«فيس بوك» و«تويتر» والإنترنت تقض مضجع الكرملين

بوتين يكشف عن متابعته لأخبار استعدادات جورجيا للحرب عبر معلومات الصحافيين

فلاديمير بوتين
TT

نظرا لتعذر الوصول إلى الأوساط الاجتماعية والسياسية من خلال القنوات التلفزيونية الرسمية والمستقلة بآراء قد تصطدم مع التوجهات الرسمية للدولة، لم يجد الباحثون عن الحقيقة في روسيا سوى مواقع الـ«يوتيوب» و«الإنترنت» لتمرير احتجاجاتهم وصرخاتهم ضد ما وصفوه بـ«التقصير» من جانب الرئيس السابق ديمتري ميدفيديف وما قالوا إنه تسبب في كثير من الخسائر البشرية والمادية خلال الحرب التي اندلعت في صيف عام 2008 بين روسيا وجورجيا. من هذا المنظور، وفيما اعتبر أنه محاولة للالتفاف حول العراقيل والقوانين التي فرضها النظام في موسكو على حرية تداول المعلومات والانتقادات الموجهة للقيادة السياسية. وكشف النقاب عن كثير من القصور الذي شاب سياسات الكرملين خلال فترة ما قبل الحرب ضد جورجيا وما بعدها، لجأ «مجهولون» إلى «يوتيوب» لعرض شريط وثائقي يحمل اسم «اليوم الضائع» بمناسبة الذكرى الرابعة للحرب بين روسيا وجورجيا التي دارت رحاها في أغسطس (آب) 2008. هذا الشريط الوثائقي يميط اللثام عن كثير من الغموض في علاقات الرئيس فلاديمير بوتين ورئيس وزرائه ديمتري ميدفيديف، وعما قيل ويقال حول احتدام الصراع بينهما على عرش الكرملين، وعدم صحة كثير مما تناقلوه عنهما من تصريحات بشأن اتفاقهما السابق حول اقتسام «كعكة الحكم» في روسيا، فيما يؤكد على لسان أحد كبار معلقي صحيفة «موسكوفسكي كومسوموليتس» أن ميدفيديف أصر على «تعيينه» رئيسا للحكومة مقابل عدم خوضه الانتخابات الرئاسية لفترة ولاية ثانية. وقد ظهر «اليوم الضائع» غفلا من أسماء الشخصيات التي وقفت وراء إنتاجه وتصويره، وإن حمل اسم «تفير» - إحدى المدن الصغيرة شمال موسكو، فيما بلغت مساحته الزمنية ما يقرب من 45 دقيقة. وقد تضمن الفيلم كثيرا من التصريحات والاعترافات حول القصور الذي شاب إدارة الحرب ضد جورجيا وما وصفوه بـ«جبن وتخاذل» الرئيس السابق ديمتري ميدفيديف, الذي قال كثير من العسكريين والمشاركين في تلك الأحداث إنه «بدا ضعيفا مسلوب الإرادة» أمام اتخاذ قرار الحرب ردا على غزو جورجيا لأراضي أوسيتيا الجنوبية. وجاء إنتاج هذا الفيلم ليؤكد كثيرا مما كان تناثر من شائعات بشأن احتدام الخلافات بين قطبي السياسة الروسية بوتين وميدفيديف حول عرش الكرملين قبيل الانتخابات الرئاسية. ولذا يمكن القول إن ما ورد من تصريحات واعترافات كان أقرب إلى تسجيل المواقف وتصفية الحسابات تجاه كل من قطبي الساحة السياسية؛ بوتين وميدفيديف، من كونه فيلما وثائقيا حول أحداث الحرب الماضية.

ونستشهد في هذا الصدد بما قاله ميخائيل روستوفسكي معلق صحيفة «موسكوفسكي كومسوموليتس» الذي خلص إلى أن الفيلم كان مجرد «ديكور وخلفية» لاستعراض وجهات النظر تجاه كل من بوتين وميدفيديف. ففيما اتهمت كبار القيادات العسكرية السابقة التي خاضت تلك الحرب الرئيس السابق ميدفيديف بـ«التردد الذي يرقى لحد الجريمة» على حد قول بعضهم، رفع هؤلاء بوتين إلى مصاف الأبطال بما اتسم به من «حكمة رجل الدولة» حسب تعبير الجنرال يوري بالويفسكي رئيس الأركان السابق، الذي قال بتخاذل ميدفيديف وعدم قدرته على اتخاذ قرار الحرب، مؤكدا أنه لم يتحرك إلا بعد «زجر وتهديد» بوتين.

