«رمزية الكرسي» في العالم العربي

المراقب الصحفي

TT

كم من مشاهد نمر عليها مرور الكرام ولا نلقي لها بالا، فما بالنا إن كان الأمر مجرد كرسي متهالك مرمي على قارعة الطريق؟ غير أن أعين المبدعين لا ترى الأمور بهذه الطريقة، فقد نشرت صحافية في «الشرق الأوسط» الجمعة الماضي تقريرا بعنوان «ألف كرسي وكرسي.. مشروع يوثق للمقاعد في شوارع القاهرة»، تطرقت فيه إلى محاولة مهندسة معمارية مصرية توثيق «ثقافة الجلوس»، فرصدت أشكالا متعددة من الكراسي المتهالكة وابتكارات المصريين في إصلاحها وجعلها صالحة للاستخدام في تجسيد عملي لمقولة «الحاجة أم الاختراع».

هذه المادة الصحافية، التي نشر في وسطها صورة معبرة لكرسيين متهالكين لكنهما مدمجان بطريقة إبداعية جعلت منهما كرسيا صالحا للاستخدام، إنما تسلط الضوء برمزية إعلامية ذكية على معاناة ملايين المصريين ممن يرزحون تحت وطأة خط الفقر في الوقت الذي ترمي فيه شعوب أخرى مشتريات باهظة الثمن لمجرد أنها ملت منها، في حين يعاني الإنسان المصري وغيره من الشعوب العربية من انشغال السياسيين بقضاياهم وتناحرهم ونسيان هذه الشريحة المعدمة التي يفترض أن تكون وقود أي تنمية مستدامة.

في العمل الصحافي لا تحتاج دائما أن تسمي المسميات بأسمائها، وذلك لأن الصحافي ليس كاتب رأي يصرح برأيه، ولكن دوره ينحصر في تسليط الضوء على معاناة أفراد المجتمع أو تجاوزاته أو آماله أو طموحاته، ثم ترك المجال لمتخذي القرار. فكم من تقرير صحافي أيقظ همة حكومة أو وزير أو مسؤول رفيع ودفعه نحو المسارعة إلى وضع حلول للمشكلات قبل أن تستفحل.

جميل أن يكون الموضوع الصحافي موثقا بصور عدة، ولكن هذا ما لم تفعله «الشرق الأوسط» التي اكتفت بصورة واحدة، ولو أنها نشرت أكثر من صورة لكان التقرير أكثر لفتا لأنظار القارئ العجول الذي حتما لم يتدبر عمق معاني تقرير أظهر للقراء جهود المهندسة المعمارية منار مرسي، التي نالت منحة من المركز الثقافي البريطاني في القاهرة لدراستها هذه التي ستوثقها في كتاب يصدر قريبا.

وأنا أقرأ هذا التقرير تذكرت صورة أخرى نشرتها صحيفة «الشرق الأوسط» بالصفحة الأولى لرئيس الحكومة الليبية الانتقالية المنتهية ولايته الدكتور عبد الرحيم الكيب وهو يهم بإغلاق باب سيارته، حيث قال: «إنه ليوم رائع حقا، ونحن نشهد هذا التداول السلمي للسلطة في بلادنا وبلاد الربيع العربي، بعد أن تعودنا في تاريخنا الطويل على أن لا يخرج الحاكم من الحكم إلا مقتولا أو مبعدا أو منفيا». وإبراز هذه العبارة والصورة إعلاميا هو إشارة رمزية مختلفة للكرسي، ولكن هذه المرة كان المقصود بها تشبث القيادات بالكراسي، لا سيما أولئك الذين لا يحظون بتأييد الناس وعاثوا في الأرض فسادا، لكنهم يعضون على كراسيهم بالنواجذ والأقدام. وكم من حرب كلامية وربما دموية قامت من أجل الكرسي الذي يرمز إلى معاناة الفقير والغني والحاكم والمحكوم.