مشكلات إسبانيا تمتد إلى صحيفة لها تاريخ

تفادت الخسائر في خضم الصراع مع الانتقال إلى عصر النسخة الرقمية

TT

حققت صحيفة «إيل بايس» مكانة كبيرة لها في مجال الصحافة الإسبانية في نهاية السبعينات، حيث قدمت نفسها كشاهد عيان على فترة عادت فيها إسبانيا إلى الديمقراطية عقب وفاة الحاكم المستبد فرانشيسكو فرانكو. وتمر الصحيفة الآن بفترة عصيبة، حيث توقف العاملون بها عن العمل لمدة ساعتين يوم الثلاثاء، في الوقت الذي يحذر فيه قادة العمال من مدّ الإضراب بعد إعلان الإدارة عن خطط لتسريح ثلث العاملين كوسيلة لمواجهة تراجع العائدات.

وقال أحد الصحافيين، الذي رفض ذكر اسمه بسبب تسريح العمال المقبل: «إنك لا تستطيع أن تسرح ثلث العاملين بهذه السهولة. إن هذا يتناقض مع تاريخ المؤسسة، التي كان يُعرف عنها الاهتمام بالعاملين».

وتمكنت الصحيفة حتى العام الحالي من تفادي الخسائر التي عانت منها صناعة الصحافة، في خضم صراعها مع الانتقال إلى عصر النسخة الرقمية. خلال النصف الأول من العام، كان صافي الأرباح 1.8 مليون يورو أو ما يعادل 2.3 مليون دولار.

حقيقة انهيار صحيفة «إيل بايس» تكشف عمق الركود في إسبانيا، حيث صرح البنك المركزي الإسباني يوم الثلاثاء، بأن الاقتصاد انكمش بنسبة 0.4 في المائة خلال الربع الثالث من العام، هذا فضلا عن عوامل أخرى تتعلق بالصحيفة وحدها. وحذرت الإدارة من اتجاه الصحيفة نحو المزيد من الخسائر بحلول العام الحالي ما لم تخفض من إنفاقها بشكل كبير. وإضافة إلى تسريح العمال، ستخفض الصحيفة رواتب باقي العاملين بنسبة 15 في المائة.

توقفت كثير من الصحف عن الصدور في أنحاء إسبانيا منذ بداية الأزمة المالية، وخسر 8 آلاف وظائفهم بحسب اتحاد الصحافيين الفرنسيين. وتوقفت صحيفة «بابليكو» اليسارية القومية عن إصدار طبعتها الورقية واكتفت بطبعتها الرقمية فقط. وتعاني 3 صحف يمينية بارزة هي «إيل موندو» و«إيه بي سي» و«لا رازون» من ضغوط للحد من خسائرها المتصاعدة. وفي الوقت الذي خفضت فيه كل الصحف تقريبا نفقاتها، أدى ما تشهده إسبانيا من ركود إلى تراجع حاد في الإعلانات.

وتتوقع «ماغنا غلوبال»، وكالة إعلامية، انخفاض الإنفاق على الإعلانات في البلاد بنسبة 8.4 في المائة خلال العام الحالي، وهو رابع تراجع على مدى 5 سنوات، مما يؤدي إلى تراجع سوق الإعلانات الإسبانية عن مستواها عام 2007 بنسبة 37 في المائة. وصرحت وكالة «زينيث أوبتيميديا» بأن التراجع المتوقع العام الحالي هو 12.2 في المائة مقارنة بـ0.7 في المائة في أوروبا الغربية.

وليست الصحف فقط هي التي تعاني، ففي الوقت الذي لا يعاني فيه مجال الإعلانات التجارية التلفزيونية بوجه عام كثيرا، تعمد شبكة البث العامة الحكومية إلى خفض الإنفاق بمقدار 204 ملايين يورو خلال العام الحالي في إطار ميزانية قدرها 1.2 مليار يورو وتخطط لخفض آخر خلال العام المقبل.

وتقوم تلك الميزانية على منح حكومية وعائدات الإعلانات ويعاني الاثنان من ضغوط بسبب الأزمة الاقتصادية. وتثار بعض الأسئلة في هذا السياق عن مستوى السيطرة السياسية على الشبكة، التي غيرت قيادتها بأوامر من رئيس الوزراء الإسباني ماريانو راخوي. واعتذرت الشبكة خلال الشهر الماضي عن عدم الاهتمام جيدا بالتغطية الإخبارية لمؤتمر جماهيري كبير في برشلونة لدعم استقلال إقليم كاتالونيا. ودفعت الانتقادات بحق استقلال الصحافة المشاهدين والقرّاء إلى البحث عن الأخبار عبر مصادر أخرى بديلة على الإنترنت، مما زاد من تأثير الأزمة.

ويقول كارلوس باريرا، أستاذ الصحافة في جامعة نافارا: «هناك غياب كبير للثقة، ليس فقط بين السياسيين، بل أيضا في مهنة الصحافة».

وأوضح باريرا قائلا: «كان السكان يتظاهرون ضد مؤسسات مثل الصحافة»، في إشارة إلى الاحتجاجات التي قادها الشباب وأججتها مواقع التواصل الاجتماعي في مايو (أيار) عام 2011 في مدريد ومدن أخرى. وأضاف: «إنهم يرون أن التوجه العام للإعلام يدعم السياسيين والمصارف».

