي» ويتعرض من لا يدفع لمخالفة، بينما اشتراك «سكاي» اختياري)، وهنا، فحسب توقعات المشاهد فإن القواعد التي تحدد نقل مناسبات عامة كاليوبيل الماسي، تختلف عن القواعد التي تعمل بها شبكات تجارية كـ«سكاي»، ولذا خيبت الـ«بي بي سي» أمل المتفرجين بإخفاقها على ثلاثة مستويات.

الخطأ الأول انتقال الصورة المبثوثة بعيدا عن بؤرة الحدث وهي النهر أثناء الاستعراض. الثاني الاستخفاف بمشاعر المتفرجين (بمنح وقت كبير لأقلية ضئيلة من الجمهوريين) وبحقوقهم وهم يدفعون رخصة التلفزيون إجباريا، بتصور أن ما يهم المذيعات والمذيعين ومعدي البرامج هو ما يهم المتفرج.

الإخفاق الثالث كان على المستوى المهني، وتخييب آمال المتفرج مما يتوقعه من خدمة عامة.

أهم قواعد التلفزيون أن الكاميرا هي امتداد للعين الإنسانية، فيجب تصويبها دائما نحو ما تنجذب إليه عين المتفرج لو تصور وجوده جغرافيا في مكان الكاميرا التي تنقل الحدث. ووفقا لهذه القاعدة، يجب أن لا يكون صوت المعلق وصفا للصورة بل مكملا لحواس أخرى بجانب البصر.

أي يتطور التعليق commentary إلى دور الراوي narration كالذي عرفته مقاهي مصر قبل الراديو. فالراوي بالربابة (آلة وترية بدائية) يعلق ويفسر أحداث الحاضر من خلال إعادة صياغة التراث وأحداث الماضي، (حسب مؤرخي الفلكلور الشعبي المصريين كان الراوي يعدل في السيرة الهلالية لتعكس أحدثا معاصرة لشخصيات كأحمد عرابي باشا في ثمانينات القرن 19 مثلا).

التلفزيون يتطلب أن يكون التعليق كالموسيقى التصويرية في مشاهد سينمائية خالية من الحوار الدرامي، أي يعكس ما يدور في ذهن المتفرج كمكمل لحاسة البصر.

الإخلال بهذه القاعدة أيضا بين نقصا فاضحا في المعلومات التاريخية للمذيعين، وتقصير الباحثين.

أضاع المذيعون والمذيعات فرصة شرح دروس مهمة من التاريخ والجغرافيا والسياسة المعاصرة للأجيال الشابة؛ فلقطات الموكب النهري كانت أمام خلفية من مبان غير بعضها مسار أحداث التاريخ، وفشل المذيعون في شرح تاريخها، ولم يشرح المذيعون الأهمية التاريخية لمشاركة عشرات من القوارب الصغيرة التي ساهمت في إخلاء آلاف الجنود البريطانيين من دنكيرك في مطلع الحرب العالمية الثانية، وأجيال الشباب لا تعرف عنها الكثير؛ كذلك قوارب من 70 دولة، منها 52 من بلدان الكومنولث، وقوارب من 17 بلدا جلالة الملكة هي رأس الدولة فيها وصورها على طوابع البريد والعملة النقدية فيها..

والدرس هنا أنه في غياب سوابق يهتدى بها تظهر قيمة التدريب على المهارات الأولية للصحافة التي تنقص جيلا كاملا من خريجي كليات ومعاهد الصحافة؛ مهارات تعلمها جيلنا صغارا «كصبيان» في ورش الصحافة، وهي يستحيل أن تعوضها التكنولوجيا الحديثة.