وكان ميدفيديف اعترف صراحة بأنه لم يصدق في البداية ما أبلغوه به من أنباء ليلة الثامن من أغسطس، وكان في إجازة يقضيها على متن سفينة في نهر الفولجا، حول تحرك القوات الجورجية في اتجاه أوسيتيا الجنوبية, وأنه طلب من وزير الدفاع معاودة التأكد من هذه الأخبار، وهو ما تسبب في ضياع الوقت وعدم الرد في حينه ما كان يمكن معه التقليل من كثير من الخسائر البشرية والمادية التي لحقت بأوسيتيا الجنوبية وقوات حفظ السلام الروسية هناك. أما بوتين، فقد كشف في معرض رده على سؤال لأحد الصحافيين تعليقا على هذا الفيلم، عن أنه كان يتابع ما يجري في المنطقة طوال أيام الخامس والسادس والسابع من أغسطس من خلال سكرتيره الصحافي الذي كان الصحافيون يبلغونه بتطورات الأحداث أولا بأول حول التحركات الجورجية والعمليات العسكرية.

وقال إنه سارع بالاتصال بكل من ميدفيديف ووزير الدفاع سيرديوكوف في السابع والثامن من أغسطس، مؤكدا أن خطة الحرب والمواجهة كانت معدة سلفا مع رئاسة الأركان منذ نهاية عام 2006، بداية عام 2007، وهو ما كان يقصده الجنرال بالويفسكي، حين أشار إلى أن القيادة العليا أي ميدفيديف، لم تتحرك إلا بعد ما نالها من «زجر ووعيد» من بكين، في إشارة إلى بوتين الذي كان في زيارة للعاصمة الصينية.

هذه التصريحات التي نشرتها الصحف الروسية نقلا عن مواقع التواصل الاجتماعي «فيس بوك» و«تويتر» و«الإنترنت» لأول مرة منذ أحداث ذلك الحين، انتشرت بسرعة انتشار النار في الهشيم، كما يقال، لتكون مادة للجدل الذي احتدم بين ممثلي الأوساط الاجتماعية والسياسية، في الوقت الذي اعتبرها فيه الكثيرون من المعلقين والمراقبين بداية مرحلة جديدة تقول ملامحها بوجود شقاق في النسق الأعلى للسلطة تعود مقدماته إلى ما قبل الانتخابات الرئاسية الأخيرة، وما كان يحتدم من صراع مكتوم حول عرش الكرملين من منظور رغبة ميدفيديف في الاستمرار لفترة ولاية ثانية، حسبما اعترف في أكثر من مناسبة.

وبهذا الصدد، قال روستوفسكي معلق صحيفة «موسكوفسكي كومسوموليتس» إن «ميدفيديف كان يأمل وحتى اللحظة الأخيرة في أنهم سيعرضون عليه الترشح لفترة ولاية ثانية».

وأشار إلى أن بوتين بوغت «بمفاجأة غير سارة تمثلت في إنذاره بأن التخلي عن منصب الرئيس لن يتم إلا مقابل الحصول على منصب رئيس الحكومة»، وهو ما تم الإعلان عنه في صورة اتفاق قال بوتين وميدفيديف إنهما توصلا إليه بالتراضي في وقت سابق، وإن لم يتوقف ميدفيديف عن الإعراب عن أمله في العودة إلى الكرملين وهو ما يعتقد الكثيرون في أنه لا يعجب بوتين. أما صحيفة «فيدوموستي» فقد نشرت تعليقا لأولجا كريشتانوفسكايا عضو أكاديمية العلوم السياسية ورئيسة «مركز دراسات الصفوة»، التي كشفت عن أن تعليمات غير معلنة كانت تحول في السابق دون نشر أي انتقادات في حق ميدفيديف، الذي قالت إنه كان يتمتع بحماية بوتين. وخلصت خبيرة الشؤون السياسية المعروفة إلى أن الفترة الراهنة تقول إن هذه الحماية تبددت بما يعني السماح بانتقاد ميدفيديف. وقالت: «إن الشقاق بين الرفيقين كان في السابق مجرد افتراض. أما الآن فقد صار واقعا ملموسا»، وهو ما اعتبرته مؤشرا نحو بدء إعداد الرأي العام لوضعية جديدة لميدفيديف. على أن ذلك وعلى الرغم من كل ما يحتمله من قدر كبير من صحة التحليل وموضوعية القراءة ليس القول الفصل. فقد كشفت صحيفة «فيدوموستي» نقلا عن مصادر قريبة من الكرملين توقعاتها حول ارتباط ظهور الفيلم الوثائقي «اليوم الضائع» بالصراع القديم الذي احتدم على خلافة بوتين في عام 2007 بين سيرجي إيفانوف نائب رئيس الحكومة السابق ورئيس ديوان الكرملين الحالي، وميدفيديف وفريقيهما. وذلك يتسق مع أبسط قواعد «لعبة التوازنات» التي برع فيها بوتين وكشف عن إجادته لها في أكثر من مناسبة، من خلال الاحتفاظ بكثير من الأضداد داخل إطار الفريق الواحد.