وفي جدال يزداد عمقا داخل صحيفة «إيل بايس»، دعا العاملون إلى استقالة رئيس التحرير خافيير مورينو، زاعمين أنه حاول منع الصحافيين بالقوة من سحب مقالاتهم احتجاجا على خفض الإنفاق. مع ذلك، أصر مورينو في مقابلة على أنه لم يطلب من العاملين سوى احترام لوائح التحرير، التي تم الاتفاق عليها عام 1980، والتي تمنع الصحافيين من حذف مقالاتهم. واتهم بعض العاملين لديه بوضع سمعة الصحيفة على المحك، من خلال نشر تعليقات مهينة على الإنترنت عن إدارة الصحيفة.

وحذر من أن يضر هذا بصحيفة «إيل بايس»، أكثر مما يضر بها الإضراب عن العمل. وقال: «الإضراب حق قانوني، لكن السماح لقضايا العمال بالإضرار بصورة الصحيفة تصرف غير مسؤول».

ويأتي خفض العمالة في الصحيفة من استمرار وضع الشركة الأم «بريسا» المتردي، حيث ترزح الشركة تحت ضغوط الديون. وتلقت الشركة الأم منذ عامين 900 مليون يورو نقدا من شركة «ليبرتي أكويزيشين هوليدنغز» الاستثمارية مقرها نيويورك، التي استحوذت على الإدارة من أفراد أسرة مؤسس «بريسا»، جيسوز دي بولانكو.

وآلت إدارة «بريسا» من الأسرة إلى مجموعة من الممولين، وصناديق التحوط، ومصارف استثمارية، لكن ظل خوان لويس سيبريان، رئيسا تنفيذيا. وأسس سيبريان الشركة مع دي بولانكو ورأس تحرير «إيل بايس»، منذ ما يزيد على عقد. تركت وفاة دي بولانكو عام 2007 سيبريان وحيدا في خضم هذه المسؤولية الكبيرة مع بداية الأزمة المالية. وتراكمت الديون على «بريسا» بعد عمليات الاستحواذ الباهظة، التي تمت في توقيتات خطأ خاصة في سوق التلفزيون الإسباني. وانخفضت أسعار أسهم «بريسا» بنسبة 90 في المائة ووصلت إلى 32.5 سنت يورو بعد أن كانت أكثر من 3 يوروات منذ أكتوبر (تشرين الأول) عام 2008، وهو ما جعل قيمة الشركة في السوق 326 مليون يورو. وبلغت قيمة الديون 3.5 مليار يورو. ورفض مورينو القول إن الهدف من شراء «إيل بايس» هو تسديد ديون «بريسا» وعدم العثور على مشترين لبعض الأصول الأخرى في مجال الإعلام والنشر. وأيا كانت مشكلات «بريسا»، يقول مورينو إنه متأكد من أن الصحيفة لن تتحول إلى صحيفة مدعومة.

وانقلب العاملون ضد سيبريان منذ الإعلان عن تسريحهم، حيث اتهموه بأنه يسير بالصحيفة إلى الهاوية. ويعد سيبريان من الذين يتقاضون أعلى رواتب في قطاع الإعلام، وقد وزّع العاملون غير الراضين ملصقات عليها صورته وتحتها عبارة «149 عاملا تم تسريحهم و13 مليون يورو» وهو المبلغ الذي يزعم الاتحاد أن سيبريان حصل عليه العام الماضي. وقال مانويل غونزاليز، رئيس اتحاد عمال «إيل بايس»: «لقد تمكن سيبريان من تدمير (بريسا) ويعمل الآن على تدمير الصحيفة الرئيسية التابعة لها، في الوقت الذي يحصل فيه على المال الوفير. إنه يعد (إيل بايس) ملكه وله أن يفعل ما يحلو له حتى وإن أكلها حية»، كما جاء في إحدى لوحات غويا. لم يرد سبيريان على طلب أرسلناه إليه بالبريد الإلكتروني للتعليق على ما جاء في هذا المقال الأسبوع الماضي. مع ذلك دافع مورينو عن سيبريان وتعجب من قدرة «إيل بايس» على تحقيق أرباح حتى هذه اللحظة، بل وانتزاع حصة من السوق من منافسيها.

وأشار إلى أن المشكلات، التي تواجهها صحيفة «إيل بايس»، هي نفسها التي تواجهها «نيوز ويك» أو «نيويورك تايمز» أو «غارديان» أو «لوموند»، مشيرا إلى ما يضاف إلى ذلك من صعوبات تعاني منها أي شركة تعمل حاليا في إسبانيا.

وأقرّ مورينو بأن القيود الاقتصادية اضطرت الصحيفة مؤخرا إلى قبول بعض رسوم التنقل والدعوات، لكن ليس إلى حد المساومة على معايير التغطية الصحافية. وقال إن خفض عدد الوظائف كان ضروريا لضمان سلامة الوضع المالي لصحيفة «إيل بايس». و«يقوم استقلال هذه الصحيفة على صلابة وثبات وضعها المالي، لذا في حال ترك الصحيفة فريسة للخسائر، سيواجه هذا الاستقلال تهديدا»، على حد قول مورينو.

* أعد هذا التقرير رافائيل مايندر من مدريد وإيريك فانر من باريس

* خدمة «نيويورك تايمز»